السمات الفنية في شعر الفتوح الراشدي-العفوية والبساطة-
وهذا الطابع من القصر والإيجاز يسلمنا إلى طابع آخر، اتسم به شعر الفتح نتيجة لانطلاق التعبير وحدته، والقصد إلى الفكرة مباشرة، دون إسهاب، فاتسم الشعر لهذا بطابع العفوية. ولسنا نقصد بالعفوية التحلل من كل قيد، أو تقليد فني، أو نظام. كما أننا لا نعني بها خلو هذا الشعر من أية قيمة جمالية فنية، إنما نعني بها انعدام الصقل والتهذيب والمعاودة والمراجعة. وبالتالي انعدام التكلف والتقعر والتعمل. ونتج عن هذا أن شعر الفتح وبلا استثناء يتسم بالصدق والحرارة الانفعالية؛ كاستجابة نفسية حرة وطليقة من إسار العناية والصنعة. وواضح لمن يمعن في قراءة هذا الشعر أنه ثمرة خالصة للانفعالات النفسية، دون شحذ أو صقل، وأنه استجابة نفسية لما يشعر به الفرد في تدفق يناسب كانسياب الماء في المجاري الطبيعية، الخالية من الصنعة المستأنية والتدبير والتصميم السبقي. وكان ذلك أثرًا من آثار القيم الإسلامية الجديدة أيضًا تلك القيم التي تستمد من سماحة الإسلام وبساطته، وكراهة التعمل والتكلف، وهي صفات عُنِيَ الإسلام بغرسها في نفوس المسلمين عامة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد وصف بها في القرآن الكريم بأنه لم يكن من المتكلفين: { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص: 86] وعلى هدى هذه القيم، كانت الكفة الراجحة في الميزان النقدي الإسلامي لما كان جاريًا مع الطبع، بعيدًا عن التكلف، وكانت الكفة المرجوحة لكل كلام غالٍ فيه صاحبه وتكلف. فكان التقعير والتشادق عيبًا وتصنعًا. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه السجع المصنوع الذي يستوي لديه بسجع الكهان، والذي كان الكهنة يتصنعونه في حديثهم عن المغيبات؛ ليكون لكلامهم وقع لدى العامة. وكذلك كان عمر بن الخطاب ينكر الإغراب والتكلف ومخالفة الطبع ؛ وهو في الحقيقة إنكار لكل محاولة تهدف إلى التكلف والتشدق، وإعجاب بكل سمح يبتعد عن القسر والاستكراه. وكان لهذه السمة فضل إيثار الشعراء للإفهام في صورة بسيطة صادقة مطبوعة، دون زخرف أو زينة؛ ولهذا جاء شعرهم خاليًا من أية محاولة مصنوعة للتعمل، وتوافرت عناصر الصدق، وحرارة التعبير، والاقتدار على التأثير، بما لها من سماحة الطبع وجيشان العاطفة وعذوبة التعبير، دون إلحاح على تصوير بياني دقيق، أو تصيد لتشبيه، أو تعسف لاستعارة، أو استجداء لصبغ أو زخرف. وإنما بتعبيره البسيط، في صورة بسيطة، تضمن الأداء على أي وجه اتفق. إن شعر الفتح الإسلامي قد طبع بعدة طوابع فنية ميزته، استمدها من الإطار الفكري الإسلامي العام، ومن ظروف حركة الفتح الإسلامي الخاصة، التي صدر في ظلالها، ومن التقاليد الفنية الموروثة. فهو شعر ملتزم بغايات ومبادئ، يعمل في خدمتها كأداة اجتماعية وفكرية، وهو شعر قصير وموجز، تنعدم فيه الإطالة والتمهل. كما أنه شعر مطبوع، طبعته العفوية السمحة التي تتنكب التعقيد والالتواء والتقعر بطوابع من سماحة الإسلام، وصدق التعبير وحرارته. وهكذا فقد بدأ شعر الفتوح الإسلامية في عصر صدر الإسلام من خلال حركة الفتوح ذاتها، باعتبارها وعاء هذا الشعر، والدوافع القوية التي تمثلت في فكرة الجهاد، فدفعت المسلمين إلى الانسياح في الأرض ينشرون دعوة الإسلام، واثقين مما وعدوا به من النصر أو الشهادة. وأسراع المجاهدين في انطلاقهم إلى العراق، وما كان للتفكير في فتحه من صلة، بردة أهل اليمن ودسائس الفرس فيها، واكتساح المثنى بن حارثة لتخوم شبه الجزيرة مساحلًا الخليج الفارسي، إلى أن بلغ العراق واستمال بعض القبائل العربية إليه، وشجع ذلك أبا بكر على أن يفتح العراق. فمهد بفتحه بإرسال خالد بن الوليد وعياض بن غنم إليه، واستطاع خالد بن الوليد أن يجتاح العراق رافعًا لواء الإسلام في كل المواقع التي خاضها، ولم يقف في سبيل تدفعه فرس أو عرب غير مسلمين، حتى حاز سواد العراق، وضاق بإبطاء عياض الذي كان عليه أن يلقاه بالحيرة فخرج خالد للقائه وكان محاصرًا بدومة الجندل، وفتح في طريقه الأنبار، وعين التمر، واستطاع أن يهزم العرب غير المسلمين في دومة الجندل، وعاد إلى الحيرة ليجد السواد قد انتقض، فأعاده خاضعًا لسيطرة المسلمين. وتمكن من أداء فريضة الحج والعودة إلى الحيرة مع جيشه، دون أن يشعر بذلك أحد. وفي الحيرة جاءه كتاب أبي بكر ينتدبه لحرب الشام، فخلف المثنى، وفصل بنصف الجند إلى المسلمين باليرموك. وما كاد ابن الوليد يرحل عن العراق حتى ثار أهله بالمسلمين، ولكن المثنى انسحب من الحيرة إلى بابل، واستغل أزمة البلاط الفارسي ليقابل أبا بكر في المدينة، ويستأذنه في السماح