لسان الدين بن الخطيب:
هو، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد الغرناطي، ولد عام 713 للهجرة، وهو من بيت عرف قديما ببني الوزير، وحديثًا ببني الخطيب ، وهو بيت اشتهر بالعلم والفقه والأدب والطب، وقد روى صاحب نفح الطيب لأبيه شعرًا منه قوله :
الطب والشعر والكتابه ... سماتنا في بني النجابه ، وقد نسج لسان الدين على منوال أبيه، فكان "نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالإطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية" ، وقد ذكره ابن خلدون، وهو معاصر له فقال: "قرأ وتأدب على مشيخة غرناطة، واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل، وأخذ عنه العلوم الفلسفية، وبرز في الطب، وانتحل الأدب، وأخذ عن أشياخه، وامتلأ حوض السلطان من نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه، ونبغ في الشعر والترسل بحيث لا يجارى فيهما، وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره، وملأ الدنيا بمدائحه، وانتشرت في الآفاق، فرقاه السلطان إلى خدمته، وأثبته في ديوان الكتابة ببابه مرؤوسًا بأبي الحسن بن الجياب شيخ العدوتين في النظم، والنثر وسائر العلوم الأدبية" ، فلما توفي ابن الجياب ورث رتبته من بعده ، وثم توفي أبو الحجاج فازدادت منزلته عند ابنه أبي عبد الله إلى أن نشبت ثورة أبعدت السلطان، عن عرشه، وقبض فيها على ابن الخطيب وصودرت أملاكه، ولكنه تخلص من ذلك بشفاعة السلطان أبي سالم المريني، صاحب المغرب ولحق بسيده أبي عبد الله هناك وصحبه في غربته، ولما رجع أبو عبد الله أخيرًا إلى عرشه في غرناطة، استدعاه وألقى إليه بمقاليد الملك والسياسة "وانفرد بالحل والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت عليه الآمال، وغشي بابه الخاصة والكافة، وغصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتوافقوا على السعاية فيه" ، وأحس لسان الدين بذلك، ففر إلى أبي فارس المريني وكان قد ملك تلمسان فأكرمه ، إلا أن رجال حاشيته سرعان ما أوغروا صدره عليه، إذ اتهموه بالزندقة، فألقى به في غياهب السجون ودس إليه من قتله عام 776، وبذلك انتهت حياته هذه النهاية الدامية.
وقد كان لسان الدين أبرع كاتب أخرجته الأندلس في عصورها الأخيرة، حتى قيل: إنه كاتب الأرض إلى يوم العرض، وخصص له المقري مجلدين من نفح الطيب عرض فيهما عرضًا واسعًا لأساتذته، وحياته السياسية والأدبية . وإذا كان السان الدين لم ينجح في حياته السياسية، فقد نحج نجاحًا عظيما في حياته الأدبية، وهي حياة كانت منوعة، إذ لم يقف كتابته عند الرسائل الديوانية أو الشخصية، بل كتب كتبًا كبيرة في التاريخ والتصوف، والموسيقى والفقه والطب، وقد نهج لسان الدين في هذه الكتب نهج السجع، وإن كان لا يلتزمه دائمًا على نحو ما نعرف في كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة"، وهو مطبوع فإنه قلما يسجع فيه، ومن يرجع إلى رسائله يجدها تمتاز بالإطناب المسرف، وما يطوى في هذا الإطناب عادة من لف ودوران يجعلنا نذكر أصحاب التصنع في لمشرق، وإنه ليتسع بإطنابه حتى يفقد قارئه نشاطه؛ لأن منظر المعاني ينبسط أمام بصره انبساطًا يخرجها من حيز التنوع إلى حيز الاستمرار والإملال، وتنبه لذلك بعض السابقين فقال: "هو كاتب مترسل بليغ لولا ما في إنشائه من الإكثار، الذي لا يخلو من عثار، والإطناب، الذي يفضي إلى