-الصلة بين "حي ابن يقظان" و"روبنسون كروزو":
وكما نرى؛ فإن مادة "حي بن يقظان" في النسخة الإنجليزية من "الويكيبيديا" تُؤكِّد أنّ تأثيرَ رواية ابن طفيل على الآداب الأوربية تأثير واسع وعميق، وعند هذه النقطة نحب أن نتوقف بشيء من التفصيل إزاء قضية الصلة بين تلك الرواية، وبين رواية "ديفو" "روبنسون كروزو" ولكن علينا أولًا أن نتعرف إلى "روبنسون كروزو" مثلما تعرفنا إلى حي بن يقظان، وسوف يكون اعتمادنا هذه المرة أيضًا على ما جاء في المادة الخاصة بتلك الرواية، في موسوعة "الويكيبيديا". فنقول: إن "روبنسون كروزو" قصة كتبها "دانيال ديفو" ونشرها لأول مرة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، وهي تَحكي قصة شابٍ عاش في جزيرة من الجزر وحيدًا، لمدة طويلة دون أن يُقابل أحدًا من البشر، ثم بعد عدة سنوات التقى بأحد المتوحشين، فعلمه بعض ما وصل إليه الإنسان المتحضر من تقدم فكريٍ، واتخذه خادمًا له، ثم يعود في نهاية المطاف مصطحبًا خادمه إلى أوربا حيث العالم المتحضر. وتبدأ القصة بمغادرة "كروزو" إنجلترا في رحلةٍ بحرية في سبتمبر عام ألف وستمائةٍ وواحدٍ وخمسين، مخالفًا رغبات والديه ويسطو القراصنة على السفينة، ويُصبح "كروزو" عبدًا للمغاربة؛ إلا أنه يتمكن من الهرب في زورق، ويُصادف قائد سفينة برتغالية قادمة من الساحل الغربي لإفريقيا في طريقها إلى البرازيل، وهناك يُصبح "كروزو" مالكًا لإحدى المزارع، وينضَمُّ إلى بعثة لجلب العبيد من إفريقيا. وتغرق السفينة التي كان فيها وقت ذاك، في عاصفة تبعد أربعين ميلًا في البحر في مدخل نهر "أورينيكو" في الثلاثين من سبتمبر عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين؛ فيموتُ جميع رفاقه ما عداه، ويتمكن من استخلاص الأسلحة والأدوات، والتجهيزات الأخرى التي كانت في السفينة قبل أن تتحطم تمامًا وتغوص في الماء، ثم يقوم ببناء صورٍ لمسكنه الذي أقامه في كهف، ويصنع أيضًا تقويمًا يتعرف به على مرور الزمن، من خلال علاماتٍ يرسمها على قطعة خشب، كما يقوم بالصيد وزراعة الذرة ويتعلم صناعة الفخار، وتربية الماعز، ويَقرأ الإنجيل، ويصبح متدينًا فجأة، ويشكر الله على مصيره فلا شيء قد فقد منه إلا المجتمع.
وفي يومٍ من الأيام يكتشف "كروزو" جماعة من آكلي لحوم البشر، يقومون بزيارة الجزيرة؛ ليقتلوا ويأكلوا أسراهم، وعندما استطاع سجين من السجناء الهروب انضم إلى "كروزو" الذي سماه "فراي داي" باسم يوم الجمعة الذي قابله فيه؛ فصار يعلمه الإنجليزية حتى يستطيع التفاهم معه، كما نجح إلى تحويله إلى النصرانية.
