حاضنة الشعر في العصر الأموي
أتت الدولة الأموية بعد منازعات وإحن وإيقاظ لفتن نائمة وازدادت معها رقعة الإمبراطورية الإسلامية شرقا ببلاد السند والأفغان الشرقية وغربا بما وراء مصر إلى المحيط الأطلسي في إفريقيا وأصبحت عاصمة الدولة دمشق في بيئة فاتنة مليئة بالمناظر الطبيعية الجميلة من جبال وأنهار وأودية ورياض فهل وصفت تلك الطبيعة وهل غير الشعراء الذين أقاموا بها وأخذوا ينشدون أشعارهم أمام أمير المؤمنين المنهاج القديم كلا ظل الشعراء يقفون بالأطلال ويصفون الناقة والرحيل ويمعنون بالمعاني الجاهلية من الخمر والنساء كأن الإسلام لم يغير حياة الشعراء وكان حياتهم لم تتغير. وتعد البيئة التي يعيش فسها الشعر الحاضنة الأساس للشاعر، وقد بقيت الشاعرية في القبائل العربية التي كانت تهتم به ومن هنا ، فإن للأقاليم آثارها المختلفة في حياة أهلها ، فللحجاز حياة خاصة من نحو مادي ، ومن نحو اجتماع وسياسي أيضا ، وللعراق كذلك حياته الخاصة التي تختلف من هذه الأنحاء عن حياة الحجاز .. وإذا كان ذلك ، فمن الطبيعي أن يختلف الشعراء ، وهم الذين يخضعون لهذه المؤثرات المختلفة و يتمثلونها ، فيقل شعراء الحجاز من المدح والهجاء والفخر ويكثرون من الغزل على هذا النحو الذي يصور حياتهم حياة مبتهجة .. ويقف بعض الشعراء في نجد وبادية العراق شعرهم على المدح والهجاء والفخر ، على حين يعنى بعضهم الأخر بلون خاص هو الشعر السياسي على أن هذه المؤثرات كانت على فنون الشعر ، وتتجاوزت ذلك إلى مادة الشعر في ألفاظه ومعانيه ، فإذا وفق الشاعر أن يعيش عيشة نعيم كما وفق إلى ذلك شعراء المدن في الحجاز فستكون معانيه معاني مترفين ، وستكون ألفاظه ألفاظ المترفين .. وإذا ظل بدويا خشن العيش كما كانت الحال في نجد وبادية العراق فسيظل شعره بدوياً في ألفاظه ، وهكذا اختلف الشعر باختلاف الأقاليم لا في فنه فحسب ، بل في معانيه وألفاظه كذلك ، ولعل أرق الشعر كان في الحجاز ، و لعل أغلظه كان في نجد وبادية العراق .... إن العرب في الأصل ينقسمون إلى عدنانية وقحطانية ، وإن الشعر كان عدنانياً مضريا ولم يكن قحطانياً ، وأنه لم يزدهر بعد الإسلام إلا حيث استطاعت المضرية أن تسود ، أو حيث استطاعت القبائل والمجموعات الأخرى إن تتصل بالمضرية وأن تتأثر بها ... ويتبين هذا و يوضحه أمر العراق بعد الفتح الإسلامي في إثناء القرن الأول للهجرة ، فإذا استقصينا فيه الشعراء النابهين وجدنا أنهم من عرب الشمال ، من المضريين ، ولا نكاد نجد فيهم شاعراً ينتسب إلى قحطان . ومع ذلك فقد استقرت جماعات ضخمة من العرب الجنوبيين في العراق ، واتصلت بالبيئات العدنانية ولكنها لم تأخذ عنها الشعر ، ولم تتعلمه إلا في عصر متأخر جداً .. وإنما يعود ذلك إلى أسباب أخرى فالكثرة المطلقة من العرب الذين كانوا يقيمون بالكوفة كانوا من عرب الجنوب ، فلم يفش فيهم الشعر في العصر الإسلامي ، وإن الكثرة المطلقة من عرب البصرة في حاضرتها وباديتها كانت من عرب الشمال ولذلك فشا فيهم الشعر ، وكثر فيهم الشعراء مثل جرير والفرزدق وذي الرمة ... وأن بلاد الشام لا تكاد تعرف شاعراً يعد في طبقات الشعراء المعروفين لأنها كانت مقطوعة أو كالمقطوعة عن عرب الشمال ، وموصولة أو كالموصولة ببيئات أجنبية غربية ...وهنالك أشياء أخرى تتصل بهذه البيئات وتدعو إلى أن يأخذ الشعر في تطوره طريقا بعينها ، فيقال في هذا الموضوع أو ذاك ، ويشتهر بهذا الفن أو ذاك ، تبعاً للظروف التي تحيط به ، والتي تخضع للبيئة الجغرافية التي ينشا فيها الشعراء .. إن ظروف الحجاز مثلا ً في جملتها أنشأت شعرا خاصاً هو شعر الغزل ، وهذه الظروف نفسها في اختلاف ما بينها فرقت بين غزل الحجاز الذي نشا في الحواضر وغزل الحجاز الذي نشا في البوادي ... وظروف العراق التي أحاطت بالشعر دفعته في اتجاه آخر ، فخالفت بينه وبين شعر الحجاز ونجد ، ذلك أنه اتخذ وجهة المعارضة للحكم القائم ....ولم يكن موقف البيئات الإسلامية واحداً من هذه المعارضة ولم يكن وجهة المعارضة كذلك واحدة .. وذلك إن بلاد المسلمين أو بلاد العرب الخلص في العهد الأموي كانت تنقسم في جملتها إلى ثلاثة أقسام :
