[SIZE="5"][align=justify]
فن القصة
في الأندلس
أ-مقدمة :
تعد القصة أحد الفنون الأندلسية المميزة ، والتي سبق فيها الأندلسيون أقرانهم المشارقة ؛ وهي لم تحظ في بلاد الأندلس بما حظي به الشعر من اهتمام غير أن القليل الذي وصل منها جدير بالعناية والدراسة والتحليل . ومن المعروف أن الأدب الوعظي يعد نمطاً من أنماط الأدب، وهو ذو صلة وثيقة بالخطابة ، وقد ازدهر هذا اللون في الأندلس ازدهاراً واسعاً طوال عصر المرابطين والموحدين، إذ حلفت المساجد بالوعاظ القصاص الذين كانوا يقصون على الناس أساطير الأولين، وسير الأنبياء وأخبار الصالحين، يستخلصون منها العبر والعظات، ليردوا إلى الناس إيمانهم، فتنفعل بمواعظهم نفوس الحاضرين فيبكون خشوعاً لله تعالى. فأبو عبد الله البغدادي (ت 546هـ) كان يجلس بمسجده المنسوب إليه بمدينة جيان " للوعظ والقصص وإيراد حكايات الصالحين، ونحا منحى الزهد، وكانت العامة تنتاب مجلسه ". وكذلك فقد اتخذ خطباء الزهد في هذا العصر القصة سبيلاً للتمثيل، يعظون السامعين بأحداثها، لأنها أكثر إثارة للمتلقي، وبعثاً لأحوال التشويق والمتعة فيه. وقد دأب القصاص الوعاظ على استلهام مادة قصصهم الوعظية من القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، وسير الأولياء الصالحين، فكان القرآن الكريم الينبوع الفياض الذي ينهل منه الوعاظ عظاتهم، ففيه أحسن القصص وأبلغ المواعظ عن الأمم التي ذهبت جراء عصيانها والأخرى التي أطاعت واعتصمت بتعاليم دينها.
ب-أشهر الوعاض القصاص :
1-اشتهر الزاهد أبو المطرف بن عميرة من بين هؤلاء الوعاظ بمجالسه الوعظية التي كان يصنعها للواعظ الصالح أبي محمد بن علي بن أبي خرص. ومما جاء فيها قصة آدم-عليه السلام - وإهباطه من الجنة إلى الأرض، يقول على سبيل العظة والعبرة:"... ويح ابن آدم، أما يذكر قصة أبيه ويقيس يسير جنايته بعظيم ما يجنيه، زاد عليه في المخالفة طولاً وعرضاً، فليته أعطى من ندامته ولو بعضاً، زلة أهبطته من جنة المأوى، وأدنفته حتى أعلى بالشكوى".
2-وعُرف ابن عميرة نفسه" بفصوله الوعظية " التي تناول في بعضها قصة العبد المؤمن بلال بن رباح مع الظالم الطاغية أمية بن خلف، إذ صَوّر فيها صبر بلال وجلده على تعذيب أمية إياه، مشيراً إلى مقتل أمية على يد بلال في غزوة بدر الكبرى: " يوم الفتح تبين خطل بن أخطل وقد عاذ بمكانه، ونعم بال بلال حين غاظ بعض السامعين بأذانه، ما ضرَ الحبشي لونه وإن ازدروه، ولا نفع القرشى كونه أحد مَنْ داروا حوله وداروه. ما أقرضه بمكة سلا لسيف العدوان وانتضاه، فعلى القليب قضاه إياه... أَغرى به سفهاء مكة، فحشر عليه سراة يثرب، أقعده في الرمضاء حتى حمى، فضربه بسيوف حتى برد".
صاحب رجاء غد عسى الأيام أن
واستعمل البُقيا حذار جناية
ضل امرؤ جعـــل الإســـاءة عـــــــادة يرجعن قوما كالذي قد كانوا
تجزى بها، فكما تُدين تدان
ويرى المتوبـــــــة أنـــــها إحســـــــــــــان
تحليل القصة الوعظية :
1-تبرز في هذا النمط من القصص الوعظي قدرة القاص على استكمال أدوات القصص الديني حتى يستميل قلوب السامعين وافئدتهم قصد التأثير فيهم،
2-استخدم القاص ألوان البديع المتنوعة من سجع وجناس وطباقِ لتحلية ألفاظه وتنميق معانيه ولتوليد الإيقاع الموسيقي المعبر عن المعاني والأحاسيس،
3- وشى قصصه بأشعار من نظمه هو، فجاءت أبياته في نهاية الفصل الوعظي بمثابة تلخيص لمضمونها، وإيذاناً للمستمع بنهاية القصة وختامها.
4- أظهر الواعظ قدرته البارعة على عرض الأحداث التاريخية بطريق مشوقة، مستخدما
أ- الإشارات والتلميحات
ب-معتمداً على ثقافة المستمع وفهمه،
فهو يشير إلى انتصار المسلمين في غزوة بدر، وإلى منزلة بلال بكونه مؤذن الرسول الكريم، ويومئ إلى المكان الذي ألقى فيه زعماء مكة يوم بدر وهو القليب.
3-أما القاضي عياض فيقول: "أين الذين عتوا على الله وتعظموا، واستطالوا عباده وتحكموا، وظنوا أنه لن يقدر عليهم حتى اصطلموا " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا، وجعلنا لمهلكهم موعدا". وغرهم الأمل، وكواذب الظنون، وذهلوا عن طوارق القبر وريب المنون وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون،حتى إذا رأوا ما يوعدون، فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً....، فإنه يُذكر بمصير الأمم الداثرة التي ذهبت جزاء عصيانها في خطبة له ضمنها آيات من القرآن الكريم للتأسي والاعتبار ، واتخذ بعض الوعاظ من قصص الأنبياء والمرسلين وأخبار الصحابة والأولياء الصالحين مادة للوعظ، ليقتدى الناس بسيرتهم، ويسلكوا سبيلهم،
4-ولابن الجنان موعظة بليغة سرد فيها قصة بعث المصطفى عليه، الصلاة والسلام، وما مرَ به من مواقف وأحداث، قصدا استخلاص العظة والعبرة. يقول في خطبة طويلة له متحدثاً عن معجزات الرسول الكريم محمد: " أُعطى من المعجزات ما مثله آمن عليه البشر، وكانت له في الغار آيات بينات خفى بها على القوم الأثر، وارتج لمولده إيوان كسرى، وخمدت نار فارس وكان ضرمها يتسعر، وأتته أخبار السماء فما عمي في الأرض الخبر، فحدث عن الغيوب وما هو على الغيب بضنين. وجعل له القرآن معجزة تتلى، يبلى الزمان وهي لا تبلى، وتعلو كلماتها على الكلم ولا تُعلى ".
