النثر الفني والأدبي في الأندلس

أ- النثر الأندلسي رؤى وأبعاد:
رأينا الأندلس تندفع نحو تقليد المشرق في عمله وأدبه، وكان هذا الاندفاع طابع الأقاليم العربية عامة، فهي جميعًا تتجه نحو الأم، نحو بغداد، تتغذى منها، وتستمد صفاتها وخصائصها، ومهما غربت وأبعدت عن بغداد، فالخصائص الكبرى للأدب العربي في كل إقليم من أقاليمه واحدة، وكأنما اللغة العربية لا تعرف الاعتداد بالمكان، ولا تعتد به بل قل هي تعرفه، وتعتد به، ولكنها لا تقيم وزنًا كبيرًا لهذه المعرفة، ولا لهذا الاعتداد، بل إنها لتقسوا على الأقاليم التي تدخلها، فإذا أبناؤها لا يتصلون به إلا اتصالا بعيدًا، أما اتصالهم القريب، فإنما هو بالنماذج الأدبية الممتازة، التي اصطنعتها العربية لنفسها في بغداد والمشرق ، ومن أجل ذلك كنا لا نجد فروقًا جوهرية بين نماذجها في العراق، وفي بلد كالشام ومصر، وحتى الأندلس لا نحس فيها أننا بدلنا بجو المشرق العام جوًّا يختلف عنه تمام الاختلاف، ونحن لا ننكر أثر الإقليمية من حيث هو، فدائمًا توجد في كل إقليم صفات تميز أدبه بعض التميز من أدب الأقاليم الأخرى، ولكن ينبغي أن لا ننزلق من ذلك إلى القطع بأن الأقاليم العربية أوجدت لأنفسها آدابًا متخالفة بتخالفها، فإن ذلك إنما ينزلق إليه من لم يقرأ شيئًا في آداب هذه الأقاليم، فتراه يعتمد في حكمه على الحدس، والتخمين كأننا بإزاء مسألة ميتافيزيقية، أما الذين يكفون عقولهم عن مثل هذه الفروض لاجئين إلى الحقائق الحسية الصحيحة، يستمدون منها أحكامهم، وآراءهم فإنهم يعرفون أن جملة النماذج، التي كونها الأدب العربي في أي إقليم من أقاليمه، لا تخلتف اختلافات واسعة عن النماذج الأساسية لهذا الأدب، التي كونها في المشرق . على أنه ينبغي أن نلاحظ ظاهرتين مهمتين تتصلان بالنثر الأندلسي، أما الظاهرة الأولى، فهي أن هذا النثر لا يظهر فيه كاتب كبير قبل القرن الرابع للهجرة، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الشخصية الأدبية للأندلس لم تتكامل إلا في هذا القرن، وكان الناس قبل ذلك يكتبون نثرًا، ولكن أحدًا منهم لم يستطع أن يرتفع بنثره إلى درجة تجعله يقف في صفوف كتاب العصر العباسي الممتازين . والحق أن الأندلس تبدأ نهضتها الأدبية منذ القرن الرابع، وعهد عبد الرحمن الناصر وابنه الحكم، ذلك العهد الذي ألف فيه كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، وأملي فيه كتاب الأمالي، أملاه أبو علي القالي في قرطبة، ومنذ ذلك العهد المزدهر أخذت الأندلس تشعر بشخصيتها، وتحاول أن تصور هذه الشخصية في آثارها، ونماذجها الأدبية، وهذه هي الظاهرة الأولى، أما الظاهرة الثانية فهي أن الأندلسيين لم يستحدثوا لأنفسهم مذهبًا جديدًا في تاريخ النثر العربي، يمكن أن نضيفه إلى المذاهب الثلاثة السابقة، التي كونها هذا النثر في المشرق، فقد وقفوا عند المحاكاة، وهي محاكاة اضطرتهم إلى ضروب من الخلط، إذ ترى الكاتب الواحد يجمع في نماذجه بين المذاهب الثلاثة، التي رأيناها في المشرق ، فتارة يصنع لنفسه نموذجًا من ذوق أصحاب الصنعة، وتارة يعدل عن ذلك إلى ذوق أصحاب التصنيع، وتارة