1 - العرب الموالون لبني أمية ،
2- والعرب المعارضون في صمت لبني أمية ،
3- والعرب المعارضون في عمل ومقاومة ،
فأما الشام فكانت موالية لهم ، وأما الحجاز فقد كانت معارضة صامتة لأن أهل الحجاز خافوا إن ينالهم ما نالهم مع الزبيريين من تقتيل وتدمير ، ولأن المال الذي انهال عليهم من بني أمية صرفهم عن هذه المعارضة ، واتسعت المعارضة في العراق ، وكانت معارضته صاخبة لا صامتة ، ومتكثرة لا مقتصدة ، ومتنوعة لا واحدة ... ذلك أن العراق كان موطن الخصومات السياسية بين السلطان الأموي ومعارضيه من الزبيريين والشيعة والخوارج ...وقد بدت هذه المعارضة في وجهتين كبيرتين :
1 - معارضة السياسة العامة وهي تتناول أصل نظام الحكم ومسألة الخلافة ، وترى إن ينتقل هذا الحكم إلى قريش أو بني هاشم منها أو أن يكون شائعا بين المسلمين
2 -ومعارضة إقليمية كانت تقف للأمراء والولاة في طريقة حكمهم للأقاليم ، فتنكر منهم ما يكون من جور أو قسوة ، فهي لا تنفي السلطان الأموي في أساسة ولكنها تكره بعض الولاة كالحجاج مثلا أو تكره ما يكون منهم من حيف ..........
والتصفح للشعر في عصر بني أمية لا يجد تجديدا فيه لأن الأمويون صرفوا الشعراء عن مواكبة الحياة الجديدة إلى مناحرات قبلية إشغالا للناس عن الخلافة وبقي الشعراء رغم حياته الحضرية يعيشون في رسوم الأطلال فعمر بن أبي ربيعة مثلا يبدأ حديث الهوى بقوله :
ألم تسأل الأطلال والمتربعا ببطن حليات دوارس بلقعا
إلى الشرى من وادي المغمس بدلت معالمه وبلا ونكباء زعزعا
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بعد ما نكأن فؤاد كان قدما مفجعا
ولا ريب أن هذه وقفة تعودنا في البداوة الأصلية فهل كانت لصاحبنا نزعة بدوية أو كان أبوه بدويا لقنه العناية بالبادية والهيام بإطلالها لا لقد كان الشاعر حضريا نشأ في مكة وكان أبوه حضريا من المكيين المعروفين بالثروة والنعيم إنه لم يعبر عن عاطفة أو هوى بدوي وإنما بدأ قصيدته كما بدأ القدماء قصائدهم وليس من اللازم أن تكون هذه المعالم الباهتة آثارا لحب . ولم يكن كثير من الشعراء بصورة مختلفة عنه وبأكثر مرونة من عمر وإنما كانوا أشد جمودا على المعاني الجاهلية بل في الأخيلة والصور التي ينتزعونها من الحياة والطبيعة حين يتحدثون عن الحب وقد يسرفون في المعاني البدوية حتى يسخر منهم معاصروهم وتنكر عليهم القول حبيباتهم ويبدو الجمود على أشده عند شعراء الأقاليم المداحين الذين اتصلوا بملوك الأمويين وولاتهم وتوفروا على المدح والهجاء وهؤلاء هم الشعراء الذين يحتلون المكانة الأولى في العصر الأموي وتسير أشعارهم في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية بتأثير الخلفاء والولاة وعملهم لهذه السيرورة ويشتغل العامة والخاصة بإنشادها والمبارزة في المفاضلة بين أصحابها . وأعلام هذه الجماعة الأخطل وجرير والفرزدق والثلاثة من بلاد ما بين النهرين ولدوا ونشؤوا فيها ثم أقبلوا يسهمون في الأحداث السياسية ويضربون بسهم وافر وقد امتثلوا الشعر القديم وسلكوا في المدح الطريقة الجاهلية وجمدوا في الأوصاف الطبيعية جمودا لا يتفق مع حياتهم الاجتماعية والسياسية ولا مع البيئة التي نشؤوا فيها .