تحليل القصة :
أ-يحاول الواعظ أن يربط بين قصص الملوك الغابرين ذوي الجاه والسلطان وبين ما يجري في عصره من أحداث،
ب- يتخذ من تلك القصص وسيلة للتحريض على الجهاد ضد أعداء الدين، فما دام الموت قد أفنى أولئك الجبابرة، فلم تبق إلا آثارهم،
ج-على الأندلسيين استخلاص العبرة والعظة من سيرتهم، فينبذون الدنيا وزخرفها، وينهضون إلى جهاد حملة الصليب الإسبان.
5- يقول ابن أبي الخصال في خطبة له:"... سلوا الكواكب إذا اصطفت في مجاريها، ورفت في غدائر الظلماء مداريها عن ملوك نيط سلطانهم بالنجوم وصياصيها، وعقت تيجانهم بنواصيها، عاجلهم -والله - الفطام، وهمدوا كما همد الحطام، ولفظتهم تلك القصور والآطام، فما عندهم من أمان لخائف، ولا مقام لطائف، فهل منكم مشتر لنعيمهم وملكهم بدرهم زائف، لشد - والله - ما زهدتم وبخلتم، ولحق أن تخالوا فيما خُولتم غير ما خلتم ".
وجُماع القول في الخطب الدينية ذات الطابع الزهدي القصصي أنها نجحت في
أ-استيعاب المضامين الفكرية للزهاد،
ب-وفي إيصال رسالتهم إلى الناس قصد إرشادهم وهدايتهم إلى طريق التقوى والرشاد،
ج-ورسم قواعد السلوك الاجتماعي القويم الذي يجدر أن يتحلى به كل عاقل أريب.
د-استمالة القلوب والأسماع،
ه-الحرص على إقناع جمهور المخاطبين بما يدعون إليه،
و- لم يغفل القصاص الجانب الفني لقصصهم،
ز- اعتنوا بقصصهم الوعظية عناية كبيرة إلى جانب فصاحتهم العربية، وبلاغتهم الفطرية، فبدت آثار الإعداد واضحة جلية في كثير منها،
ح- مال القصاص الوعاظ إلى الاهتمام بإعداد قصصهم، والتأني في صوغها، والتدبر في ترتيب أجزائها، وتنسيق أفكارها،
ط-وكانوا يتأنفون في أسلوبها فيدبجون فيها ضروبا من المحسنات البديعية، والصور البيانية التي تزيد المعنى وضوحاً وجلاء، والفكرة رونقاً وبهاء،
ي- استكملت الوعظية الوعظية على أيديهم مقومات بنائها الفني.
وكانت قصصهم في نجوة من الضعف والتردي في زخرف التصنيع اللفظي ،
ك-كما أنها كشفت بوضوح عن قدرة الأندلسيين في القصة الوعظية الخطابية، وعما كانوا يتمتعون به من فصاحة القول وحسن البيان، وجودة الإبانة والإفهام، مما أهلهم للالتحاق بركب الخطباء المقتدرين.
ج-ومن نماذج القصة في الأندلس :
1-قصة (حي بن يقظان ) :
أ- وهي الشهيرة تعتبر من أكبر الأعمال القصصية في العصور الوسطى ليس في الأدب العربي فقط وإنما في العالمي أيضاً . ومؤلفها هو الفيلسوف المشهور والطبيب والعالم والشاعر ابن طفيل وهو تلميذ لفيلسوف الشرق ابن سينا وقصته أقرب إلى القصص الفكري منها إلى الأدبي وتنبع أهمية هذه القصة من هدفها السامي وهو الوصول إلى معرفة الخالق والإيمان به .
ب-وملخصها : أن ( حي ) هو وليد من غير أبوين ولد في جزيرة نائية من جزر الهند ( وفي رواية أخرى ولد لأم وأب في جزيرة نائية وخافت أمه من أخيها لأنها تزوجت دون علمه فألقت بحي في اليم فحمله المد إلى ساحل جزيرة أخرى ) والمهم أن حي كان وحيدا ومحتاجا إلى رعاية وعناية فأخذته ظبية شفقة عليه فقامت بإرضاعه وتغذيته حتى نشأ على سليقة أمه الظبية فحاكى الظباء في حركاتها وطباعها وأصواتها ثم كبر وتعلم المشي وفكر في أمر نفسه وقارن بينها وبين الحيوانات الأخرى في الجزيرة فوجد أن الحيوانات مستورة وهو عار فعمل على ستر جسمه بأوراق الشجر ولاحظ أنها مسلحة وهو أعزل فتسلح بعصا من أغصان الشجر ثم فكر بالصيد لاستغلال يديه وأخذت أساليب تعامله مع الحياة ترقى وتتحسن فاستعاض عن أوراق الشجر بأثواب من جلد النسور التي كان يصيدها ثم بدأ يهتم بما عنده من حواس مختلفة وتستمر قدراته في النمو نتيجة التجارب التي قام بها حتى تعلم غزل الصوف والملابس وتعلم فن البناء وأخذ يقوم بتشريح الحيوانات وعمل تجارب عليها ومعرفة وظائف أعضائها .. وهكذا وكأن هذه القصة باختصار تحكي عن تطور الإنسان وعن طريق التجربة والاستقصاء يتمكن ابن طفيل من الوصول إلى نتيجة ومن ثم إلى ثانية وثالثة وهكذا وهو ما يعتبر شيئاً جديداً في ميدان القصة الفلسفية والعلمية التجريبية وتأخذ معارف ( حي ) في التقدم فيدرس المعادن والروح التي فطن إلى وجودها حين اكتشف قلب الظبية ( أمه ) بعد أن ماتت وشرح جسمها وتقوده دراسته إلى النفس الحيوانية والنباتية وتتطور معارفه لتصبح فلسفة يؤمن بها إيمان المجرب وفي النهاية يتوصل إلى قناعة مفادها أن لكل موجود علة فأخذ يبحث عنها في الطبيعة ولكنه لم يتوصل لشيء لأن جميع ما في الطبيعة عرضة للتحول والفساد فحاول أن يبحث عنها في الأجرام السماوية وبدأ يتأمل السماء وهل هي ممتدة إلى ما لانهاية أم لا ثم تصورها كروية واستنتج ضرورة وجود أفلاك خاصة بالكواكب وهكذا شيئاً فشيئاً وبالتدريج يقترب من معرفة الله ويصل لنتيجة مفادها أن محرك هذا العالم لا بد أن يكون خارجاً عنه ثم أمعن النظر في فكرة الله الخالق وتوصل لمعرفة صفاته نتيجة دراسته لصفات الكائنات ثم ينتهي الأمر به إلى الإيمان بالله خالق الكون ومبدعه وأنه قادر وعاقل وعليم ورحيم .. ولا شك أن هذه القصة العظيمة والرائدة متأثرة شأنها شأن كل قصة بشخصية صاحبها الفيلسوف ولذلك فقد غلبت على تفاصيلها
ج-(قصة حي بن يقظان وأثرها في قصة "روبنسون كروزو" وغيرها)
1-تطور القصة في الأدب العربي :
في التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان "حي بن يقظان"، وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخصٍ نشأ في جزيرة وحده، وتصور علاقته بالكون والدين.