لمن حسن إسلامه -من أهل الردة- بالجهاد، وتصادف أن الخليفة التحق بالرفيق الأعلى، بعد أن أوصى خلفه يندب الناس مع المثنى. وكان أول من انتدب أبو عبيد مسعود الثقفي، الذي لحق في جنده بالمثنى، حين كان أهل فارس قد قضوا على خلافاتهم، ووضعوا الأمر في رستم. فدس الدهاقين للثورة بالمسلمين، وجهز جيوشًا هزمها المسلمون في النمارق وباقسياثا، وعاود رستم الكرة فجهز جيوشًا التقت بالمسلمين في قس الناطف؛ حيث حدثت كارثة الجسر وهزم المسلمون لأول مرة في الفتوح، وفر منهم إلى المدينة عدد كبير أحسن عمر استقبالهم، وأمدهم من روحه بما أعاد لهم الثقة بأنفسهم، وراح يندب الناس جاهدًا، أو يستصلح بعض القبائل؛ كبجيلة، والأزد، وبني كنانة. بينما كان المثنى يستميل بعض نصارى بني النمر والتقى بالفرس عند أليس وانتصر عليهم وانتهت الخلافات بين رستم والفيرزان فأرسلا مهران في جند عظيم، ثأر منه المسلمون لشهداء الجسر عند البويب وما لبثت الخلافات بين رستم والفيرزان أن عادت تفرق شمل الفرس، لكن أهل فارس ثاروا عليهما ولم تهدأ الثورة حتى نصب يزدجرد، وتوحدت صفوف الفرس لمواجهة العرب في وقعة فاصلة. وكانت القادسية التي تعد ملحمة المسلمين، لما كان فيها من بلاء عظيم وفداء صادق، وانتصر المسلمون فيها بفضل إيمانهم، وتثبتت أقدامهم في العراق. وهزم المسلمون فل القادسية في بابل، ولم يبقَ أمامهم إلا المدائن فحازوها، كما حازوا قصور كسرى وأمواله وجواهره. وبدأ المسلمون يفكرون في إسقاط فارس، فتم تمصير الكوفة والبصرة بعد أن لم يتلاءم المسلمون مع جو المدائن، فأخذت الفتوحات تترى بعد ذلك؛ حيث فتح أهل الكوفة الري وأذربيجان وأرمينية وطبرستان وجرجان, وفتح أهل البصرة الأهواز وتستر ورامهرمز والسوس وجند يسابور. وبسقوط المدائن انتهت المقاومة الفارسية الرسمية للمسلمين، ولكن بقاء الملك يزدجرد حيًّا كان رمزًا يتجمع حوله الفرس من حين إلى حين، فطارده المسلمون في حلوان، وفي الري، وفي قرميسين، ثم في نهاوند حيث دارت معركة تقرر فيها مصير دولة الفرس نهائيًّا. وبعد فتح الفتوح لم يلقَ المسلمون كيدًا، فقد راحوا ينطلقون في أطراف السواد، فحازوا تكريت، وماسبذان، وقرقسيا. وعقدت ألوية المسلمين لإسقاط فارس. فاستطاع الأحنف بن قيس أن يسيطر على خراسان، وحاز عثمان بن أبي العاص أصطخر، وسارية بن زنيم فسا ودراخرد، وسهيل بن عدي كرمان، والحكم بن عمرو مكران، حتى وصلوا إلى السند. وتقدم المسلمون يطاردون يزدجرد حتى قتلوه في الري. وأمرهم عمر بألا يعبروا النهر فتوقفوا على مضض. وبهذا يكون فتح العراق وفارس قد تم في عهد أبي بكر وعمر؛ إذ اقتصر عهد عثمان على تأمين هذه الفتوح فحسب، ولم يفتح في عهده غير طبرستان، على يد سعيد بن العاص. ثم رافقت المجاهدين في فتح الشام الذي اتجه إليه أبو بكر، استكمالًا لسياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأمين التخوم العربية الشمالية. وقد اقترنت ظروف فتحه بحرب الردة أيضًا، فقد أرسل أبو بكر بخالد بن سعيد ليكون ردءًا للمسلمين في تيماء؛ حيث اجتمع إليه بعض القبائل العربية. وكان العراق قد وقع في أيدي المسلمين، وفتح الله عليهم دومة الجندل، في الوقت الذي أرسل فيه خالد بن سعيد إلى أبي بكر يستأذنه في لقاء الروم، وبعد أن استشار أبو بكر أولي الرأي من المسلمين عقد العزم على فتح الشام، فكتب إلى أهل اليمن يستنفرهم، وإلى عماله يخيرهم بين العمالة والجهاد، وأرسل إلى خالد بأن يلقى الروم، وانتصر خالد على الروم وحلفائهم من العرب. وتقدم وأبو بكر يرمي إلى الشام بكل من يقدم عليه، فسير إلى خالد عكرمة والوليد بن عقبة؛ حيث التقى المسلمون بباهان، فخدعهم عن أنفسهم في مرج الصفير، ففر خالد، وانحاز عكرمة بالمسلمين؛ حيث لحق به الوليد. ولما بلغت الهزيمة أبا بكر اهتاج للشام، فعقد ألوية أربعة لأبي عبيدة، وليزيد بن أبي سفيان، ولشرحبيل ابن حسنة، ولعمرو بن العاص. وعين لكل منهم وجهته، والتقى الأمراء الأربعة بعد أن وكل الروم بكل منهم جيشًا، وخشوا أن يلقوا الروم على انتشار، وكان رأي الخليفة أن يجتمعوا. وفي اليرموك التحق بهم خالد بن الوليد؛ حيث كان النصر في أول يوم تأمر فيه. وتقدم المسلمون يحاصرون "فحل" فلما استعصت عليهم قصدوا دمشق ففتحها الله عليهم، وعادوا ففتحوا "فحل" وسيروا كتيبة العراق بقيادة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص. كما سارت حملات لتطهير الأردن، ففتح شرحبيل وعمرو بيسان، وأبو الأعور السلمي طبرية. وصالحت أذرعات وعمان وجرش ومأرب وبصرى. وحاول الروم استعادة دمشق فقضى خالد ويزيد على محاولتهم، وانطلق أبو عبيدة