والأخطل أكبر هذه الجماعة وشاعر أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان ولا نستطيع أن نتبين في استفتاحاته الطبيعية التي تطول حينا وتقصر حينا أي فرق بينها وبين الشعر الجاهلي حتى ألحقه جمهرة النقاد بالشعراء الجاهلين وفضلوه لهذا على معاصريه . وقد أوغل في وصف حيوان الوحش وعهدنا بشعراء بكر الذين كانوا يسكنون بيئته قبل الحضارة الإسلامية ألا يتوغلوا توغله لكنه يحاكي من جملة الشعر القديم ما اتصل ببيئته وما بعد عنها . وهو لهذا الجمود لا يظفر بمميزات بيئته من الترتيب ووضوح الوحدة في القصيدة وإن ظفر بالعناية اللونية وبشيء من التصوير المعنوي ففي قصيدة ينتقل من المنزل إلى وصف المهمة والناقة وحيوان الوحش ومن هذا إلى حديث الشراب والنديم ومنه إلى القسم على الطريقة الوثنية لينتهي بالمدح وكل هذه الانتقالات مفاجئة لا رابط بينها وإن صح تقدير روابط نفسية في الشعر القديم فإنها لا تصح في هذا الشعر بحال . وإذا احتمل هذا الجمود إن صح للجمود أن يحتمل من الأخطل بما كان له في البادية من هوى ومقام فإنه لا يحتمل من الفرزدق وقد ولد في البصرة المدينة الإسلامية لآخر عهد الخليفة الثاني وعرفت أسرته منذ الجاهلية بالرقة والبعد عن الفظاظة والوحشية لكنه على هذا كله كان جامدا على القديم البدوي .
ويبدوا هذا الجمود في الوقوف بالأطلال حين يقول :
ألما على أطلال سعدي نسلم دوارس لما استنطقت لم تكلم
وقوفا بها صحبي عليّ وإنما عرفت رسوم الدار بعد توهم
يقولون : لاتهلك أسى ولقد بدت لهم عبرات المستهام المتيم
فقلت لهم : لا تعذلوني فإنها منازل كانت من نوار بمعلم
فقد أخذ ألفاظ امرئ القيس بعد أن سلبها الروح والدم الحار وألفها هذا التأليف الجامد الذي يجرد أسمى المعاني كل ما فيها من جمال وينتقل من هذا الحديث في غير تمهيد إلى موضوع آخر لا صلة للأول به .
ووهم الفرزدق إذ ظن أن هذه الوقفات التي يقصدها ويصطنعها حين شاء تعبر عن حقيقة أمره حين قال :
إذا شئت هاجتني ديار محيلة ومربط أفلاء أمام خيام
فهذا القول واضح الدلالة في أن الأطلال لا تهيجه وأنه يقصد إلى هذا الضرب على أنه لون من البراعة النظمية لكن التصنع يكشف عن نفسه دائما .