أول منشئ لقصة "حي بن يقظان" هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلفٍ من بين هؤلاء الأربعة هو ابن طفيل، وبسبب من شهرة هذه الرواية قيل إن قصصًا غربيةً مثل قصة "روبنسون كروزو" و"طرزان" قد نسجت على منوالها. وتُعَرِّف مادة "حي بن يقظان" في الموسوعة العربية العالمية برواية ابن طفيل فتقول: "حي بن يقظان اسم قصة عربية أصيلة، تمثل شكلًا باكرًا من أشكال الفن القصصي عند العرب، وتبرز أنماط فهم الناس للدين؛ كما تظهر آراء صاحبها ومفهومه في قضايا العقل والشريعة، كتبها فيلسوف غرناطة في القرن السادس الهجري، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن الطفيل القيسي، توفي سنة خمسمائة وإحدى وثمانين للهجرة، ولم ينقل لنا من أعماله -وهو مقل- غير هذه القصة". وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي . نشأ بطل القصة حي بن يقظان في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها، وبعد أن نمى وترعرع تأمل الكون الذي حوله ، فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة؛ وينتقل إلى جزيرة أخرى فيلتقي بشخصين وهما سلامان وأبسال؛ يعلم الأول منهما أهل الجزيرة الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا الحقائق الإلهية، والوجودية عن طريق ضرب الأمثال. بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي، وفيه نزعة صوفية . ويدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أن ما توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورثه أبسال عن طريق النبوة، إنْ هُو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكونُ واحد، والخالق واحد، وهو رَبُّ السّماوات والأرض، وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرة للعامة على إدراك الحقيقة المجردة، التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي . والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن حيًّا لا يُكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، ويعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليعبدا الله عبادة روحية خالصة، حتى يأتيهما اليقين . وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتؤكد قصة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وترجمة إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة، وكان ابن طفيل أستاذًا لابن رشد الذي سماه "دانتي" الشارح الأكبر، والذي عن طريقه عرفت أوربا في عصر النهضة أرسطو وفلسفته . وقد حدد ابن رشد ثلاثة مستويات لفهم الشريعة والدين، وهي ليست بعيدة عن جوهر ما ذهب إليه ابن طفيل في (حي بن يقظان) فهناك فهم العامة للدين، وفهم الخاصة، وفهم خاصة الخاصة وإن كان للدين جوهر واحد لا يتغير. وقصة "حي بن يقظان" وضعت أيدينا على تباين المستويات لهذا الفهم، بشكل روائي قصصي يطرح قضية فلسفية، وتتجلى براعة ابن طفيل في مزجه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده؛ لتسويغ هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا، وقد ذكر ابن طفيل تأثره في قصته بفلسفة ابن سينا. وفي قصة "حي بن يقظان" جوانب من النضج القصصي، وإن كان قالب القصة ليس سوى إطار لصب الآراء الفلسفية والصوفية في النص، وقد قدر كثير من النقاد هذا الجهد القصصي لابن طفيل، فعدوا "حي بن يقظان" أفضل قصة عرفتها العصور الوسطى جميعًا. وهناك روايتان تفسران لنا ولادة حي بن يقظان:
الأولى: تقول إنه تولد من الطين في جزيرة جنوب خط الاستواء تسمى الوقواق، وهي جزيرة خيالية كما هو واضح. على حين تخبر الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا، فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت وأسلمته لليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة، وتصادف أن مرت في هذا المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته؛ فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه فعثرت على الطفل الرضيع؛ فأخذته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهت.