ثم تصل مجموعة جديدة من السكان الأصليين لصنع وليمة أخرى من اللحوم البشرية، ويستطيع جمعة و"كروزو" قتل معظمهم مع الاحتفاظ باثنين من أسراهم: أحدهما والد جمعة، والثاني أسباني. ويخبر هذا الأخير "كروزو" أن مجموعة من الأسبان الذين غرقوا موجودون على هذه الجزيرة، ويستطيع الثلاثة بمعاونة هؤلاء الإسبان بناء سفينة يبحرون بها إلى إسبانيا. بيد أن سفينة الإنجليزية تظهر، ويقع فيها تمرد يسيطر أصحابه على السفينة، ويتركون قائدهم على الجزيرة، إلا أن القائد يستطيع بمساعدة "كروزو" استرداد السفينة، ثم يسافر "كروزو" بعد ذلك إلى البرتغال للبحث عن قائده القديم، الذي يخبره بأن مزرعته البرازيلية قد جعلت منه رجلًا غنيًّا، ومن البُرتغال يُسافر "كروزو" برًّا إلى إنجلترا عن طريق أسبانيا أو فرنسا، حيث يتعرض هو ورفاقه في جبال "البرنيز" لهجوم من الذئاب، ويقرر "كروزو" بيع مزرعته، إذ إن عودته إلى البرازيل تستلزم تحوله إلى "الكاثوليكية" وهو ما لا يريده. ثم تزوج ليصبح أبًا لثلاثة أطفال، وعندما تموت زوجته يصبح أرمل، يعود إلى جزيرته في نهاية المطاف . هذا وقد سبق أن رأينا كيف تؤكد مادة حي بن يقظان في "الويكيبيديا" أن للرواية العربية تأثيرًا قويًّا على نظيرتها الإنجليزية، وهو رأي من الآراء المختلفة في هذه القضية، التي ينقسم مقارنو الأدب بشأنها، إذ هناك من يتجاهل تلك الصلة، ولا يتحدث عنها بتاتًا، بل لا يومئ إليها مجرد إيماء، وكأنها لم تكن، ولا يمكن أن تكون . وهناك من يؤكد أن "ديفو" إنما سرق ما كتبه "سل كرك" البحار الإسكتلندي عن مغامرته الحقيقة المشابهة لما جاء في قصة "روبنسون كروزو" تلك المغامرات التي نُشرت أكثر من مرة، قبل كتابة "ديفو" لروايته، وهناك من يشير إلى وجود الشبه بين العملين، إلا أنه يردف ذلك بأنه لم يثبت أن "ديفو" قد استوحى كتاب ابن طفيل، إذ ليس هناك أي دليل على أنه وقع في يده فضلًا عن أن يكون قد قرأه . وهناك من يُوافق على أنه لم يثْبُت تاريخيًّا أن "ديفو" قد اطلع على حي بن يقظان ب يد أنه يحتم مع هذا أن يكون قد قرأها وتأثر بها، أي: أنه يعتمد على البرهان النظري ولا الواقعي . يقول الدكتور سعيد إبراهيم عبد الواحد، في مقال له بعنوان "الترجمة إثراء للثقافات المختلفة" منشور في (مجلة الديوان العربي) الضوئية عن "حي بن يقظان": "إنها من أعظم قصص العصور الوسطى ابتكارًا، وقد كان لهذه القصة الأثر الفعال في الآداب الأوربية بعد عصر النهضة، وذلك بعد أن ترجمة إلى لغاتٍ أجنبية مختلفة، وانتشرت طبعاتها في كل مكان، فقد ترجمة إلى العبرية سنة ألف ومائتين وثمانين، على يد اليهودي إسحاق بن اللطيف، ثم زاد عليها ميشل بن يوشع، الملقب بالشرنوبي بعض الحواشي والشروح، كان هذا عام ألف وثلاثمائة وتسعة وأربعين.