وتبدو طريقته في الجمود عند الماضي الشعري حين يصطنع معاني القدماء وألفاظهم في أوصاف الطبيعة . ويصف الفرزدق الذئب فيعجب وصفه القدماء ويتحدث عنه بعض المحدثين ويبدو فيه معنى الود للحيوان المفترس وهذه مرتبة عظيمة من مراتب الألفة للطبيعة ؟ لقد وصف الفرزدق الذئب مرة فقال :
وليلة بتنا بالغريين ضافنا على الزاد ممشوق الذراعين أطلس
تلمسنا حتى أتانا ولم يزل لدن فطمته أمه يتلمس
ولو أنه إذ جاءنا كان دانيا لألبسته لو أنه كان يلبس
ولكن تنحى جنبه بعد ما دنا فكان كقيد الرمح بل هو أنفس
فقاسمته نصفين بيني وبينه بقية زادي والركائب نعس
وكان ابن ليلى إذ قرى الذئب داره على طارق الظلماء لا يتعبس
وقال في أخرى :
وأطلس عسال وما كان صاحبا دعوت بناري موهنا فأتاني
فلما دنا قلت ادن دونك إنني وإياك في زادي لمشتركان
فبت أقد الزاد بيني وبينه على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكا وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن واثقتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما أخيين كانا أرضعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى أتاك بسهم أو شباة سنان
على أن الفرزدق نفسه قد نعت الذئب نعتا لا يمت إلى الألفة بسبب حين شبه فقال :
وكنت كذئب السوء لما رأى دما بصاحبه يوما أحال على الدم
وثالث الثلاثة جرير بن عطية كان كزملائه في تناول الأوصاف الطبيعية تناولا جامدا وقد يسرع في الوقوف بالأطلال حتى لا يستغرق سوى بيت واحد ينتقل بعده إلى غرضه من الهجاء أو المدح وقد يطيل قليلا فلا ترى عنده طرافة في الطول ولا في القصر .
وقد يطيل في وصف رحيل الأحبة بعد حديث الأطلال كما في قصيدته التي مطلعها
قل للديار سقى أطلالك المطر قد هجت شوقا فماذا ترجع الذكر
وهو في جملة معانيه بل في ألفاظه أحيانا كثيرة ليس له في هذا الباب جديد مذكور وقد أفصح عن حقيقة شعوره حين قال بعد أن أطال الوصف والذكر
ماذا يهيجك من دار ومنزلة أم ما بكاؤك إذ جيرانك ابتكروا
فهو يجمع معاني القدماء مع الإفادة من ألفاظهم جمعا ليس فيه جديد سوى النظم
ولكل قاعدة استثناء والأحكام الأدبية تمثل الاتجاه العام ولا تبني على الشواذ اللهم بعض شعر الطبيعة الذي جاء عفو الخاطر من شعراء كانت عاطفتهم صادقة
وهذه السمات المعطرة التي تهب قليلا في دور الجمود لشعر الطبيعة العربي تتمثل في شعر مجنون ليلى وتحس أثرها فيما وصلنا من شعر الوليد بن اليزيد . هذا اللون من الشعراء المخلصين في الحب الصادرين عن أنفسهم قد كان لعنصر الصدق في شعرهم أثر في شعر الطبيعة وأن الشعر المنسوب للمجنون مثل له .
والطبيعة في شعر المجنون وثيقة الصلة بالحب ترتبط بها نفسه حتى تشاركه مظاهرها وموجوداتها في الحب في الفتنة بهذه المظاهر . فطلوع الشمس وغروبها يصلان بينه وبين ليلى حتى يسائل النفس : هل هما يهديان التحية إلى إليها ؟
ألا هل طلوع الشمس يهدي تحية إلى آل ليلى أو دنو غروبها
ويثير طلوع النجم والصبح شجونه :
فما طلع النجم الذي يهتدي به ولا الصبح إلا هيجا ذكرها ليا
وإذا نظر إلى السماء فرأى طيرا يحلق في جوها حملة السلام إلى الحبيب :
إلا أيها الطير المحلق غاديا تحمل سلامي لا تذرني مناديا
ومن أجل الحب هام برائحة الخزامى وأخذ يناجي شجرات الأثل يطلب الطمأنينة لفؤاده في ظلها .
ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة إلى قرقرى قبل الممات سبيل
فيا أثلات القاع ملت صحبتي مسيري فهل في ظلكن مقيل
ويا أثلات القاع ظاهر ما بدا بحمى على ما بالفؤاد دليل
ويا أثلات القاع من بين توضح حنيني إلى أفيائكن طويل
ويا أثلات القاع قلبي موكل بكن وجدوى غيركن قليل
وإذا رأى ظبيا حدثه عن ليلى وإذا مر بعقاب ساقط على وكره دعا له وطلب منه بيانا عن الحبيب يخرجه من الظلمات إلى النور . وحين تصور الغراب دليل الفراق ونذير الرحيل قسا ودعا عليه بالعذاب والهوان وبالتشريد وفراق الأحبة مثله .
وإذا مر بأطيار على أشجار دنا منها مفتونا ومتذكرا الحبيبة بفتنتها وأنشد أشعار الهوى والغرام .وإذا هتفت ورقاء على فنن بكى بكاء الوليد .وقد ينفس على الحمائم طمأنينتها مع اضطرابه ويعقد بينه وبينها ألوانا من المقابلة الطريفة الدالة على شدة الفناء في الطبيعة . ومن هذا تشبيه قلبه ليلة الرحيل بقطاة وقعت في الشرك معلقة الجناح يبكيها فرخاها القائمان بقفر يمنيان النفس بمرآها ويتخيلان عصف الرياح إيذانا بقدومها . وأشد دلالة على معنى الفناء في الطبيعة تمنيه أن يكون هو والحبيب غزالين يرتعان في الرياض أو طائرين يحلقان نهارا في الجو ثم يأويان مساء إلى وكرهما أو حوتين يسبحان معا في البحر . والوليد بن يزيد ـ وقد كان يسير مع نفسه على سجيتها غير حافل بأعباء الإمارة والملك ولا مقيد نفسه بأي قيد ـ يدل المأثور من شعره وهو قليل على نزعة متشابهة لنزعة المجنون : ومن شعره الدال على الاتصال النفسي بالطير عن طريق الحب قوله :
خبروني أن سلمى خرجت يوم الصلى
فإذا طير مليح فوق غصن يتفلى
قلت : من يعرف سلمى قال : ها ثمّ تعلّى
قلت : يا طير ادن مني قال : ها ثمّ تدلّى
قلت هل أبصرت سلمى ؟ قال : لا ! ثم تولى
فنكا في القلب كلماً باطنا ً ثم تعلّى
وقد تحدث كذلك عن العصافير وتبشيرها بالصباح ,
إن الأحداث السياسية هي التي قسمت الشعر على هذا النحو : غزل في الحجاز مشتهر في الحضر , وعفيف في البادية , وشعر سياسي عند الخوارج والشيعة , ومدح تقليدي عند شعراء الأقاليم . ذلك بأن الحجاز قد سلب السلطان حين صارت العاصمة الإسلامية دمشق الشام . بل أصبح مأوى للثائرين من بني هاشم والزبيريين والأنصار. وبهذا عاد إلى خمول الذكر وذهبت شهرته ولم يبق له سوى موسم الحج , وانقلب سكان الحجاز ونجد إلى حياتهم المحدودة , وانصرفوا عن السياسة والجيش . طبيعي وذلك أمره . إلا يصطنع المدح ولا الهجاء . فالمدح مصدره الاتصال بالحكم والهجاء الذي ينال من الناس ولا يحميه الخليفة يؤاخذ به صاحبه , أما إذا اتصل بالخليفة نفسه فالويل للشاعر الذي لا يستطيع النجاة من سلطان الخليفة بعد أن دانت له شبه الجزيرة بل بلاد فارس وممتلكات الروم . والويل للحجاز إن حمى هذا الشعر الثائر ! واصطنع أهل الحجاز الغزل الجاهلي الذي بلغ ذروته عند الأعشى الشاعر المغني , وشاع عندهم شيوعا ً حتى أصبح ينشد في البيوت , وبخاصة في بيوت المشهورات من النساء مثل سكينة بنت الحسين , بل كان ينشد في مسجد رسول الله كما كان النساء يجلسن في المسجد الحرام يوازن بين شعر كثير وجميل ونصيب . أما أهل البادية فقد اصطنعوا الغزل الشعبي الملائم لبيئتهم والذي لا يزال له نظير في تلك البيئات حتى اليوم . وكان الفريقان مقلدين لم يخرجا على الأصول القديمة , وكان جمودهما في شعر الطبيعة على أتمه . أما الذين ثاروا وهيأوا أنفسهم لحمل أعباء الثورة , وهم الخوارج والشيعة فقد شردوا ولم يكن لهم في شعر الطبيعة نصيب . وأما المداحون فقد جمدوا في التقليد . وكان لكل ذلك أسبابه .