يطاردهم، وحاصر بعلبك، وانتهى إلى حمص، وكان هرقل قد فر منها إلى أنطاكية، وبعد حصار طويل سلمت المدينة وسلمت حماة واللاذقية بعد ذلك. وفتح خالد قنسرين، وسلمت حلب لأبي عبيدة، وسلمت أنطاكية بعد أن فر هرقل إلى الرها، وأقام فيها حامية، بعد أن أخمد عياض ثورتها. ولكي يتصل الشام بالعراق بدد أبو عبيدة شمل عرب الجزيرة وفتح قورس، وفتح خالد مرعش، وكان يزيد قد فتح بيروت والثغور المجاورة. ويئس هرقل، فترك الرها إلى القسطنطينية؛ حيث التحق به جبلة بن الأيهم بعد أن ارتد. وبينما كان أبو عبيدة يجتاح الشام، كان عمرو وشرحبيل يواجهان الأرطبون في فلسطين؛ حيث أرسلا معاوية لفتح قيسارية، حتى لا يأتي المدد منها لأرطبون. ووجها علقمة بن حكيم ومسروقًا العكي إلى إيلياء، وأبا أيوب المالكي إلى الرملة؛ لتتبدد قوى الأرطبون بين هذه المناطق. والتقى عمرو بالأرطبون في أجنادين؛ حيث اندحر الروم وفروا إلى بيت المقدس. ورأى عمرو أن يقطع عليهم خط الرجعة من ناحية البحر، فأرسل حملات فتحت رفح، وغزة، وسبسطية، ونابلس، واللد، وعمواس، وبيت جبرين، ويافا. وحاصر عمرو بيت المقدس، وبعد استماتة المدينة في الدفاع طلبت الصلح، واشترطت حضور الخليفة، حتى يمكن للروم الانسحاب إلى مصر. ولم يعترف الروم بضياع سلطانهم على الشام، ولم ييئسوا، فحاولوا استعادتها، فرتبوا مع القبائل العربية في شمال الشام مؤامرة رافقت وصول حملة قسطنطين إلى أنطاكية، ووجد المسلمون سلطانهم على الشام مهددًا بالضياع، واهتم الخليفة عمر بالأمر، فأمد أبا عبيدة، وأفلح المسلمون في عزل العرب عن الروم، وانفردوا بهم؛ حيث لقنوهم درسًا وألجئوهم إلى الانسحاب. ولم يكد المسلمون يفرغون من الروم حتى حدث وباء الطالعون، وصادف ذلك مجاعة بشبه الجزيرة. وأضر الطاعون بالمسلمين، فراح ضحيته خمسة وعشرون ألفًا منهم. وكانت أقدام المسلمين قد ثبتت في الشام، ولكن حملة قسطنطين أكدت لهم أن بقاء مصر في يد الروم أمر لا تحمد عقباه، ومن ثم راح عمرو بن العاص يلح على عمر في الجابية بفتح مصر. وصادف فتح مصر ترددًا من الخليفة بادئ الأمر، ولكن عمرًا استطاع أن يقنع الخليفة بالمكاسب التي يمكن أن تعود على المسلمين من جراء فتحها، وبسط له أمر الخلاف المذهبي بين الحكام والمحكومين، وما يعانيه المصريون من عسف الروم، وما يرزحون تحته من أعباء الفتن والضرائب والمكوس، والاضطهاد الديني الذي يلقاه المصريون اليعاقبة من محاولة هرقل فرض مذهبه الجديد، الذي ابتكره له سرجيوس؛ للتوفيق بين الملكانية واليعقوبية، فضلًا عن الاضطهاد الاجتماعي والسياسي الذي يتعرض له المصريون؛ نتيجة للسيطرة الرومية على أمور المصريين جميعًا. وسار عمرو إلى مصر؛ حيث أدركه كتاب عمر الشهير بقرية من قرى العريش، فسار على بركة الله، واخترق رمال سيناء إلى العريش ففتحها ثم اتجه إلى الفرما فافتتحها، وكانت بمثابة مفتاح مصر. وبعد حرب دامت شهرًا استولى على بلبيس، وهزم الروم بها هزيمة بالغة. ومضى عمرو حتى أتى أم دنين، وهي قرية على النيل شمالي حصن بابليون، وتعتبر مسلحة للحصن الذي لاذ به الروم، وتجهزوا لحرب فاصلة. وحاصر عمرو أم دنين، وأرسل يتعجل المدد فوصله في الوقت المناسب؛ حيث استطاع المسلمون فتح أم دنين، ومنها استقلوا سفنًا كانت راسية بمرفئها وعبروا النيل إلى الغرب؛ حيث انتظروا في الفيوم على حنا، وعادوا سراعًا ليلتقوا بأمداد جديدة في هليوبوليس حيث عسكروا بعين شمس. وخشي الروم أن يظن بهم المصريون الخور أمام المسلمين إذا ظلوا ملازمين لبابليون فخرجوا إلى المسلمين، وأقام لهم عمرو كمينين في طريقهم عصفًا بهم. واحتل المسلمون حصن أم دنين كرة أخرى، وكان فل الروم قد لجأ إليه، وحاصر عمرو بابليون، وأرسل حامية استولت على إقليم الفيوم، وحامية أخرى استولت على إقليم المنوفية، والروم يفرون هلعًا إلى الإسكندرية. وحال ارتفاع النيل بين المسلمين والحصن، وتراشق الروم والمسلمون بالسهام والمنجنيق، ولم ييئس المسلمون بعد شهر فرأى المقوقس أن يصالحهم، ولم تجدِ المفاوضات، واقتتل الفريقان حتى ألجأ المسلمون الروم إلى الصلح، وعلق نفاذه على موافقة هرقل، ولكن هرقل رفض وعزل المقوقس وعاد القتال بين الفريقين كرة أخرى. واستمر الحصار سبعة أشهر، حتى خشي عمرو أن يضيق جنده، فوهب الزبير نفسه وتسور الحصن ففتحه الله عليهم، وانفتح الطريق أمام المسلمين إلى مصر السفلى, واستجاب القبط للمسلمين فعاونهم في تمهيد طرقهم إلى الإسكندرية، على الرغم من فيضان المياه. واستغرق مسير المسلمين إلى الإسكندرية اثنين وعشرين يومًا، اصطدم فيها المسلمون بالروم في ترنوط عند فرع رشيد، وعند الكوم وفي