ثالثة يعدل إلى ذو أصحاب التصنع، وقد فتنت كثرتهم بالسجع، ولكنها لم تفتن بالبديع، الذي كان يصحبه عند أصحاب التصنيع، بل فتنت -إلى حد ما- بالغريب الذي رأيناه عند أصحاب التصنع، كما فتنوا بالأمثال، وربما كان لكتاب الأمالي للقالي أثر مهم في ذلك، فقد بناه صاحبه على هذين الجانبين، ونحن نقف عند أهم كتاب ظهر في العصر الأموي، لنرى ما وصل إليه النثر الأندلسي في هذا العصر من رقي وازدهار، وهو ابن شهيد الكاتب المشهور. ابن شُهَيْد: وهو، أحمد بن عبد الملك ... بن شهيد الأشجعي القوطي، ولد بقرطبة عام 382هـ، وتوفي عام 426هـ1، وهو من بيت أدب ومجد، كان جده وزير عبد الرحمن الناصر2 وأديبًا من أكبر الأدباء في عصره، وورث عنه حفيده أدبه، كما ورث عنه صلته الحسنة بالأمويين، وإن لم يستوزروه لثقل كان في سمعه. ويظهر أنه ورث عن آبائه مالًا كثيرًا بعثره في اللهو، والخلاعة حتى ليقول أبو حيان: "إن البطالة غلبت عليه، فلم يحفل في آثارهم بضياع دين، ولا مروءة"3. وهذا الشخص المترف الذي ساق حياته في اللهو، والخلاعة كان مثقفًا ثقافة واسعة بمعارف عصره، فقد ذكر في إحدى رسائله أنه درس ضروب العلم المختلفة من أدب، وخبر وفقه وطب وصنعة وحكمة4، ويقول ياقوت: "كان له من علم الطب نصيب وافر"5. على أن الجانب الذي تميز به، إنما هو جانب الأدب، فقد كان شاعرًا كبيرًا كما كان كاتبًا كبيرًا أيضًا، ويدل ما روي عنه من آثار أن نثره كان أكبر من شعره، وقد شهد له النقاد بمقدرته فيه وتفوقه، كتب عنه الثعالبي فقال: "إن نثره في غاية الملاحة" ، وقال أبو حيان: "كان أبو عامر بن شهيد يبلغ المعنى، ولا يطيل سفر الكلام، وإذا تاملته ولسنه، وكيف يجر في البلاغة رسنه، قلت: عبد الحميد في أوانه، والجاحظ في زمانه ... وكان في تنميق الهزل، والنادرة الحارة أقدر منه على سائر ذلك.. وله رسائل كثيرة في أنواع التعريض والأهزال، قصار وطوال، برز فيها شأوه، وبقاها في الناس خالد بعده"2. وقدم له صاحب الذخيرة بقوله: "كان أبو عامر شيخ الحضرة العظمى وفتاها، ومبدأ الغاية القصوى ومنتهاها، وينبوع آياتها، ومادة حياتها، وحقيقة ذاتها، وابن ساستها وأساتها، ومعنى أسماته ومسمياتها، نادرة الفلك الدوار، وأعجوبة الليل والنهار، إن هزل فسجع الحمام، أو جد فزئير الأسد الضرغام، نظم كما اتسق الدر على النحور، ونثر كما خلط المسك بالكافور، إلى نوادر كأطراف القنا الأملود، تشق القلوب قبل الجلود، وجواب يجري مجرى النفس، ويسبق رجع الطرف المختلس" ، ومن قول صاحب المطمح فيه: "عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبه أحد من أهل زمانه، ولا ينسق ما نسق من در البيان وجمانه، توغل في شعاب البلاغة وطرقها، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها، لا يقاومه عمرو بن بحر، ولا تراه يغترف إلا من بحر". ونرى من هذه النصوص المختلفة أن النقاد، كانوا يكبرون من شأن ابن شهيد ومنزلته الأدبية، وقد قرنوه إلى الجاحظ لهزل كان فيه، وميل إلى الفكاهة، وأكبر الظن أنه يتأثر في هذا الجانب بديع الزمان، فقد ذكره في رسائله ، وكتب رسالة في الحلواء ذهب فيها مذهبه في