وفي العام ألف وستمائة وواحد وسبعين ظهرت طبعة جديدة تحمل النص العربي للقصة، مع ترجمة لاتينية قام بها "إدوار بوكوك" وقد كانت مصدرًا لعدة ترجمات ظهرت بالإنجليزية فيما بعد، كما تنسب إلى "اسبينوزا" ترجمة لقصة "حي بن يقظان" من اللغة اللاتينية إلى اللغة الهولندية، ويذكر فاروق سعد في كتابه عن حي بن يقظان، أنّ "جُورج كيف" قد قدم في العام ألف وستمائة وأربعة وسبعين، ترجمة رائعة باللغة الإنجليزية عن النص اللاتيني المترجم عن العربي أصلًا، وبعدها بعدة سنوات أي في العام ألف وستمائة وستة وثمانين ظهرت ترجمة أخرى للقصة من اللاتينة إلى الإنجليزية، قام بها "جورج آشول". وفي عام ألف وسبعمائة وثمانية نُشرت ترجمة إنجليزية لقصة حي بن يقظان، أعدها "سيمن أوكلي" معتمدًا على النص العربي المحقق من "بوكوك" وتتميز ترجمة "أوكلي" بأنها كاملة. أما عن الترجمات الحديثة: فقد قام "برومل" بترجمة "حي بن يقظان" إلى الإنجليزية، عام ألف وتسعمائة وأربعة. وعرفت اللغة الألمانية ترجمة لقصة ابن طفيل "حي بن يقظان" قام بها "بارت يوس" ونُشرت في "فرانك فورت" عام ألف وسبعمائة وستة وعشرين، كما أنّ هُناك تَرجمة أخرى لقصة لحي بن يقظان إلى اللغة الألمانية، قام بها "آي كورم" ونشرت في برلين عام ألف وسبعمائة وثلاثة وثمانين . وفي عام ألف وتسعمائة نشرت في سرقسطة الترجمة الأسبانية لقصة "حي بن يقظان"، وقام بها "بونص" وحديثًا في العام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين ظهرت ترجمة أخرى إلى الأسبانية، قام بها "أنخر جنسلس بالانسيا" وترجمها اليوم "جوتيه" قصة حي بن يقظان إلى الفرنسية، وقد صدرت إحدى طبعات هذه الترجمة في بيروت عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين . ولعل "جوتيه" هو أول من بحث علاقة قصة "حي بن يقظان" بقصة "روبنسون كروزو" المكتوبة عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر في بريطانيا تحت عنوان "مغامرات عجيبة في قصة حياة روبنسون وكروزو" ووقف "جوتيه" عند حد افتراض اطلاع "ديفو" على قصة ابن طفيل . وفي دائرة المعارف الإسلامية ذهب إلى اعتبار أن "كروزو" تمثل نمطًا للرجل العملي دنيويًّا في حين يمثل حي بن يقظان مثلًا للحياة التأملية التصوفية، ويأتي "آينس بيكر" في كتابه (تاريخ القصة الإنجليزية) الصادر في لندن سنة ألف وتسعمائة وثلاثٍ وأربعين، ليعتبر حي بن يقظان أحد المصادر المحتملة لقصة "روبنسون كروزو" وينضم "وليم كري" و"ليفج أولفسن" إلى أولئك الذين جزموا باطلاع "ديفو" على قصة حي بن يقظان، في حين يقف "أوجستين سيرارو" و"ديرهارو" و"يختو ناش" دون الجزم. أما الكتاب العرب عمر فاروق، ومحمد غلاب، وعلي المسراتي ، وخالد الطوقان، وكمال اليزجي، وأنطوان كرم، وإبراهيم مدكور، ومحمد لطفي جمعة، ولطفي عبد البديع، وسعيد عبد الفتاح عاشور، وكامل الكيلاني؛ فقد ذهب جميعهم على تأكيد أثر قصة حي بن يقظان في قصة "روبنسون كروزو" . وممن افترض أيضًا اطلاع "ديفو" على "حي بن يقظان" المستشرق "جيشون" كاتب مادة حي بن يقظان في الطبعة الجديدة من دائرة المعارف الإسلامية، إذ كتب: "أنه من المحتمل أن تكون قصة "روبنسون كروزو" التي ظهر جزؤها الأول عام ألف وسبعمائة وتسعة عشر، مدينة بعض الشيء لترجمة "أوكلي" لقصة ابن الطفيل . كذلك يقر كامل الكيلاني في مقدمة ترجمته المبسطة للناشئين لكتاب "روبنسون كروزو" أنه