1-أحيا الخلفاء الأمويون وخاصة من بعد معاوية النزاع القبلي , فكان الخليفة يصطنع القبائل التي تناصره , ويستبد بالقبائل التي تعاديه ,
2-وثارت بين القبائل فتن , وانبعث الماضي بكل ما فيه من ألوان شعرية وخصومات وفخر بالأيام والمواقع . ويتمثل هذا النزاع القبلي, وبعثه بعثا ضاربا عنيفا , في قول الأخطل يمدح عبد الملك بن مروان , ويهجو قيسا وبني كلب ويحرض عليهما :
بني أمية إني ناصح لكم فلا يبيتن فيكم أمنا زفر
إن الضعينة تلقاها وإن قدمت كالغر يكمن حينا ثم ينتشر
وهي أبيات طويلة منها :
فلا هدى الله قيسا من ضلالتها ولا لعا لبني ذكوان إذ عثروا
ولم يزل بسليم أمر جاهلها حتى تعايا بها الإيراد والصدر
أما كليب بن يربوع فليس لهم عند التفارط إيراد ولا صدر
وقد نصرت أمير المؤمنين بنا لما أتاك ببطن الغوطة الخبر
أرأيت جاهلية أمعن من أن يستمع أمير المؤمنين إلى شاعر نصراني ينال من القبائل الإسلامية ويمن على الخليفة بنصر تغلب له ؟ إن هذا قد يبدو نابيا وقد أدى ببعض المتعصبين إلى الطعن على دين بني أمية لكن الحقائق الأدبية لا توزن بميزان غيرها وفي سبيل الفتنة الأدبية وفي سبيل السياسة يستساغ الكثير وقد أنكر هذا أحد المسلمين المعاصرين للشاعر وقال لعمرو بن العلاء : يا عجبا للأخطل نصراني كافر يهجو المسلمين لكن الإحياء للعصبية الجاهلية كان من الوضوح بحيث استحق عجب عمرو من هذا العجب فأجابه : يا لكع لقد كان الأخطل يجيء وعليه جبة خز في عنقه سلسلة ذهب فيها صليب ذهب تنفض لحيته خمرا حتى يدخل على عبد الملك بن مروان بغير إذن .
3- إحياء الخلفاء الأمويين للعصبية الجاهلية والأدب الجاهلي إحياء لا يأبهون في سبيل هذا الأحياء لشيء ويحيون وسط الحضارة بعقول بدوية وقد أغدقوا على شعراء المدح أنواعا من النعيم بالغة واتخذ كل خليفة شاعرا مختاراً كما أغدق واتخذ الحكام في الجاهلية بل أشد مما فعلوا . وترتب على فتنتهم بالحياة الجاهلية وأدبها الفتنة بشعراء الجاهلية وبأوصافها الطبيعية
4-الخلفاء يشغلون مجالسهم بحديث المفاضلة بين الجاهلين ويطلبون إلى الشعراء الحياة البدوية بإبلها وصفا مفصلا ويطربون للشعر الجاهلي كل الطرب .
5-كانت الناس على دين ملوكهم تطرب للشعر الجاهلي وتشغل نفسها بالمفاضلة بين شعراء الجاهلية كما كان الوقوف بالأطلال وبكاء الدمن ووصف الرحيل والإبل وما إليها يستهويهن ويفضلون الشعراء الذين يتبعون الطريق الجاهلي ويعنون بهذه الألوان
6- كان للرواة حلقات يأوي إليها الناس ليسمعوا من الشعر وكان الخلفاء يجيزونهم على روايتهم كما يجيزون الشعراء بل أعظم مما يجيزونهم .
ولم لا يفعل الخلفاء والناس ذلك والشعراء يحتذون القدماء ويجمدون عند أمثلتهم أليس الأصل أحق بالتقدير من الفرع .




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)