سنطيس، وانتصر المسلمون في هذه المصادمات. ثم التقوا مع الروم في وقعة الكريون؛ حيث اقتتلوا عشرة أيام متصلة قتالًا عنيفًا؛ إذ كانت الكريون آخر سلسلة من الحصون قبل الإسكندرية. وكانوا في الحقيقة يدافعون المسلمين عن التقدم إلى الإسكندرية، واستبسلوا في الدفاع حتى صلى عمرو صلاة الخوف ونصر الله المسلمين. وأبلت الإسكندرية في الدفاع أمام المسلمين، الذين لاقوا شدة من منجنيقاتها وحصانتها. وتنبأ عمرو بطول الحصار، فأرسل حملات لتطهير الدلتا. وبرغم توقف الإمدادات وموت هرقل لم تيئس الإسكندرية. وكان عمر في المدينة حنقًا لإبطاء الفتح، فأرسل كتابًا عنيفًا إلى عمرو قرأه في جنده، وعقد لواء الإسكندرية لعبادة ففتحها الله عليه. وأسرع المقوقس ليعقد الصلح مع عمرو. وذهل المسلمون أمام روعة الإسكندرية وراحوا يستقرون بمصر، وابتنوا الفسطاط، ولكن الروم عادوا كرة أخرى كما فعلوا بالشام يحاولون استعادة مصر بحملة قادها مانويل، فاحتل الإسكندرية، وتقدم إلى الدلتا، وانتدب عثمان بن عفان عمرًا رائد فتح مصر فأذاق الروم هزيمة منكرة في الإسكندرية، ثم هدم أسوارها، وارتدت الحملة خاسرة؛ لكن الروم عادوا بعد ذلك يحاولون نفس المحاولة بعد تسع سنوات في مشروع قسطانز؛ لاستعادة مصر والشام، وأوقع العرب بهم، ولقيت فلولهم عاصفة أتت عليهم في البحر. ولم يستطع المسلمون أن يتقدموا في بلاد النوبة بعدما لاقوا في المعركة التي قادها عقبة بن نافع؛ إذ رجع المسلمون وقد أصابت سهام القوم أحداقهم، فاتجهوا إلى الغرب. وفتح عمرو بعد فتح الإسكندرية برقة وطرابلس، ثم بعث بنافع ففتح زويلة، وأراد الانسياح فأوقفه الخليفة، فاستدار يتوسع في المناطق الداخلية فحاز فزان، وودان، وسبرت. وفي عهد عثمان، استطاع عبد الله بن سعد بن أبي سرح -والي مصر- أن يهزم جرجير ويفتح إفريقية، ولكنه بعد حرب دامت شهورًا يتركها عائدًا إلى مصر، بعد أن بلغته أخبار حملة مانويل -على ما نظن- ولكن ما نلبث حتى يتلألأ اسم عقبة بن نافع في هذه المنطقة فيما بعد عصر الراشدين. وقد تبين لي أن تصنيف الجيوش والإمدادات التي فتحت هذه المناطق الشاسعة كان له أثر بعيد في كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين في الميدان الشرقي؛ ذلك أن الجيوش التي وجهت إلى هذا الميدان كانت نزارية. فكتيبة المثنى كانت تضم قبائل بكر وإياد وتغلب والنمر. وكتيبة خالد كانت كثرتها من المهاجرين والأنصار، وفيها قوم من طيئ وجديلة. وانتدب أمراءه الأربعة: حرملة، وسلمى، والمثنى، ومذعورا، وكانوا في ثمانية آلاف من ربيعة ومضر. وكانت كتيبة عياش من ربيعة ومضر أيضًا. وكان لواء أبي عبيد من الأنصار، ولحق به بعض المتطهرين، واستطاع المثنى أن يستميل نصارى بني النمر، ثم كان جيش الثأر مكونًا من بجيلة، والأزد، وكنانة، في سبعمائة، ولحق بهم نفر من الرباب، ونفر من بني سعد، ومن خثعم، ومن بني حنظلة، ومن بني ضبة، وناس في عبد قيس، والنمر، وتغلب. وكان جيش سعد بن أبي وقاص إلى القادسية مكونًا من ألف، من قيس عيلان، وألف وخمسمائة من بارق، وألمع، وغامد، وألف من نخع. وأمده عمر في الطريق بألفي يمني، وألفي نجدي من غطفان وسائر قيس، ولحق به ألف وسبعمائة من أهل اليمن. وتتام جيش القادسية بعد انضمام جند المثنى، وعدته عشرون ألفًا، منهم ثمانية آلاف من ربيعة، وأربعة آلاف من حلفاء المثنى، وأربعة آلاف من جند أبي عبيد، وألفان من بجيلة، وألفان من طيئ، وستة آلاف من جند خالد الذين قدموا من اليرموك. فتتام جنده في القادسية ستة وثلاثين ألفًا، كثرتهم من عرب الشمال النزاريين. ولما استوطن العرب الكوفة والبصرة ظهر في تخطيطها غلبة عرب الشمال على عرب الجنوب، مما كان له أكبر الأثر في كثرة الشعر على ألسنة الفاتحين، حتى ليخيل إلى الدارس أن الفاتحين جميعًا كانوا شعراء دون استثناء؛ إذ أصبح الشعر أو كاد يكون حظًّا مشتركًا بين جميع الفاتحين. فشكل شعر الفتح في الميدان الشرقي كثرة شعر الفتوح، ثم راح يسجل أحداث الفتوح وسيره خطوة خطوة، فلم يغادر معركة، ولم يترك صدامًا، ولم يقصر عن تسجيل حوادث الفتح جميعها، تصويرًا شاملًا ودقيقًا، حتى ليمثل وثيقة تاريخية واجتماعية خطيرة في هذا الميدان. والأمر يختلف في الشام، فلواء خالد بن سعيد كانت كثرته من قبائل العرب الضاربة في تخوم الشام؛ كقضاعة، وكلب، وجهينة، وعذرة. وعندما استأذن في لقاء الروم راح أبو بكر يستنفر أهل اليمن فأجاب دعوته وجوه اليمن؛ كذي الكلاع في حمير، وقيس بن هبيرة في مذحج، وجندب بن عمرو في الأزد، وحابس بن سعد في طيئ، ورافق قدوم كتاب خالد قدوم عكرمة فيمن معه من تهامة وعمان والشحر