المقامة المضيرية، وحكى في التوابع والزوابع ما وصف به بديع الزمان الماء، ثم أتى بأوصاف أخرى للماء يريد بها أن يثبت براعته ، وأهم أثر تركه ابن شهيد هو رسالة التوابع والزوابع، والتابع الجن والزوبعة الشيطان، وسماها بهذا الاسم؛ لأنه بناها على شيطان تراءى له في وقت أرتج عليه فيه، وهو ينظم شعرا فأجازه، ولما تعارفا طلب إليه ابن شهيد أن يلقى به شياطين الشعراء والكتاب الذين غبروا، فأجاب طلبته، وحمله على جناحه إلى وادي الجن، حيث التقى بكثير من شياطين الشعراء الجاهليين والإسلاميين والعباسيين، كما التقى بطائفة من شياطين كتاب المشرق، وتدور القصة في الرسالة على أنه يلقى التابع للشاعر المشهور، فينشده شعرًا لصاحبه، ثم ينشده ابن شهيد بعض شعره، فيعجب به، ويجيزه آية على قدرته البلاغية، وكذلك يلقى توابع الكتاب أمثال عبد الحميد، والجاحظ وبديع الزمان، فيعرض عليهم رسالته في وصف البرد والنار والحطب، كما يعرض عليهم رسالته في الحلواء. وايضًا فإنه يعرض عليهم صفته لثعلب ولبرغوث، ويستحسنون ما يعرض ويجيزونه. ووقف تابع الجاحظ عند سجعه، وقال له: إن كلامك نظم لا نثر فزعم أن تلك صفة أهل بلده، وأنهم يعجبون بالسجع وطابعه، وهكذا تنفض جموع الجن، وهي تشهد بأنه شاعر بديع، وكاتب بليغ . والرسالة تفيض بروح الفكاهة، كأن نراه يعرض لبركة ماء بإحدى جوانب وادي الجن، ومن حواليها طائفة من حمر الجن، وبغالها وتتقدم له بغلة شهباء عليها جلها، وبرقعها فتنشده بعض الشعر، وأخيرًا تقول له: "أما تعرفني أبا عامر؟ قلت: لو كانت ثم علامة، فأماطت لثامها فإذا هي بغلة أبي عيسى، والخال على خدها، فتباكينا طويلًا، وأخذنا في ذكر أيامنا". وما من شك في أن هذا الجانب في التوابع والزوابع يكسبها خفة ورشاقة، ومن يرجع إليه يجد ابن شهيد لا يستخدم فيها دائمًا أسلوب السجع، بل تارة يسجع وتارة لا يسجع، وهذا هو معنى قولنا: إن الكاتب الكبير في الأندلس، لم يكن يخضع في صنع نماذجه لمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو -على نحو ما نرى الآن عند ابن شهيد- كان يتقلب بين المذاهب والمناهج المختلفة، ومع ذلك فلا تظن أن ابن شهيد حين يستخدم السجع كان يستخدم البديع، الذي هو الشق الثاني لمذهب التصنيع ، فإنه لم يكن تتصور هذا المذهب بكافة تفاصيله، كما تركه أصحابه، وليس معنى ذلك أنه لم يقرأ لهم ما يفهم به هذا المذهب، بل لقد قرأ لهم كثيرًا، وخاصة الصابي، وبديع الزمان ! وأيضًا ينبغي أن لا تظن أن ابن شهيد لم يخرج في جوانب من رسائله إلى مذهب التصنع، بل خرج إلى هذا المذهب في كثير من جوانبها؛ إذ نراه يعنى باستخدام الغريب، واعترف بذلك في إحدى رسائله ، وكان إلى ذلك يكثر من الأمثال ، كما كان يكثر من المبالغات والتهويلات ، والاقتباس من القرآن الكريم ، إلا أنه لم يعن بتعقيدات زخارف البديع جملة، بل إن لم يعن بهذه الزخارف نفسها، كما تركها أصحاب مذهب التصنيع، ومع ذلك فقد كان ذوقه أقرب ما يكون إلى ذوقهم، وتطرق من هذا الذوق إلى العناية، بالفكاهة في آثاره على نحو ما نجد عند بديع الزمان في مقاماته، وكما أطرف في رسالة التوابع والزوابع