ويكبر حي بن يقظان، وتمر حياته بسبع مراحل -كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسوعة "الويكيبيديا": أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها له، ورعايتها إياه حتى بلغ سبع سنوات. ثم بعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة. وهنا تأتي المرحلة الثالثة، وكانت في اكتشافه للنار. أما المرحلة الرابعة : فكانت في تصفحه لجميع الأجسام، التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يكتشف الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور. وتلا ذلك المرحلة الخامسة : وكان في اكتشاف الفناء، وهذا شجعه إلى الخروج من رصده إلى معارف في العالم بقدمه وحدوثه . وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ حي مرحلته السادسة: وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد كما شعر داخله بالشوق إلى واجب الوجود. وأخيرًا يدرك حي بن يقظان في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة، لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياةٍ رسمها هو نفسه . وتمثل هذه القصة العقل الإنساني الذي يستطيع بجهده الذاتي، أن يصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل، كما تؤكد أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية؛ وقد تركت آثارها على كثير من الجامعات والمفكرين، وتُرجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة . ومن الواضح أن ابن طفيل في إيراده الروايتين اللتين تفسران مولد حي بن يقظان، إنّما يجري على ما جاء في القرآن من أن الإنسان كجنس من أجناس الكائنات، قد جبل من الطين إلا أنه كأفراد لا يتولد من التقاء رجل بامرأة؛ ذلك أن هذه القصة إنما تعكس تطور الجنس البشري على الأرض، منذ خلق الله الإنسان إلى العصر الذي كان يعيش فيه ابن الطفيل، إذ من المستحيل أن يتطور الفرد الإنساني بهذه الطريقة، وبتلك السرعة، وعلى هذا النحو السلس الذي تطورت به حياة ابن يقظان في القصة، فيكتشف النار مثلًا، ويَعرفُ التّشريح والتفكير العلمي المنهجي، والتأمل في الكون، والإيمان بالله وبالآخرة، وبضرورة الأخلاق الفاضلة، وما إلى هذا بتلك البساطة وفي ذلك الزمن القصير. فهي بهذا قصة رمزية؛ ولولا رَمزيتها لما قبلنا أن تقوم غزالة بإرضاع طفل بشري، أو تنظفه من وساخاته وفضلاته، أو تحميه من الآفات الطبيعية، والهوام والحشرات والزواحف التي تعج بها الغابات، أو تحمله على ظهرها من مكانٍ إلى مكان، ببساطة لأن هذا أمر مستحيل، وقد صب ابن طفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشرعية، أو بين الفلسفة والدين -كما سبق أن أومأنا- وهي فكرة كان يتبناها بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، إذ كانوا يقولون إن العقل الإنسان كافٍ وحده لوصول الإنسان إلى الحقيقة، بشأن وجود الله ومعرفة صفاته والإيمان بالآخرة. ومن ثم وجوب تحمل المسؤولية، واستحقاقه للحساب الإلهي، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب. وكانوا يفسرون الرسول في قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [ الإسراء: 15] بأنه هو العقل، وهذا التفسير يعكس شططًا في التفكير، إذ لا تساعد عليه اللغة العربية، ولا النصوص القرآنية والحديثية، ولا ريب أن نصوصًا قرآنية
مثل قوله تعالى في سور "النساء": { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [ النساء: 163 – 166] ، أو قوله في سورة "طه": { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى * وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [ طه: 133، 134] هذه النصوص تدل دلالة قاطعة على أنه لا حساب، ولا ثواب، ولا عقاب، دون رسل من البشر لا من العقل؛ حسبما يقول بعض الفلاسفة والمتكلمين المسلمين. ثم لو كان العقلُ وحده كافيًا في مثل تلك الأمور؛ فلماذا لم يكل الله عباده إليه؟ كذلك فمعروف لنا جميعًا من تجارب التاريخ الواقع الأليمة، أنه رغم إرسال الأنبياء والرسل، فما زال وسيظلُّ هُناك كفارٌ، ومنافقون، ومتمردون، ومتشككون، ومؤمنون، وعصاة، وظلمة ومستبدون وطغاة، ولصوص وقتلة، وزناة وكسالى، وسبابون، ومغتابون؛ فما بالنا لو ترك الله البشر لعقولهم المجردة دون أن يبعث إليهم برسلٍ تأخذ بيد تلك العقول، وتشير لها إلى الطريق، وتعينها على التفكير السليم.
2- "حي ابن يقظان" وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي:
في التراث العربي يوجد أكثر من قصة بعنوان (حي بن يقظان) وهي قصة رمزية تدور حوادثها حول شخص نشأ في جزيرة وحده، ويتصور علاقته بالكون والدين، وأول منشئ لقصة (حي بن يقظان) هو الفيلسوف ابن سينا، ثم أعاد كتابتها شهاب الدين السهروردي، وبعدها صاغها من جديد فيلسوف أندلسي بن الطفيل، ثم كانت آخر رواية القصة بقلم ابن النفيس. على أن أشهر مؤلف بين هؤلاء الأربعة هو ابن الطفيل، وبسبب شهرة هذه الرواية قيل: إن قصصًا غربية مثل مثل قصة (روبنسون كروزو) و (طرزان) قد نُسِجت على منوالها . وقد صَبَّ ابن الطفيل في هذه القصة آراءه القائلة بعدم التعارض بين العقل والشريعة، أو بين الفلسفة والدين في قالب روائي قصصي، إذ نشأ بطل القصة (حي بن يقظان) في جزيرة معزولة، وكان قد ألقي فيها طفلًا، أو نشأ بشكل طبيعي من مادتها وترابها حسب الروايتين المختلفتين، وبعد أن نما وترعرع تأمل الكون من حوله؛ فوصل إلى حقيقة التوحيد بالفطرة . ثم انتقل إلى جزيرة أخرى، فالتقي بشخصين هما: سلامان وأبسال، فوجد الأول منهما يعلم أهل الجزيرة -الذين يتدينون تدينًا سطحيًّا- يعلمهم الحقائق الإلهية والوجودية عن طريق ضرب الأمثال، بينما يميل الثاني إلى التأمل والنظر العقلي وفيه نزعة صوفية. ويُدرك حي بعد أن يتفاهم مع أبسال أنّ مَا توصل إليه من إدراك لحقائق الوجود والكون بالفطرة، وما ورِثه أبسال عن طريق النبوة، إن هو إلا وجهان لحقيقة واحدة؛ فالكون واحد، والخالق واحد، وهو رب السماوات والأرض وصانع الموجودات، قد نصل إليه عن طريق التأمل الذاتي كأفراد، لكن الجماعات بحاجة إلى طريقة أبسال في ضرب الأمثال الحسية لمعرفة ذلك؛ لأنه لا قدرةَ للعامة على إدراك الحقيقة المجردة التي قد يصل إليها أصحاب التأمل الذاتي والنظر العقلي. والنبوة حق ولا بد منها، والخليقة بحاجة إليها للوصول إلى معرفة الخالق، إلا أن (حي بن يقظان) لا يكاشف أهل الجزيرة بالحقيقة كلها، بل يعود مع أبسال إلى الجزيرة الأخرى؛ ليَعْبُد الله عبادة رُوحيّة خالصة؛ حتى يأتيهما اليقين. وتمثل القصة العقل الإنساني الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل إلى حقائق الكون والوجود بالفطرة والتأمل بعد أن تلقاها الإنسان عن طريق النبوة، وتُؤَكِّد قِصّة (حي بن يقظان) على أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية، وقد تركت آثارها على كثير من الجماعات والمفكرين، وترجمت إلى اللاتينية واللغات الأوربية الحديثة. وتتجلى براعة ابن طُفيل في مَزْجِه الأفكار الفلسفية الدقيقة بالقصص الشعبي، وفي جهده لتصوير هذه الأفكار منطقيًّا وفنيًّا. وهُناك رِوايتان تفسران لنا ولادة (حي بن يقظان): ، على حين تخبرنا الرواية الأخرى بأنه قد ولد لأميرة تزوجت على غير إرادة أخيها الملك، من قريب لها اسمه يقظان، ثم أنجبت منه طفلًا؛ فخافت أن يفتضح أمرها، فيعاقبها أخوها عقابًا رهيبًا هي وزوجها؛ لأنه لم يكن يريد لها أن تتزوج، فألقت ابنها في تابوت، وأسلمته إلى اليم الذي حمله إلى جزيرة مهجورة. وتصادف أنْ مَرّت في المكان الذي استقر فيه التابوت غزالة كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته، فسمعت صوت بكاء فاتجهت نحوه، وكان أن عثرت على الطفل الرضيع فأخته وأرضعته وحضنته وربته، وكانت تحمله هنا وهناك أينما اتجهتْ. ويَكْبُر (حي بن يقظان)، وتمر حياته في سَبعِ مراحل كما يقول كاتب مادته في النسخة العربية من موسعات "اليوكيبيديا": أما الأولى: فهي إرضاع الغزالة لحي وحضانتها ورعايتها له، حتى بلغ سبع سنوات، ثم بَعد ذلك وفاة الغزالة وتشريحها من قبل (حي بن يقظان)؛ لمعرفة سبب الوفاة، حيث بدأت تتكون عنده المعرفة عن طريق الحواس والتجربة.