والبحرين، فبعث بهم أبو بكر إلى خالد، واستنفر الخليفة عماله ليستنفروا من حولهم، فاستجاب لعمرو خلق كثير من عمان، واستجاب للوليد جموع من قضاعة. وأمر أبو بكر يزيد بن أبي سفيان على ألف من أهل مكة، كما أمر أبا عبيدة على جند عظيم من المهاجرين والأنصار. وكان جيش عمرو الذي فتح مصر من جند الشام. ويجمع المؤرخون على أنه كان يمنيًّا من عك أو من عك وغافق، وانضم إليه بعض الأبناء وعرب سيناء القضاعيين، وقوم من بني راشدة، وأناس من لخم. ولو رجعنا إلى تسمية القبائل في الخطط التي نزلوها في مصر لاتضح لنا أن كثرة هذه القبائل من عرب اليمن، الذين ظلوا غالبين على من سواهم من العرب، حتى ولاية عبد العزيز بن مروان، الذي ضاق ببلد ليس فيه أحد من بني أمه. وكانت نتيجة غلبة اليمن على جند مصر والشام، أننا لا نكاد نجد في الشعر صورة كاملة للفتوح في الشام كهذه التي رأيناها في العراق، فالشعر في الشام لم يستطع أن يصور جوانب الفتوح تصويرًا شاملًا ولا دقيقًا، بينما لا نكاد نجد في مصر شعرًا على الإطلاق، سوى ما كان من آثار الهذليين، وهي أبيات قليلة لأبي ذؤيب في إفريقية، وقصيدة وحيدة لأبي العيال الهذلي، قالها في حملة "قسطانز"، وقد لاحظت أن لكون المؤرخين ورواة الشعر عراقيين دخلا في عدم الاهتمام بتدوين شعر مصر والشام والعناية به. وبعد أن درست الشعر في الفتوح على هذا النمط حاولت أن أتعرف على شعراء الفتوح الذين خلفوا لنا هذا الشعر. وإذا بالإسلام يغير مظاهر الحياة العربية جميعها، ومنها الشعر، فيحدد له قيمًا تتفق وتعاليمه، فإذا بنفر من الشعراء يقوم بها خير قيام، وإذا بنفر آخر لا يستطيع أن يواكب هذه القيم وتلك المهام، فيخفت صوتهم إلى حين، ويعلو صوت القرآن؛ إذ يجد فيه المسلمون بغيتهم. وعندما يتدفق المجاهدون إلى الفتوح تذكو جذوة الشعر العربية وتنطلق ألسنة الشعراء بما حبس في نفوسهم زمنًا، عندما يقفون مواقف قريبة من مواقفهم القديمة مع فارق الهدف. وتفتح الفتوح أمامهم آفاقًا واسعة، وتمدهم بتجارب كثيرة وحافلة بألوان من العواطف والمشاعر، كأنما أطلقت عقدة ألسنتهم، وأسعفتهم التجربة الشعورية الضخمة، فشارك في الفتوح شعراء ناضجون؛ كأبي محجن الثقفي، وعبدة بن الطبيب، وربيعة بن مقروم الضبي، وعمرو بن معد يكرب الزبيدي. وشعر هؤلاء يتميز عن شعر غيرهم بأصالته ونضجه، وغلبة الفخر الفردي على الفخر بجماعة المسلمين، كصدى لإحساسهم القوي بأنفسهم. وللأسف لا يمثل شعر هؤلاء الشعراء إلا قدرًا قليلًا جدًّا من شعر الفتوح، برغم طول القصائد التي تُروى لهم في الفتوح؛ كاللامية المنسوبة لعبدة، واللامية الأخرى المنسوبة لربيعة بن مقروم الضبي. وقد تبين لي أن هاتين القصيدتين وغيرهما من شعر القدماء قد استغرق نظمهما عصرين مختلفين، بمعنى أن أبياتًا قليلة تتحدث عن الفتوح في القصيدة لا تبرر القصيدة كلها، التي يتحدث الشاعر فيها عن أشياء حظرها الإسلام؛ كالخمر واللهو والعبث بالنساء والطرب والغزل الحسي. واستنتجت من ثم أن تكون أبيات الفتح قد ضمت إلى القصيدة الجاهلية فيما بعد الفتوح. وأكد هذا اختلاف شعر الفتح في شكله وفي مضمونه عن شكل أمثال هاتين القصيدتين، وما هو بين من اختلاف في الصياغة بين الأبيات الإسلامية والقصيدة برمتها، حتى لتبدو هذه الأبيات غريبة في مكانها من القصيدة، كما أكد ذلك ما هو جلي من خلاف بين القصيدة، وما هو ثابت من شعر إسلامي، منسوب للشاعر في المضمون والصياغة. والمزج الذي حدث في شعر هذين الشاعرين بين الإسلامي منه والجاهلي حدث في أخبار ابن محجن الثقفي؛ إذ حاولت الروايات -بتأثير النزعات الشعبية- رسم صورة مغرية للشاعر الفارسي، مزجت فيها أخبارًا بأخبار، وأولت أحداث حياته في الفتوح تأويلات تخدم هذه الصورة المغرية. وقد يبدو جليًّا أن هؤلاء الشعراء القدامى لا يتسع تأثير الإسلام عندهم، على حين لا نجد لغيرهم شعرًا على الإطلاق. وإلى جانب هذا الجيل القديم من الشعراء نبت جيل آخر في حقل الفتوح، وهو جيل يختلف عمن سبقه من الشعراء في حظه من النضج، ومدى إسهامه في التعبير عن أحداث الفتح ومشاعره، وكثرة الشعر الذي انطلق على ألسنتهم، حتى ليخيل إلى الدارس أن الفاتحين جميعًا استحالوا شعراء في الفتوح. وهؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح ينقسمون في تصورنا إلى قسمين: قسم مغمور كان له كلف بالشعر القديم وإن لم يعرف به، أو يذع له ذكر، بدليل هذا النضج الذي نجده في شعرهم، وهذا الإنكار الذي نجده لأسمائهم وحياتهم في تاريخ الأدب؛ لانعدام رصيدهم الفني قبل الفتح. ورغم هذا فإن دورهم هو الدور الرئيسي في التعبير عن أحداث هذه التجربة.