أطرف أيضًا في رسالة أخرى، تسمى حانوت عطار، ويظهر أنه كان يميل إلى الإغراب في الموضوع، ولعل ذلك ما جعله يقف عند وصف ثعلب برغوث، وبعوضة، ومهما يكن فقد كان ابن شهيد أكبر أديب في عصره، ولكنه لم يستطع المخالفة على مذاهب المشرق ومناهجه، بل ذهب يقلد هذه المذاهب، والمناهج في غير نظام، ولا نسق معين . نسج الكتاب الأندلسيون نثرهم على منوال النثر المشرقي ويسير على نهجه و كبار النثر في الأندلس هم كبار شعرائها أمثال ابن زيدون وابن شهيد وابن حزم وأبي حفص ابن برد وابن دراج القسطلي ولسان الدين بن الخطيب وغيرهم وهذا على عكس أساتذة النثر في المشرق حيث كان شعرهم أقل جودة من نثرهم ونذكر منهم على سبيل المثال أبا الفضل بن العميد والصاحب ابن عباد وأبا بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمذاني ولذلك فقد نشأ في المشرق ما يسمى بشعر الكتاب أي شعر هذه الطبقة الممتازة من الكتَّاب الذين لا يرقى شعرهم إلى مستوى نثرهم .
واتسعت أبواب التأليف والتصنيف في العهد الأندلسي وأخذ الأندلسيون يؤطرون للعلوم المعرفية والطبيعية والفلسفية والأدبية.

ب- ملوك الطوائف، ونهضة النثر الأندلسي:
إذا تركنا عصر الأمراء الأمويين، وانتقلنا إلى عصر ملوك الطوائف، وجدنا الأندلس تنهض نهضة واسعة في أدبها من شعر ونثر، وكأنما انقسامها إلى وحدات صغيرة أهلا لنشاط أدبي واسع، إذ أصبح لكل وحدة صغيرة، أو بعبارة أخرى، لكل مدينة، حكم مستقل، وسعى كل حاكم -بسبب ما بينه وبين الحكام الآخرين من تنافس- إلى تشجيع الحركة العلمية والأدبية في وطنه، ومقر حكمه وملكه، وبذلك أضفى انقسام الأندلس إلى دويلات على العلم والأدب تقدمًا ورقيًا عظميًا، وإن الأندلس في ذلك لتشبه إيران في القرن الرابع الهجري، حين توزعتها دول وإمارات مختلفة، فقد لاحظنا في غير هذا الموضع أن هذا التوزع، وما صحبه من قيام مدن، ومراكز كثيرة أهل لنهضة أدبية رائعة، وكذلك الشأن في الأندلس في أثناء القرن الخامس للهجرة، فإن انقسامها إلى أندلسيات متعددة، جعل مراكز النشاط الأدبي فيها تتعدد أيضًا، وكان كل حاكم أو أمير يعنى بأن يكون في بلاطه أهم كاتب في إقليمه، ومن ثم أصبحت كل مدينة تشتهر بكاتب مهم، إن لم يكن بطائفة من الكتاب، وتعقب صاحب الذخيرة هذه الظاهرة، فعرض لكتاب كل مدينة عرضًا مفصلًا، ومن يرجع إليه في كتابه المذكور، يلاحظ أن الكتاب كلهم غمرهم ذوق السجع، فهم جميعًا يسجعون، وكان الكتاب في العصر الأموي يتخففون من السجع أحيانًا، كما رأينا عند ابن شهيد، أما في هذا العصر فإنه يلتزمونه التزامًا، بل قد يجد الإنسان في عصر الأمويين كاتبًا لا يسجع مطلقًا، وإنما يزواج مثل ابن برد الأكبر، أما في هذا العصر، فإن الكتاب جميعًا يسجعون، ومن أبرعهم في ذلك ابن برد الأصغر حفيد ابن برد الأكبر، وقد روى له صاحب الذخيرة مجموعة كبيرة، من رسائله، كما روى له مناظره بين السلف والقلم، ومن يقرأ المناظرة والرسائل لا يحس جديدًا، فقد جمدت الأندلس عند صياغة المشارقة، ولم تستطع أن تضيف إليها من جديد، وهل يستطيع الغنسان أن يجد في الذخيرة لهذا العهد اتجاهًا جديدًا، أو لونًا جديدًا؟ إنه ليس هناك إلا التقليد والمحاكاة وأن يحتذى الكاتب على نموذج مشرقي، فإذا هو يصنع رسائل كرسائل المشارقة، أو يصنع مقامة كمقاماتهم على نحو مقامة أبي حفص عمر بن الشهيد، التي رواها صاحب الذخيرة، ونحن نلاحظ عند هؤلاء الكتاب عامة أنهم لم يعنوا بالبديع، لكنهم استمروا -كما رأينا عند ابن شهيد- يعنون بالغريب، وبالأمثال والاقتباس من القرآن، كما عنوا كثيرًا بحل الشعر وتضمينه، وليس معنى ذلك أنهم عقدوا نثرهم على نحو ما رأينا عند أبي العلاء وأصحابه، فإن حياتهم التي كانت تقوم على الفتن من جهة، وعلى الحروب من المسيحيين من جهة أخرى، لم تتح لهم الفرصة للتأني والتمهل، فلم يطبع أدبهم بطابع التعقيد، وإن كان ذلك يظهر فيه من حين إلى حين، ونحن نقف عند أهم كاتب ظهر في هذا العهد، وهو ابن زيدون، لنطلع على الصورة الفنية للكتابة حينئذ.
ابن زيدون:
هو، أحمد بن عبد الله ... بن زيدون المخزومي القرطبي1، ولد بقرطبة عام 394 للهجرة، وتوفي بإشبيلية عام 463 2، وكان من أبناء وجوه الفقهاء بقرطبة3، ولما قامت الفتن في أواخر حكم الأمويين أسهم فيها، إذ كان هواه مع الثائرين، ومن أجل ذلك قربه أبو الحزم جهور أمير قرطبة، إلا أن هذه المكانة لم تدم له طويلًا إذ نسبت إليه مؤامرة على السلطان، وتصادف أن كان هناك أديبة شاعرة يتعلق بها ابن زيدون، وهي ولادة بنت المستكفي، ولهما مطارحات ومجالس محفوظة4، وكان ينافسه فيها ابن عبدوس، فاصطدم كل منهما بالآخر، وكان ابن زيدون كاتبًا، فكتب رسالة هزلية طويلة على لسان ولادة إلى ابن عبدوس، يزعم فيها أنه أرسل لها سيدة تمدحه لها، وتحاول أن تعقد الصلة بينه وبينها، فنهرتها نهرًا شديدًا، ولم تكتف بذلك، بل كتبت له هذه الرسالة، وكلها تهكم به وسخرية، ولم يرد ابن عبدوس على خصمه برسالة أخرى، بل دبر له مؤامرة واسعة النطاق، جعلت أبا الحزم بن جهور يحبسه، وقد كتب إليه ابن زيدون من السجن برسالة طويلة، تسمى الرسالة الجدية يستعطفه بها، وكذلك استعطفه برسائل، وقصائد أخرى إلا أنه لم يرق له، وأخيرًا يعفو عنه مستجيبًا فيه لشفاعة ابن أبي الوليد، ولما ولي بعده سنة 435 اتخذه سفيرًا بينه وبين رؤساء الأندلس ، غير أن الأمور لم تلبث أن فسدت بينهما، ففر ابن زيدون على وجهه إلى إشبيلية عام 441 1، فلقيه أميرها المعتضد لقاء حسنًا، واصطنعه لنفسه، كما اصطنعه ابنه المعتمد من بعده، واستطاع المعتمد بفضل مشورته أن يستولي على قرطبة، وما زال يرعاه خير رعاية، حتى إذا كان عام 463 أرسله إلى إشبيلية في مهمة إلا أن القدر عاجله، ويقولون: إن أهل قرطبة حزنوا لوفاته حزنًا شديدًا . وهذا كله يرينا أن حياة ابن زيدون، كانت مليئة بمتاعب ومصاعب جمة، ومع ذلك فهو يوضع على رأس شعراء، وكتاب عصر ملوك الطوائف، يقول صاحب الذخيرة فيه: "كان أبو الوليد زيدون غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء بني مخزوم، أحد من جر الأيام جرًا، وفات الأنام طرًا، وصرف السلطان نفعًا وضرًا، ووسع البيان نظمًا ونثرًا، إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه، وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه، وحظ من النثر غريب المباني شعري الألفاظ والمعاني" ، ويقول أيضًا: "فأما سعة ذرعه وتدفق طبعه، وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه، فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصر ولا يعد" ، ولعل أطرف ما ترك ابن زيدون من آثاره الكتابية، هو الرسالة الجدية ثم الرسالة الهزلية؛ أما الرسالة الجدية التي كتبها في الاستعطاف، فهي تبدأ على هذا النمط: وأحس الجماد استحمادي إليك، فلا غرو قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفى به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته، والحين قد يسبق جهد الحريص :
كل المصائب قد تمر على الفتى ... وتهون غير شماتة الحساد
وإني لأتجلد وأرى الشامتين أني لريب الدهر لا أتضعضع3، فأقول:
هل أنا إلا يد أدماها سوارها ، وجبين عضه إكليله ومشرفي ألصقه بالأرض صاقله، وسمهري عرضه على النار مثقفه، وعبد ذهب به سيده مذهب الذي يقول:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازمًا ... فليقس أحيانًا على من يرحم
هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي ، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع ، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر -غير ضنين- غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضًا أملؤها ، وأثقل السحائب مشيًا أحفلها ، وأنفع الحيا ما صادف جدبًا، وألذ الشراب ما أصاب غليلًا، ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب". وأكبر الظن أن خصائص ابن زيدون اتضحت لنا الآن، فهو يعني عناية شديدة بحل الشعر في كلامه، كما يعني بالأمثال وحشدها، حتى لتغدو رسالته في حاجة إلى الشرح؛ لأن كثيرًا من عباراتها أمثال مرموزة، وأبيات منثورة وشطور من الشعر مرصوفة، وهذا نفسه هو الذي يجعلنا نقول: إن ذوق ابن زيدون في نثره كان قريبًا من ذوق أصحاب التصنع في المشرق، وحقًا هو لم يستخدم البديع، ولا ما يتصل به من تعقيد بعض زخارفه، ولكنه استخدم لغة بهمة بعض الشيء، وإذا استمررنا معه في الرسالة، وجدناه يلجأ إلى شيء أكثر صعوبة، وهو ذكر كثير من وقائع القرآن الكر يم، وحوادث الإسلام الحنيف. وراع هذا الجانب في الرسالة القدماء؛ لأنهم عثروا به على مادة غنية للشرح والتفسير، واستمع إليه يصور لابن جهور، أنه لم يرتكب جرمًا كبيرًا، فيستهدف لما مضى من جنايات وأحدث في الديانات، وعلى هذا النحو: "قد بلغ السيل الزبى ، ونالني ما حسبي به وكفى، وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم، فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا، فقلت: "سآوي إلى جبل يعصمني من الماء"، وأمرت ببناء الصرح لعلي طلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابتلي به جيوش طالوت، وقدت الفيل لأبرهة، وعاهدت قريشا على ما في الصحيفة، وتأولت في بيعة العقبة، ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد، وتخلفت عن صلاة العصر في بني قريظة، وجئت بالإفك على عائشة الصديقية، وأنفت من إمارة أسامة، وزعمت أن بيعة أبي بكر كانت فلتة".