وهنا تأتي المرحلة الثالثة وكانت اكتشافه للنار. أما المرحلة الرابعة فكانت في تصافحه لجميع الأجساد التي كانت موجودة حوله، إذ جعل يَكْتَشِفُ الوحدة والكثرة في الجسم والروح، وتشابه الكائنات من مادة، واختلافها في الصور. وتلا ذلك المرحلة الخامسة وكانت اكتشاف الموت ، وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره بدأ حي مرحلته السادسة، وهي مرحلة الاستنتاج بعد التفكير؛ فتوصل إلى أنّ النّفس مُنْفَصلة عن الجسد، كما شعر داخله بشوق إلى واجب الوجود. وأخيرًا يُدرك (حي بن يقظان) في المرحلة السابعة أن سعادته لا تتحقق إلا في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود، والبقاء داخل حياة رسمها هو لنفسه. هذا عن (حي بن يقظان)، فماذا عن سيرورتها خارج النطاق العربي الإسلامي، وتأثيرها في الفكر والأدب العالمي؟ تجيب على ذلك ذات المادة من موسوعة "يوكوبيديا" في نسختها الإنجليزية؛ فقد جاء فيها: أنه ظهرت لرواية ابن طفيل ترجمة لاتينية عام ألف وستمائة وواحد وسبعين، بقلم "إدوار بيكوك"، الذي كان قد أعدها منذ عام ألف وستمائة وستين، وأنها قد أوحت للمفكرين بمفهوم " tabula raza " أي: العقل في حالته الأصلية قبل أن تدخله أية فكرة أو معلومة، وقبل أن يخبر الحياة بعد، أو يعرف أي شيء فيها، وهو المفهوم الذي اعتبره " jon lok " في رسالات هذه " any say konsarneing human andr standeng ". وكان لوك تلميذًا لبيكوك وقرأ ترجمته لكتاب ابن الطفيل وأبدى إعجابه به، كما أوحت (حي بن يقظان) إلى "روبرت بويل" بكتابة روايته " tha asbiring natshral last ". التي تقع أحداثها أيضًا فوق جزيرة من الجزر. أما أول ترجمة إنجليزية فقد صدرت عام ألف وستمائة وستة وثمانون بقلم جورج أشول، اعتمادًا على الترجمة اللاتينية السالفة الذكر، ثم تُرجمت مرة أخرى إلى الإنجليزية من العربية مباشرةً عام ألف وسبعمائة وثمانية، على يد "سايمون أوكلي" لتظهر بعدها ترجمتان إنجليزيتان أخريان، كما أشار مُحَرِّر المَادة إلى اطلاع "سبينوز" الفيلسوف الألماني على الرواية، وتشجيعه أحد أصدقائه على ترجمتها للهولندية، فكانت الترجمة التي ظهرت سنة ألف وستمائة واثنتي وسبعين، والتي ظهرت ترجمة هولندية أخرى بعدها بنحو ثلاثة عقود . كما ظهرت ترجمتان ألمانيتان أخريان، وقد اطلع الفيلسوف الألماني "لايبرتس" على إحدى هاتين الترجمتين، وأثنى على ما في الرواية من فلسفة عربية إسلامية ثَنَاءً كبيرًا، وبالمثل اطلع أساتذة السُّوربون على ترجمة "بيكوك" وكانوا مبتهجين بها أشد الابتهاج. وفي سنة ألف وسبعمائة وتسعة عشر ألهمت إحدى الترجمات الإنجليزية ل (حي بن يقظان) الروائي "دانيل ديفو" فكتب روايته (روبنسون كروزو) التي جرت وقائعها في إحدى الجزر المهجورة، وهو العمل الذي يعده مؤرخو الأدب أول رواية إنجليزية. ثم ظهرت رواية أخرى عام ألف وثمانمائة وواحد وستين في بريطانيا على نفس الشاكلة، تحتوي على أشياء كثيرة جدًّا من ترجمة "بيكوك" ل (حي بن يقظان)، ثم أُريدَ طَبع تَرجمة بيكوك ثانية عام ألف وثمانمائة وأربعة، أما ترجمة ابن يقظان إلى الأسبانية؛ فقد تأخر ظهورها لبداية القرن العشرين، ثم ظهرت ترجمة فرنسية لها في نفس العام بقلم المستشرق "بيونج تيه". وفضلًا عن هذا كانت (حي بن يقظان) إرهاصًا على نحو من الأنحاء برواية "جان جاك روسو إيميل" كما أن بينها وبين رواية (كيبرينج ذا جانجل بوك) شبهًا واضحًا، وكذلك بينها وبين رواية (طرزان) التي ألفها "إيدجر رايس باروزوا" وتدور حول طفل رضيع هجرته أمه في جزيرة استوائية خالية من السكان، حيث التقطته وربته واعتنت به ذئبة من الذئاب . وهناك كتاب مفكرون أوروبيون غير قليلين تأثروا بترجمة "بيكوك" لرواية (حي بن يقظان) منهم "جون وردس" و"روبرت داركلي" و"كارل ماركس" وطائفة "الكويكرس" المعروفة وآخرون، وفي عام ألف وسبعمائة وواحد وعشرين، ظَهر في أمريكا كتاب (ذا كريشتن كروسفر) للكاتب والقسيس الأمريكي البيروتاني "كوتوننيسس" الذي لم يمنعه وسمه المسلمين بالكفر من استيحاء رواية (حي بن يقظان) في كتابه هذا، ولا من الاعتراف بتأثيره عليه ناظرًا إلى حي بطل الرواية بوصفه نموذجًا للفيلسوف النصراني المثالي، ومحاولًا من خلاله فهم نفسية سكان أمريكا الأصليين الهنود الحمر؛ بغية تحويلهم إلى مذهبه "البرويتاني". وكما نرى فإنّ مَادة (حي بن يقظان) في النسخة الإنجليزية من "اليوكوبيديا" تُؤكِّد أن تأثير رواية ابن الطفيل على الآداب الأوربية تأثير واسع وعميق، وعند هذه النقطة نحب أن نتوقف بشيء من التفصيل إيذاء قضية الصلة بين تلك الرواية وبين رواية (ديفو روبينسون كروزو) . ولكن علينا أولًا أن نتعرف إلى "روبنسن كروزو" مثلما تعرفنا إلى (حي بن يقظان)، وسوف يكون اعتمادنا على ما جاء المادة الخاصة بتلك الرواية في موسوعة "اليوكوبيديا".