والقسم الثاني -من هؤلاء الشعراء الذين أنطقتهم الفتوح- يشكل ظاهرة جديرة بالنظر؛ إذ لم يكن منهم أحد يرتبط ارتباطًا ما بالشعر، وكانت أول علاقتهم به يوم أن حملوا السلاح وخاضوا المعارك، فإذا بأنفسهم تجيش بالشعر فينطلق البيت أو البيتان تنفيسًا خالصًا. وهؤلاء يمثلون السواد الأعظم من الفاتحين، وشعرهم ليس إلا استجابة حرة لتجاربهم ومشاعرهم، ولكثرتهم وتشابه ظروفهم اختلط شعرهم فيما عدا من كان منهم قائدًا أو أميرًا، فحافظت شهرته الحربية على شعره. ومن الشعراء القدامى أخذت نموذجًا، عمرو بن معد يكرب الزبيدي الشاعر الفارسي الشهير، فإذا حياته الجاهلية تمثل شعره الجاهلي تمثيلًا صحيحًا، وشعره يدل على حياته دلالة واضحة، أما حياته في الإسلام فلا يكاد شعره في الفتوح يحدد جوانبها أيما تحديد. ويلاحظ الدارس نفس الملاحظة، التي يمكن ملاحظتها في شعر عبدة وربيعة. كما يلاحظ أن شعره لم يتأثر تأثرًا ما بالإسلام، ولم يكتسب خصائص إسلامية من واقع الحياة التي عاشها في الفتوح. فإن شعره القليل الذي خلفته الفتوح لا يكاد يفترق في شيء عن شعره الجاهلي، وإن مال إلى التقريرية، ولكنه احتفظ بخصائص قديمة له كحرارة التعبير، ولا يخرج الأمر عنده عن استبداله أيامًا إسلامية بأيام جاهلية. ويتضح ما بين هذا الجيل القديم والجيل الجديد من الشعراء الذين أسهموا في التعبير عن حركة الفتح حينما يستعرض الدارس نموذجًا للشعراء الذين نضجوا في أثناء الفتوح؛ كالقعقاع بن عمرو التميمي، فحياته في الفتوح واضحة في شعره وضوحًا كبيرًا ومفصلة فيه تفصيلًا دقيقًا؛ إذ هو فتى أشربت روحه الإسلام، وباع حياته خالصة في سبيل الجهاد، واستمات في نصرة الدين يرجو به وجه الله فحسب، في حين رأينا عمرًا يبغي أن يحافظ على مجد قديم، وشجاعة سارت بذكرها الركبان في الجاهلية؛ ولهذا فإن شعر القعقاع مرآة لحياته الباسلة في سبيل الله، كما أنه مرآة للفتوح بأسرها. ومن ثم يمكن أن يكون شاعر الفتوح بلا منازع؛ إذ تتمثل فيه كل خصائص شعراء الفتح. ويجمع شعره كل طوابع شعر الفتوح. فإذا ما أراد الباحث بعد هذا أن يتبين ماهية هذا الشعر ومقوماته وطوابعه، فإنه يتبين قبل كل هذا خطر شعر الفتح، ودوره في نجاح هذه الفتوح، مما يكشف عن القيمة الفاعلة للأدب في صنع الحياة، وما كان من استيعابه للطاقات النفسية التي أضرمت من نفوس المجاهدين. وهذا الشعر ينقسم إلى لونين من حيث شكله هما: القصيد والرجز الذي انفك عن دوره القديم كوزن من أوزان الشعر، له مهمة خاصة في الحداء والحروب والمفاخرة، إلى أن صار قالبًا من قوالب التعبير الفني كالقصيد سواء بسواء، فقد كان أداة كثرة الشعراء المغمورين، الذين عبروا فيه عن أنفسهم تعبيرًا بسيطًا، يتناسب ومدى النضج الذي يتمتع به شعرهم. وكان أيضًا قالبًا اتسع لموضوعات القصيد؛ نتيجة لاستخدامه على هذه الصورة، فقاسم القصيد ألوانه وموضوعاته، إلى جانب قيامه بدور الطبول التي تقرع لتحميس الجند، وإشعال أوار الحروب. وقد فسح للرجز أن يشارك القصيد في موضوعاته؛ نتيجة لما أصاب القصيد من انكماش في شكله؛ لظروف القتال واضطرابها وقلقها، ولما حظره الإسلام من الغزل، وغير ذلك مما يجافي طبيعة الظروف الجادة في المعارك. فاستحال القصيد إلى مقطعات قريبة في شكلها من الرجز، وتخفف القصيد من المقدمات والغزل وما إلى ذلك من التقاليد الفنية القديمة، وأصبحت مقطوعات القصيد تشتمل على غرض واحد، ومستقل كالرجز سواء بسواء. ومن بين الموضوعات التي جال فيها شعر الفتح موضوعات قديمة في الشعر العربي؛ كالفخر والرثاء، ولكننا نجدهما يتطوران في شعر الفتح؛ إذ يتطور الفخر القبلي الذي يقوم على المفاخرة بالأحساب والعصبيات والنعرات إلى شعر يفخر فيه المجاهد ببلائه وبطولته في سبيل فكرة الجهاد من أجل العقيدة التي يؤمن بها، ويتعدى ذلك إلى استشعار الشاعر وجدانًا جماعيًّا للمسلمين يصدر عنه، سواء أتغنى به أم تغنى بفرديته كعضو في إطاره. وتشيع في هذا الشعر معاني الفداء والتضحية والإيمان بنصر الله، كما يشيع فيه إخلاص