وترك ابن زيدون هنا السجع؛ لأنه لا يستقيم، وما يريد أن يروى من هذه الأحداث، وهي أحداث لا يفهمها إلا من قرأ سير الأنبياء، والسيرة النبوية خاصة، ولا بد له بعد ذلك أن يقرأ شيئًا عن حياة المسلمين بعد الإسلام، ونحن نراه في الرسالة ينتقل بعد ذلك إلى تملق ابن جهور مع شيء من الزهور والخيلاء، وقد امتد به نفسه طويلًا، فأكثر من الحكم والأمثال، كما أكثر من تضمين الشعر وجله في نثره، وكذلك أكثر من اقتباس آي الذكر الحكيم، وما من ريب في أن هذه صورة أخرى من صور التصنع، وهي صورة لا تبلغ ما بلغه المذهب في المشرق من تعقيد عند أبي العلاء وأصحابه، ولكنها على كل حال تأخذ من التصنع بأطراف قوية، وتذهب هذا المذهب نفسه الرسالة الهزلية، إذ نراه يسخر من ابن عبدوس متطرقًا في أثناء سخريته إلى ذلك كثير من الأمثال، وحوادث التاريخ وأعلامه، واستطاع في أثناء ذلك أن ينفذ إلى التأثر بالجاحظ في رسالة التربيع والتدوير، وانظر إليه يقول في بعض جوانبها عن السيدة، التي أرسلها ابن عبدوس: إنها زعمت لولادة: "أن بطليموس سوى الاضطرلاب بتدبيرك، وصورة الكرة على تقديرك، وأبقراط علم العلل والأمراض بلطف حسك، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك، وكلاهما قلدك في العلاج، وسألك عن المزاج، واستوصفك تركب الأعضاء، واستشارك في الدواء والداء، وأنك نهجت لأبي معشر طريق القضاء، وأظهرت جابر بن حيان على سر الكيمياء، وأعطيت النظام أصلًا أدرك به الحقائق، وجعلت للكندي رسمًا استخرج به الدقائق، وأن صناعة الألحان اختراعك، وتأليف الأوتار والأنغام توليدك وابتداعك، وأن عبد الحميد بن يحيى باري أقلامك، وسهل بن هارون مدون كلامك، وعمرو بن بحر مستمليك، ومالك بن أنس مستفتيك، وأنك الذي أقام البراهين، ووضع القوانين، وحد الماهية، وبين الكيفية والكمية". والحق أنك مهما قرأت في آثار الأندلسيين، فستراهم يرجعون دائمًا إلى أصول مشرقية يقلدونها، ويستمدون منها، إما في تنسيق الموضوع على نحو ما استفاد ابن زيدون من الجاحظ في رسالته الهزلية، وإما في العناصر التي يؤلفون منها نماذجهم على نحو ما رأيناه في الرسالة الجدية، إذ ذهب يستعين فيها بشعر لأبي ذؤيب، والمتنبي وغيرهما ينثره في أثنائها، وكما ذهب يستعين بأمثال قديمة. وهو ضيف إلى ذلك آيات من القرآن الكريم ألفاظًا يجمل بها عمله، وأيضًا فإنه يتصنع لذكر كثير من حوادث الديانات، وخاصة حوادث الإسلام كما يتصنع لكثير من أعلام التاريخ، وهذا هو الجديد الذي كان يأتي به ابن زيدون لبيان تفوقه وبراعته، وهي أشياء كلها ترد إلى المشرق، وليس للأندلس فيها إلا فضل النموذج ، الذي يجمعها بعضها إلى بعض، فإذا هي تستوي في صورة أدبية خاصة، ومع ذلك فليس من شك في أن ابن زيدون يوضع في الطبقة الأولى من كتاب الأندلس، وأدبائها على مر العصور!