الاجتناب، والإسهاب، الذي يقد الإهاب" ، وليست ظاهرة الإطناب هي كل ما اقترضه في سجعه برسائله من أصحاب التصنع من المشارقة، بل تقترن بها ظاهرة أخرى معروفة لديهم، وهي ظاهرة التصنع لمصطلحات العلوم ، وخاصة العلوم اللغوية، وحقًا إن ابن الخطيب لا يكثر منها، ولكنها موجودة -على كل حال- في نثره ورسائله، ونحن ننقل إلى القارئ صدر رسالة كتب بها عن سلطانه إلى خليفة الموحدين بالأندلس، وهي رسالة طويلة تقع في نحو عشرين صحيفة من القطع الكبير، وهو يستهلها على هذا النمط : "الخلافة التي ارتفع عن عقائد فضلها الأصيل القواعد الخلاف، واستقلت مباني فخرها الشائع، وعزها الذائع، على ما أسسه الأخلاف، ووجب لحقها الجازم وفرضها اللازم، الاعتراف، ووسعت الآملين لها الجوانب الرحيبة والأكناف، فامتزاجنا بعلائها المنيف، وولائها الشريف، كما امتزج الماء والسلاف، وثناؤنا على مجدها الكريم، وفضلها العميم، كما تأرجت الرياض الأفواف، لما زارها الغمام الوكاف، ودعاؤنا بطول بقائها، واتصال علائها، يسمو به إلى قرع أبواب السموات العلا الاستشراف، وحرصنا على توفية حقوقها العظيمة وفواضلها العميمة، لا تحصره الحدود، ولا تدركه الأوصاف، وإن عذر في التقصير عن نيل ذلك المرام الكبير، الحق والإنصاف" . واستمر لسان الدين في هذه المقدمة طويلًا، ونحن نكتفي بهذه القطعة منها؛ لأننا نستطيع أن نتبين فيها الصفات لبعض مصطلحات العلوم، إذ تصنع لألفاظ القواعد، والمباني والجزم والحدود، وليس ذلك كل ما تميزه في هذه القطعة، فهناك جانب لعله أهم، وأدخل في باب التصنع، وذلك أنه بنى سجعاته في هذه القطعة كلها على الفاء، ولكن تأمل في القطعة، فإنك تراه استخرج من كل سجعة سجعتين داخليتين، وما من شك في أن هذا ضرب جديد من التصعيب، وصل إليه لسان الدين؛ لأنه يريد أن يثبت تفوقه في عصره، فإذا هو لا يسجع سجعًا بسيطًا على طريقة الكتاب الأندلسيين من قبله، وإنما يسجع هذا السجع المركب إن صح هذا التعبير، واستمر معه في الرسالة فستراه يصف حصار سلطانه لقرطبة على هذا النحو: "ثم تأهبنا لغزو أم القرى الكافرة، وخزائن المزاين الوافرة، وربة الشهرة السافرة والأنباء المسافرة، قرطبة، وما أدراك ما هيه، ذات الأرجاء الحلية الكاسية، والأطواد الراسخة، والمباني المباهية، والزهراء الزاهية، والمحاسن غير المتناهية، حيث هالة بدر السماء، قد استدارت من السور المشيد البناء ونهر المجرة، من نهرها الفياض، المسلول حسامه من غمود الغياض، قد لصق بها جارًا، وذلك الدولاب، المعتدل الانقلاب، قد استقام مدارًا، ورجع الحنين اشتياقًا إلى الحبيب الأول وادكارًا، حيث الطود كالتاج، يزدان بلجين العذب المجاج، فيزرى بتاج كسرى ودارا، حيث قسي الجسور المديرة، كأنها عوج المطي الغريرة، تعبر النهر قطارًا، حيث آثار العامري المجاهد، تعبق بين تلك المعاهد شذى معطارًا، حيث كرائم السحائب، تزور عرائس الرياض الحبائب، فتحمل لها من الدر نثار، حيث شمول الشمال تدار على الأدواح، بالغدو والرواح، فترى الغصون سكارى، وما هي بسكارى، حيث أيدي الافتتاح، تفتض من شقائق البطاح، أبكارًا، حيث ثغور الأقاح الباسم، تقبلها بالسحر زوار النواسم، فتخفق قلوب النجوم الغيارى، حيث المصلى العتيق قد رحب مجالًا وطال منارًا، وأزرى ببلاط الوليد احتقارًا، حيث الظهور المثارة بسلاح الفلاح تجب عن مثل أسنمة المهارى، والطبون كأنها -لتدميث الغمائم- بطون العذارى".