فنقول: إن (روبنسون كروزو) قصة كتبها "دانيال ديفو" ونشرها لأول مرة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، وهي تحكي قصة شاب عاش في جزيرة من الجزر وحيدًا لمدة طويلة دون أن يقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات التقى بأحد المتوحشين؛ فعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكري، واتخذه خادمًا له، ثم يعود في نهاية القصة مصطحبًا خادمه إلى أوربا حيث العالم المتحضر. وتبدأ القصة بمغادرة "كروزو" إنجلترا في رحلة بحرية في سبتمبر عام ألف وستمائة وواحد وخمسين، مخالفًا رغبات والديه، ويسطوا القراصنة على السفينة ويصبح "كروزو" عبدًا للمغاربة، إلّا أنّه تَمكّن من الهرب في زورق، ويُصادِفُ قائدَ سَفِينَةٍ بُرتُغالية قادِمة من الساحل الغربي لأفريقيا، في طريقها إلى البرازيل، وهُناك يصبح "كروزو" مالكًا لإحدى المزارع، وينضم إلى بعثة الجلب الجديد من أفريقيا، وتغرق السفينة التي كان هو فيها وقتذاك في عاصفة تبعد أربعين ميلًا في البحر في مدخل نهر "أورونيكو" في الثلاثين من سبتمبر عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين، فيموت جميع رفاقه ما عداه، ويتمكن من استخلاص الأسلحة والأدوات والتجهيزات الأخرى التي كانت في السفينة قبل أن تتحطم تمامًا وتغوص في الماء. ثم يقوم ببناء سور لمسكنه الذي أقامه في كهف، ويصنع أيضًا تقويمًا يتعرف به على أمور الزمن، من خلال علامات يَرْسُمها على قطعة خشب، كما يقوم بالصيد وزراعة الذرة، ويتعلم صناعة الفخار وتربية الماعز، ويقرأ الإنجيل، ويصبح متدينًا فجأةً، ويشكر الله على مصيره؛ فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع والناس. وفي يوم من الأيام يكتشف "كروزو" جماعة من آكلي لحوم البشر يقومون بزيارة الجزيرة؛ ليقتلوا ويأكلوا أسراهم، وعندما استطاع سجين من السجناء الهروب انضم إلى "كروزو" فسماه " friy day " باسم يوم الجمعة الذي قابله فيه؛ فشرع يعلمه الإنجليزية حتى يستطيع التفاهم معه، كما نجح في تحويله إلى النصرانية. ثم تصل مجموعة جديدة من السكان الأصليين؛ لصنع وليمة أخرى من اللحوم البشرية، ويستطيع جمعة و"كروزو" قتل معظمهم مع الاحتفاظ باثنين من أسراهم أحدهما: هو والد جمعة، والثاني: إسباني، ويُخبر هذا الأخير "كروزو" أن مجموعة من الإسبان الذين غرقوا موجودون على هذه الجزيرة، ويَسْتَطِيعُ الثلاثة بمعاونة هؤلاء الإسبان بناء سفينة يبحرون بها إلى إسْبانيا، بيد أن سفينة إنجليزية تظهر، ويَقَعُ فيها تمرد يسيطر أصحابه على السفينة، ويتركون قائدهم على الجزيرة، إلا أن القائد بمساعدة "كروزو" يستطيع استردادها . ثم يسافر "كروزو" بعد ذلك إلى البرتغال للبحث عن قائده القديم، الذي يخبره بأن مزرعته "الدراجينية" قد جعلته رجلًا غنيًّا، ومن البرتغال يسافر "كروزو" برًّا إلى إنجلترا، عن طريق إسبانيا وفرنسا؛ حيث يتعرضون في جبال "بريليز" لهجوم من الذئاب، ويُقَرِّر "كروزو" بيعَ مزرعته، إذ إن عودته إلى البرازيل تستلزم تحوله إلى الكاثولوكية، وهو ما لا يريده ثم يتزوج ويصبح أبًا لثلاثة أطفال، وعندما تموت زوجته ويُصبح أرملًا، يعود إلى جزيرته في نهاية المطاف . هذا، وقد سبق أن رأينا كيف تُؤكد مادة (حي بن يقظان) في موسوعة "اليوكيبيديا" أنّ للرواية العربية تأثيرًا كبيرًا على نظيرتها الإنجليزية، وهو رأي من الآراء المختلفة في هذه القضية، التي ينقسم قارضوا الأدب بشأنها، إذْ هُناك من يتجاهل تلك الصلة، ولا يتحدثُ عنها، بل لا يومئ إليها مجرد إيماء، وكَأنّها لم تكن، ولا يُمكن أن تكون. وهناك من يؤكد أن "ديفو" إنما سبق ما كتبه "سلكيرك" البحَّار الأسكتلندي عن مغامرته الحقيقية المشابهة بما جاء في قصة (روبنسون كروزو) تلك المغامرة التي نُشرت أكثر من مرة قبل كتابة "ديفو" لروايته، وهناك من يشير إلى وجوه الشبه بين العملين، إلا أنه يُردف ذلك إلى بأنه لم يثبت أن "ديفو" قد استوحى كتاب ابن الطُّفيل، إذ ليس هناك أي دليل على أنه قد وقع في يده؛ فضلًا عن أن يكون قد قرأه . وهناك من يوافق على أنه لم يثبت تاريخيًّا أن "ديفو" قد اضطلع على (حي بن يقظان)، بَيدَ أنّه يُحتم على هذا أنه يكون قد قرأها وتأثر بها، أي: أنه يعتمد على البرهان النظري للواقعية . يقول الدكتور سعيد إبراهيم عبد الواحد في مقال له بعنوان "الترجمة إثراء للثقافات المختلفة" منشور في مجلة "ديوان العرب" الإلكترونية، بتاريخ الثامن من كانون الأول أي: ديسمبر سنة ألفين وخمس للميلاد، عن (حي بن يقظان): إنها من أعظم قصص العصور الوسطى ابتكارًا، وقد كان لهذه القصة الأثر الفعال في الآداب الأوربية بعد عصر النهضة، وذلك بعد أن ترجمت إلى اللغات الأجنبية المختلفة، وانتشرت طبعاتها في كل مكان، ومن بين المترجمين لهذه الرسالة "ليونج تييه" الفرنسي، ولعله هو أول مَن بحث علاقة قصة (حي بن يقظان) بقصة (روبنسون كروزو) المكتوبة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر في بريطانيا تحت عنوان: "مُغامرات عجيبة في قصة حياة روبنسون كروزو". ووقفت "جوتيا" عند حد افتراض اطلاع "ديفو" على قصة ابن طفيل، ويذهبُ في "دائرة المعارف الإسلامية"، إلى اعتبار أن "كروزو" تمثل نمطًا لرجل عملي دنيوي، في حين يمثل (حي بن يقظان) مثلًا للحياة التأملية التصوفية. ويأتي "إيرن سبيكر" في كتابة (تاريخ القصة الإنجليزية) الصادر في لندن سنة ألف وستمائة وثلاث وأربعين ميلادية، ليعد (حي بن يقظان) أحد المصادر المحتملة لقصة (روبنسون كروزو) وينضم "وليم كيري" و"ليفين أولو فسون" إلى أولئك الذين جزموا باطلاع "ديفو" على قصة (حي بن يقظان)، في حين يقف "أوجستين سيرار" و"ديهارو ويختناش" دون الجزم. أما الكتَّاب العرب: عمر فروخ، ومحمد غلاب، وعلي المسراطي، وقدري طوقان، وكمال اليازجي، وأنطوان كرم، وإبراهيم مدكور، ومحمد نصر جمعة ، ولطفي عبد البديع، وسعيد عبد الفتاح عاشور، وكامل كيلاني؛ فقد ذهب جميعهم على تأكيد أثر قصة (حي بن يقظان) في قصة (روبنسون كروزو). وأما من افترض أيضًا اضطلاع "ديفو" على (حي بن يقظان) المستشرق "دويشون" كاتب مادة (حي بن يقظان) في الطبعة الجديدة من "دائرة المعارف الإسلامية"، إذ كتب: أنه من المحتمل أن تكون قصة (روبنسون كروزو) التي ظهر جزؤها الأول عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، مدينة بعض الشيء لترجمة "أوكلي" لقصة ابن طفيل . كذلك يقرر كامل كيلاني في مقدمة ترجمته المبسطة للناشئين لكتاب (روبنسون كروزو) أنه قد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة (حي بن يقظان). أما الدكتور عمر فروخ فقد قال في كتابه (تاريخ الأدب العربي): لقد قلّد هذه القصة كتاب كثيرون أشهرهم وأقربهم السياسي القصصي الأدبي "دانيال ديفو" في قصته (روبنسون كروزو). كذلك كتب جميل صليبة، وكامل عياد، في مقدمة تحقيقهما لكتاب (الطفيل مالي). وتمتاز قصة ابن الطفيل عن قصة (روبنسون كروزو) من الناحية الفلسفية، كذلك تمتاز على غيرها من القصص الفلسفية الشرقية بالقرب من الحقيقة الواقعة، وبالوصف الطبيعي، والتفصيلات الدقيقة عن الحياة العملية، عَدَا رشاقة الأسلوب وسهولة العبارات وحسن الترتيب. وهي بهذه المزايا تعد في مقدمة الآثار العربية التي تستحق الخلود في تاريخ الفكر البشري . وبالمثل تُؤكد مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "سهلول الضوئية": أنّ رواية "ديفو" مُستوحاة من (حي بن يقظان)، إذ نَقْرَأُ فيه أنّ ذلك العمل قصة أوربية مأخوذة عن قصة (حي بن يقظان) لابن طفيل الأندلسي، وأنه بعد ترجمة قصة (حي بن يقظان) بدأ الغربيون ينسجون على منوالها، ولعل أهم ما نسجوه قصة (روبنسون كروزو) للكاتب "دانيال ديفو". ورغم هذا؛ فإن كاتب المادة لا يُغْفِلُ الفُروقَ التي بين الروايتين، بل يرصدها معليًا في الوقت ذاته من شأنه الروايات العربية على نظيراتها الإنجليزية . وأما الدكتور محمد غريب هلال فيستبعد أن يكون لـ (حي بن يقظان) تأثير على قصة "ديفو" لأن التشابه بينهما ظاهري ضئيل كما يقول، علاوة على أن قصة (روبنسون كروزو) أصلًا تاريخيًّا يَتمثل في مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك" التي كتب عنها زميل له من البحارة عام ألف وسبعمائة وتسعة، أي: قبل ظهور "روبنسون كروزو" بعشر سنوات. ومع هذا نرى هلالًا في ذات الوقت يؤكد أن قصة الكاتب الإسباني (بلتا أسار جارتسيان ألكريتيكن) التي ظهر أنشاؤها ثلاثة اتباعًا في خمسينيات القرن السابع عشر. إذ من المؤكد في رأيي أن يكون "جراتسان" قد اطلع على قصة ابن الطفيل رغم أنها لم تكن قد ترجمت بعد إلى أية لغة أوربية؛ لأنّه من الصعوبة بمكان أن نرجع هذا التشابه بين العملين إلى مجرد المصادفة.