ج-جمود النثر الأندلسي:
يذهب عصر ملوك الطوائف، وندخل منذ عام 484 للهجرة في عصر جديد هو عصر سلطان المغاربة، إذ فزع الأندلسيون في حروبهم مع المسيحيين إلى يوسف بن تاشفين، صاحب دولة المرابطين لينصرهم عليهم، فيذهب إليهم يرد عنهم كيد أعدائهم، ولكنه لا يتركهم، بل يدخلهم في حوزته، واستمرت الأندلس تابعة لدولته، حتى استولت عليها دولة الموحدين، وقد اشتهرت الدولة الأولى دولة المرابطين بالتعصب في مسائل الدين، وأصبح للفقهاء في عصرها شأن كبير، إذ كان لهم أثر واسع في دخول البلاد في هذا الحكم الجديد، وكان المرابطون لذلك يعتدون بهم، فهم عدتهم وعتادهم، ومن أجل ذلك سلموا لهم شئون الدولة، فاضطهدوا المتفلسفة، ورموهم بالزندقة وتعقبوهم في كل مكان. أما دولة الموحدين، فكان حكامها أوسع عقولًا وتفكيرًا، وقد اشتهر من بينهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن "558-580هـ" بمحبة الفلسفة وأصحابها، وممن ظهر في عصر هذه الدولة ابن باجة، وابن رشد وابن طفيل، ونستمر حتى نلتقي في القرن السابع ببني هود، وكذلك ببني الأحمر أصحاب غرناطة . واستطاعت الأندلس أن تتقدم في الحركة العقلية في أثناء تلك العصور، ولكنها لم تستطع أن تتقدم في الحركة الأدبية، إذ استعلى الفقهاء أول الأمر في الحكومة، وأصبح الحكام يتخذون منهم كتابهم، فطبعوا النثر بطابعهم العلمي الجامد، وكانوا يسجعون في كتابتهم، ويحلون سجعهم بالتصنع لبعض المصطلحات العلمية، التي عرفوها في دراستهم، وهم من هذه الوجهة أقرب إلى ذوق أصحاب التصنع في المشرق من كتاب عصر ملوك الطوائف، ولعل مما يتصل بذلك أنهم تصنعوا في كتابتهم للبديع، وما يتصل به من طباق وجناس، وأخذوا يعممون السجع في الكتابة التاريخية، وخاصة تلك التي تتصل بالترجمة للأدباء، على نحو ما نجد في "الذخيرة" لابن بسام و"قلائد العقيان" و"مطمح الأنفس" لابن خاقان، وقد جنح لسان الدين بن الخطيب، إلى السجع في بعض جوانب من كتبه، وكذلك صنع المقري في "نفح الطيب" و"أزهار الرياض"، وكل هذه الأعمال يحس الإنسان فيها بضروب مختلفة من التلفيق، والتصنع واللف والدوران حول المعاني، والصور التي يجترها الأدباء اجترارًا، وقد سرت حينئذ ظاهرة مهمة، وهي التعبير بالأساليب المحفوظة، التي لا تفصح عن فكرة محدودة، وارجع إلى الذخيرة أو إلى مطمح الأنفس إلى قلائد العقيان، فسترى هناك مقدمات يقدم بها الأدباء لا تعبر عن معان واضحة، وإنما تعبر عن صور جامدة متبلورة، وهذا هو معنى ما نقوله من جمود النثر الأندلسي، وابحث ما شئت في هذه العصور، فلن تجد جديدًا ولا ما يشبه الجديد، إنما تجد أدبًا مكررًا معادًا، قد كررت أساليبه وأعيدت عباراته مئات المرات بل آلاف المرات، ولا جديد فيه إلا ما يتصنع له الكاتب من مصطلح علمي، أو لون بديعي، أو إشارة إلى مثل، أو استخدام لغريب، أو نحو ذلك مما كان يعد آية في هذه العصور على بلاغة الكاتب، ومهارتها الفنية



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)