للفكرة الإسلامية، ورفض لما عداها من زخرف الدنيا. وقد قاسم الرجز القصيد في هذه المعاني في حين تطور الرثاء من الإشادة بالفقيد -وما كان يتمتع به من صفات المروءة الجاهلية- إلى أن يصبح تعبيرًا عن الإيمان المؤكد بالموت ووجوبه، والتسليم به، والصبر عليه، واستشعار ما أعده الله للشهداء، فضلًا عن الإشادة ببطولة الشهيد، وما قدم في سبيل الله من تضحيات، إشادة تتصل بالفخر والجهاد اتصالًا وثيقًا. وبرغم قلة الرجز الذي ذهب هذا المذهب فإنه يعبر عن مدى التطور الذي أصاب الرجز الجاهلي في رثاء المحاربين، وقد استجد في الرثاء لون طريف صوره الشعر والرجز، ذلك أن بعض المجاهدين راحوا يرثون ما كانوا يفقدون من أعضاء أجسادهم وأشلائهم، رثاء يمتلئ بصور من البسالة والاستهانة بما فقدوا في سبيل الفكرة، أمام ما أفقدت العدو من أرواح وأعضاء، ولا يستشعر الرائي أي شعور بالحسرة، إلا بسبب حرمانه من الجهاد؛ بسبب ما فقد من أعضاء جسده. ويرى الدارس لشعر الفتوح موضوعات جديدة لم يعرفها الشعر العربي من قبل؛ نتيجة لنزوح المجاهدين إلى بيئات بعيدة ومختلفة عن مواطنهم، فكان أن أحسوا بالغربة، وامتلأت صدورهم بشجى الابتعاد عن مواطنهم وأحبائهم، وراحوا يبكون غربتهم وحرمانهم في حنين شجى حزين، يذكرنا ببكاء الأطلال في الشعر الجاهلي. كما راحوا يعبرون عن مشاعرهم بإزاء البيئات الجديدة، ويصورون مدى التزاوج بين نفوسهم وبينها. وكثر الشعر الذي يتشوق فيه المحاربون إلى نجد، ويذمون فيه مواطنهم الجديدة. وهرب بعضهم إلى الطبيعة فبثها شجوه في شعر رائق، ولم يستطع الرجز بما أوتي من نغم جهوري أن يعبر عن مثل هذه المشاعر المهموسة. وحظيت المشاهد الغريبة التي عاينها الفاتحون بالتفاتهم فصوروها، وصوروا انطباعاتهم بإزائها، فوصفوا الطبيعة في بيئاتهم الجديدة، وبردها وثلجها. ووصفوا الفيلة وغرابتها وشدة قتلاها. ووصفوا ما عانوا من الأوبئة والحشرات، وما تعرضوا له من عبور الماء وركوب البحر، وما ذاقوا من الأطعمة والأشربة الفارسية، وما آل إليهم من الفيء والمغانم، وما رأوا من ألوان الحضارة الفارسية المختلفة في الملبس والحديث، وما انزلق إليه بعضهم من العبث والسماع والطرب والخمر. وراكب الرجز شعر القصيد في هذه الموضوعات جميعها. وانطبع شعر الفتوح في مجموعه بطوابع إسلامية واضحة في شكله ومضمونه، ومن أبرز هذه الطوابع، صدور الشعر عن روح الجماعة الإسلامية ووجدانها الجماعي، الذي استوعب النزعات القومية المحلية، والعصبيات القبلية، فطواها وصاغها صياغة جديدة في إطار جديد، كما صدر عن تلك المثل الإسلامية الرفيعة وعُنِي بتمثلها، وصور تطبيق النظم الإسلامية في الأمصار الجديدة. وانطبع هذا الشعر أيضًا بما انطبعت به النفوس المؤمنة من المشاعر والحرص على الفوز بما وعد، والاستسلام لقضائه, وما بثه الإسلام في العرب من ثقة بأنفسهم واعتزاز تضاءلت أمامه هيبة الدول التي تسلطت عليهم بالأمس فأدالوها وسادوها، بما دفعه الإسلام فيهم من روح جديدة، أكدت لهم أن الله اصطفاهم لهداية العالمين إلى ما هداهم به. واصطبغ الشعر كذلك في ألوانه جميعًا بصبغ إسلامي خالص، في معانيه وتعبيراته وألفاظه، تجلت بصورة أوضح فيما حاوله بعض الشعراء الذين تعمقوا روح الإسلام من محاكاة المعاني الإسلامية، والتعاليم الدينية، وآيات الكتاب الحكيم. واتسم الشعر أيضًا بعدة طوابع شعبية في نصوصه ورواياته، وما دار حول شعرائه من أقاصيص، بفعل اهتمامات أفراد الشعب في المعارك وعلى أطرافها، وتغنيهم بانتصارات المسلمين، ورغبتهم في تصويرها تصويرًا معجبًا، يرضي نوازع الزهو فيهم، وتملق القصاص فيهم هذه المنازع وأرضوها بما زادوه في قصص الفتوح، وما نسبوه إلى فرسانها المشهورين من أفعال، تحولت بسيرهم من الواقع إلى ما يكاد يشبه الأساطير، ونسبته إلى من لم تكن له شهرة بالشعر منهم. وللأسف ضاع جل هذا الشعر ولم يبقَ منه شيء وإن وجدنا أثر هذه التزيدات واضحًا في سير الفرسان ذاتها. وتخلف عن هذه المعارك بعض أبيات من الشعر، قالتها العصبيات إبان