وهناك أيضًا مدني صالح الذي يَخْلُص في مقاله المنشور في العدد التاسع من مجلة "الأقلام العراقية"، إلى أنّ قصة (روبنسون كروزو) هي عنصر من عناصر "ديفو" الثقافية، وهو ما يؤيده فاروق سعد صاحب كتاب (حي بن يقظان) لابن الطفيل، وهذا يعني أن ذانك الكاتبين يريان أنه لا وجود لأي صلة أو عملية تأثير أو تأثر بين قصة ابن الطفيل، وقصة "دانيال ديفو". وبالمثل فإن كاتب مادة (روبنسون كروزو) في موسوعة "الإنكارتا" الإنجليزية طبعة ألفين وستة، لا يُشير لأي صلة بين العملين، مكتفيًا فقط بلفت النظر إلى ما قيل عن تأثر "ديفو" في كتاب (روبنسون كروزو) بما وقع ألكسندر "سيلكرك" بمغامرات حقيقية قرأها الجمهور على نطاق واسع قبل صدور (روبنسون كروزو). والشَّيء نفسه يردده كاتب ذات المادة في النسخة الفرنسية من طبعة ألفين وتسعة، من "الإنكارتا" إذ يُرجع مصدر إلهامها إلى "ألكسندر سيلكرك" البحار الأسكتلندي الذي غرقت سفينته، واضطر للعيش وحيدًا فوق جزيرة من جزر أرخبيل "خوارفنديز" بشيلي، وعلى نفس الشاكلة تمضي "إنسيكلوبيديا بريتانيكا" الموسوعة البريطانية طبعة ألفين وثمانية في ترجمتها لـ"ديفو"، إذ كل ما تقوله في هذا الصدد هو أن المؤلف قد اعتمد جزئيًّا على مذكرات بعض الرحالة، والناجين من الغرق من أمثال "سيلكيرك" ثم لا شيء آخر. وتكتفي مادة "دانيال ديفو" في إ"نسيكلوبيديا يونيفرسالس" الموسوعة "اليونيفرسالية" بالقول بأنّ رِوَايةَ "دِيفُو" تَستلهِمُ مغامرات البحار الأسكتلندي "سيلكرك". وأما من وقفوا نفس الموقف الذي وقفه مدني صالح الدكتور بسام مرتضى، الذي قام بمقارنة بين العملين مبينًا أن التشابه بينهما يثير كثيرًا من الأسئلة، حول مدى تأثير الرواية الأولى في الثانية، وبخاصة أن (حي بن يقظان) تسبق (روبنسون كروزو) في الظهور بزمن جد طويل، فضلًا عن ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية قبل ظُهور رواية مغامرات (روبنسون كروزو) بزمن طويل . وقام دكتور مرتضى بتلخيص قصة (حي بن يقظان) الذي قذفت به الأمواج إلى جزيرة "الواق واق" الخيالية؛ فتحدث عما ذكره ابن طفيل من ولادة حي غير العادية، وكيف عاش في كنف غزالة أعانته على الحياة كما تعين الأم وليدها، وكيف وعى الفروق الجسدية التي تميزه عن حياة الغابة، وكيف أخذ يستر عورته وجسده بأوراق الأشجار؛ ثم كيف ماتت الغزالة، فحاول معرفة أسباب موتها لكن دون جدوى، وكيف دفنها كما تفعل الغربان ... إلى آخره. وانتقل البحث بعد ذلك إلى الحديث عن نمو مدارك ابن يقظان وحواسه، واكتشافه للنار، وفهمه لمسألة الجسد والروح، وكيف أخذ يدرك طبيعة الأجساد والأشياء من حوله، ويَعرف طبيعة الأفلاك والأجرام السماوية ليتوصل إلى أن هذا كله لا يصل إلا عن فاعل مختار في غاية الكمال . وعندما بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين، تحول حرصه من معرفة المصنوع إلى معرفة الصانع؛ فزهد في الطعام والشراب ولجأ إلى كوخ ينفق وقته في التأمل؛ رغبةً في الوصول إلى مرتبة مشاهدة الحق، إلى أن تم له ذلك ففني عن ذاته، وعن جميع الذوات، ولم يعد في الوجود إلا الحي القيوم، وبقي كذلك حتى بلغ الخمسين من عمره . ثم أوضح الباحث كيف تعلم (حي بن يقظان) لغة الكلام من رجل اسمه أسال قدِمَ إلى الجزيرة، وكيف اصطحبه أسال إلى مدينته لإقناع الناس بأهمية التأمل لحياتهم الروحية؛ لكن ذلك لم يجد معهم للنقص الذي كان في فِطرتهم، فرجعَا معًا إلى جزيرة "الواق واق" حيث أخذَا يعبدان الله بطريقتهما، حتى أتاهما اليقين . ثم ينتقل الباحث إلى تلخيص رواية (روبنسون كروزو) فيقول: إنّها تتحدث عن مغامرات (روبنسون كروزو) الذي ترك بيته وأهله، خلافًا لغربتهم، ورحل طالبًا الثروة والمغامرة؛ فصادف أثناء ترحاله مخاطر وأهوالًا كثيرة، منها غرق سفينته، ثم نجاته رغم هذا، ووصوله على ظهر موجة إلى اليابسة في جزيرة ليس فيها إلا الأدغال والوحوش؛ ليجد نفسه هناك وحيدًا دون رفيق من بني جنسه ، ثم محاولته التأقلم مع حياته الجديدة مستغلًّا كل ما حوله من موجودات في تدبير مأكله وصنع ملبسه. ثم تخليصه بعض العبيد من يد جماعة من آكلي لحوم البشر، وتعليمه العبد "فرايدي" اللغة الإنجليزية ومبادئ النصرانية.










3