وأنت ترى لسان الدين في هذه القطعة، يلتزم لازمة السجع المركب التي لاحظناها في القطعة السابقة، وقد ظهرت هنا عليه آثار التكلف بأوسع مما ظهرت في القطعة السالفة؛ لأنه كان هناك بادئًا للرسالة، أما هنا فقد طال به النفس، فظهرت علامات التعب عليه، وكلمة التعب لا تكفي، فإن ما أداه في هذه القطعة لا تنهض به هذه الكلمة، وإنما تنهض به كلمة أخرى كالتصعيب أو التعقيد، والحق أن لسان الدين كان يسعى حثيثًا في أعماله إلى التمسك بأهداب مذهب التصنع، الذي شاعر في المشرق، وقد ذهب يقترح على الكتاب هذا السجع المركب ليدل على مبلغ تفننه وجودة ترسله، وإنه ليضيف إلى ذلك تكلفًا واسعًا، لألوان البديع وزخارفه، وخاصة السجع والجناس: وكانت يشغف -كما نرى في هذه القطعة- بالجناس الناقص، ولكن لا تظن أن هذا هو منهج لسان الدين الدائم، فقد كان الكاتب الأندلسي يتنقل بين المفاهيم المختلفة للمشارقة، ومن أجل ذلك كنت ترى عند لسان الدين رسائل كهذه الرسالة تندمج في ذوق أصحاب التصنع، وما تلبث أن ترى له رسائل أخرى تندمج في ذوق أصحاب التصنيع، وقد ينفر من الذوقين جميعًا، كما نرى في كتابه "الإحاطة"، وإذا فابن الخطيب لا يرتبط بمذهب معين من مذاهب المشرق، بل هو يتنقل بين هذه المذاهب، وإن كان أقرب مذهب إلى ذوقه وذوق عصره هو مذهب أصحاب التصنع، ولكن ذلك لا يمنع أن نجد عنده نماذج يحاكي بها أصحاب الصنعة والتصنيع، وهذا شيء لا يختص بلسان الدين ولا بنماذجه، بل هو عام في الأندلس لعصره وقبل عصره، فدائمًا نجد الكاتب الواحد تتوزعه مذاهب المشرق المختلفة، وغاية ما في الأمر أن الأندلسيين، كان يغلب عليهم في العصر الأموي ذوق أصحاب الصنعة، بينما كان يغلب عليهم في عصر ملوك الطوائف ذوق أصحاب التصنيع، أما بعد ذلك فقد غلب عليهم ذوق أصحاب التصنع، ومع ذلك فقد درسنا ابن شيهد، فوجدناه يتوزعه المذهبان الأولان، بينما كان ابن زيدون في عصر ساد فيه ذوق التصنيع، ومع ذلك، فقد رأيناه في بعض رسائله، ينحو نحو أصحاب التصنع من بعض الوجوه، وهذا لسان الدين ذوقه وذوق عصره تصنع، واندمج في التصنع، ومع ذلك فله رسائل تخلو من هذا التصنع، بل قد تخلو من التصنع والتصنيع جميعًا، وهذا نفسه هو ما نريد أن نصل إليه، وهو أن الكتاب في الأندلس، كانوا يخلطون في محاكاة المذاهب المشرقية ونماذجها، فلم يتقيد أحد منهم بمذهب معين من جهة، ولم يدرسوا مذاهب المشرق دراسة علمية منظمة من جهة أخرى، بحيث تتيح لهم هذه الدراسة أن يبتكروا مذهبًا أو يستحدثوا اتجاهًا، فقد كانوا جميعًا يعيشون في إطار المذاهب المشرقية معيشة، تجلعنا نزعم أن أصول هذه المذاهب، كانت أثبت وأروع في تاريخ النثر العربي من أن يصيبها الأقاليم المختلفة بتبديل، أو تغيير.



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)