المواقع الفاصلة، من أجل المفاخرة بين أحياء العرب، كالذي حدث في القادسية، من نسبة الشعر إلى الجن، وهذا في حد ذاته يفسر اتجاهًا شعبيًّا إلى إظهار الاهتمام البالغ بهذه الواقعة، ويكشف في نفس الوقت عن ثقافة العامة، وإيمانها بالمتوارثات الشعبية. ويمثل الشعر الذي لا نعرف له قائلًا قدرًا كبيرًا من شعر الفتح، يعالج كل موضوعات هذا الشعر، وينطبع هذا القدر بطوابع شعبية تتجلى في تغنيه بروح الجماعة، وفي تغني الناس به ترنمًا، وما يبدو فيه من بساطة وسهولة وقرب من الحديث العادي، الذي يدل على أنه شعر عامة الجند، كما يبدو من كثرة الرجز فيه وفي هلهلته وضعفه. ولا ريب أن قيمة شعر الفتوح تنبع من كونه المتنفس الشعري الوحيد في عصر صدر الإسلام، والتعبير الأدبي الوحيد أيضًا عن الحياة الإسلامية في هذا العصر، بتصويره لتلك الآثار التي تركها الإسلام في نفسية العربي، والتغيير الهائل الذي أحدثته في نفسه وفي أعماله، كما أنه يرسم صورة رائعة لفعل هذه الآثار في الانطلاقة المذهلة، التي تمثلت في الفتوحات الإسلامية. ويرسم صورًا رائعة للفروسية العربية في ملحمتها الخالدة. وهو فضلًا عن ذلك يمثل سجلًّا واقيًا، ووثيقة تاريخية أو اجتماعية، وشعورية لهذه الملحمة، تصحح الحوادث التاريخية، وتعطينا صورة لحياة الفاتحين ومشاعرهم. وبرغم قصر المدة التي تمت فيها هذه الوثبة أفلح الشعر في إعطائنا ملامح بارزة للمناطق التي افتتحها المسلمون، كما ألقى إلينا بعض الضوء على مدى التزاوج الذي بدأ يحدث بين النفوس العربية وبيئاتها الجديدة، والانعكاسات الشعورية المتولدة عن هذا الاحتكاك البكر بين العرب ومواليهم، وسجل عواطف المحاربين بعيدًا عن مواطنهم وحنينهم إليها. ويعتبر هذا الشعر -الذي هاجر في صدور المحاربين وعلى ألسنتهم إلى هذه المناطق على تفاوت في غنائه وكثرته- البذرة الأولى للشعر العربي في هذه الأمصار الجديدة، التي وسمتها بسمات أدبية معينة، فضلًا عن تصوير هذا الشعر لحياة المسلمين في الأمصار الجديدة، وما اكتنف حياتهم من جراء معيشتهم في مجتمعات إسلامية جديدة. وإذا كانت الفتوح قد مثلت أكبر هدف شغل المسلمين في فترة بعينها صورها هذا الشعر الإسلامي، فإن قيمة شعرالفتوح لا تكمن في مجرد مواكبته لحوادث الفتح فحسب، بل تمكن في تصوير حياة المسلمين جميعًا في هذه الفترة. ومن ثم يكون شعر الفتح ممثلًا لعصر صدر الإسلام تمثيلًا كاملًا. ويكتسب من هذه القيمة قيمة تاريخية واجتماعية، لعصر من العصور الأدبية، طالما مر الباحثون به مرور الكرام، ونسبوا إليه همود حركة الشعر وجمودها. ويصبح من ثَم أدق نموذج للشعر الإسلامي، والمجال الطبيعي لاستجلاء آثار الإسلام في الشعر العربي؛ لمواكبته قيمه ومثله وحياته، وتطوره مع أهدافه وغاياته بتصويره لأضخم جوانبه، وكانت النتيجة اكتسابه طوابع فنية خاصة به. وهذه الطوابع الفنية التي طبعت شعر الفتح استمدها من الإطار الفكري الإسلامي، من ظروف حركة الفتح التي صدر في خلالها، ومن التقاليد الفنية الموروثة للشعر العربي، على اختلاف في مدى هذه المصادر وفاعليتها. فطابع الالتزام الذي طبع الشعر نتيجة لالتزامه بغايات ومبادئ يعمل في خدمتها أداة اجتماعية وفكرية طابع مستمد من الفكر الإسلامي، ومن جدية الظروف التي صدر فيها وسموها. وطابع القصر والإيجاز الذي اتسمت به قصائد شعر الفتح مستمد من ظروف القلق والاضطراب والحركة في الميادين، ومن روح الإسلام التي تكره الثرثرة والتفيقه، ومن الموروثات القديمة التي قررها الذوق العربي من قديم، في كراهة الإسهاب والإطالة، وإعجابه بالإيجاز البليغ. أما العفوية التي وسمت شعر الفتح نتيجة لظروف القتال، وتعبير المجاهدين عن أنفسهم تعبيرًا قريبًا من التنفيس الشافي لأرواحهم من مخزون الطاقات النفسية، وتطهيرها في سرعة وحرارة، ودون تعمل أو تمهل تستمد أيضًا من روح الإسلام، التي تكره التقعر والالتواء، وتتنكب التعمل وتقصد إلى السماحة والطبع والصدق.






المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)