قد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة حي بن يقظان، أما الدكتور عمر فروخ، فقال في كتابه (تاريخ الأدب العربي): "لقد قلد هذه القصة كتاب كثيرون أشهرهم، وأقربهم إلي السياسي القصصي الأدبي "دانيال ديفو" في قصته "روبنسون كروزو". كذلك كتب جميل صليبة، وكامل عياد، في مقدمة تحقيقهما لكتاب ابن الطفيل ما يلي: "وتمتاز قصة ابن الطفيل عن قصة "روبنسون كروزو" من الناحية الفلسفية، كذلك تمتاز على غيرها من القصص الفلسفية الشرقية، بالقرب من الحقيقة الواقعة، وبالوصف الطبيعي، وبالتفصيلات الدقيقة عن الحياة العملية، عدا رشاقة الأسلوب، وسهولة العبارات، وحسن الترتيب؛ وهي بهذه المزايا تعتبر في مقدمة الآثار العربية التي تستحق الخلود في تاريخ الفكر البشري . وبالمثل تؤكد مادة "روبنسون كروزو" في ذهلول الموسوعة العالمية المجانية الضوئية أن رواية "ديفو" مستوحاة من حي بن يقظان، إذ نقرأ فيها أن ذلك العمل هو قصة أوربية مأخوذة عن قصة حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي، وأنّه بعد ترجمة قصة حي بن يقظان بدأ الغربيون ينسجون على منوالها، ولعل أهم ما نسجوه قصة "روبنسون كروزو" للكاتب "دانيال ديفو" ورغم هذا؛ فإن كاتب المادة لا يغفل الفروق التي بين الروايتين بل يرصدها معليًا في الوقت ذاته من شأن الرواية العربية على نظيرتها الإنجليزية. وأما الدكتور محمد غنيمي هلال فيستبعد أن يكون لحي بن يقظان تأثير على قصة "ديفو" لأن التشابه بينهما ظاهري ضئيل -كما يقول- علاوة على أن لقصة "روبنسون كروزو" أصلًا تاريخيًّا يتمثل في مغامرات البحار الإسكتلندي "سلك كيرك" التي كتب عنها زميل له من البحارة عام ألف وسبعمائة وتسعة أي: قبل ظهور "روبنسون كروزو" بعشر سنوات . ومع هذا نرى الدكتور هلال في ذات الوقت، يؤكد أن قصة الكاتب الأسباني "بلتسار جراتسيان الكريتي كوك" التي ظهرت أجزاؤها الثلاثة تباعًا في خمسينات القرن السابع عشر، والتي تشبه قصة ابن الطفيل، لا بد أن تكون قد تأثرت بهذه الأخيرة، إذ من المؤكد في رأيه أن يكون "جرسيان" قد اطلع على قصة ابن الطفيل رغم أنها لم تكن قد ترجمت بعد إلى أية لغة أوربية؛ لأنه من الصعوبة بمكان أن نرجع هذا التشابه بين العملين إلى مجرد المصادفة . وهناك أيضًا مدني صالح الذي يخلص في مقاله المنشور في العدد التاسع من مجلة الأقلام العراقية، إلى أن قصة "روبنسون كروزو" هي عنصر من عناصر البيئة "ديفو" الثقافية، وهو ما يؤيده فاروق سعد صاحب كتاب (حي بن يقظان لابن طفيل)، وهذا يعني أن ذانك الكاتبين يريان أنه لا وجود لأية صلة أو عملية تأثير وتأثر بين قصة ابن طفيل، وقصة دانيال ديفو. وبالمِثْل؛ فإن كاتب مادة "روبنسون كروزو" في موسوعة "الإنكارتا" الإنجليزية في طبعة سنة ألفين وتسع، لا يشير إلى أية صلة بين العملين مكتفيًا فقط بلفت النظر إلى ما قيل عن تأثر "ديفو" في كتابه "روبنسون كروزو" بما وقع لـ"ألكسندار سركيك" من مغامرات حقيقية قرأها الجمهور على نطاق واسع قبل الصدور "روبنسون كروزو". والشيء نفسه يُرَدِّده كاتب ذات المادة في النسخة الفرنسية من طبعة سنة ألفين وتسع من "الإنكارتا" إذ يرجع مصدر إلهامها إلى ما وقع "لألكسندر سركيك" البحار الإسكتلندي" الذي غرقت سفينته، واضطر للعيش وحيدًا فوق جزيرة من جزر أرخبيل "خوان فرناندس بشيري"، وعلى نفس الشاكلة تمضي "انسياكلو بيديا بريتانيكا" في طبعات سنة ألف وثمانمائة في ترجمتها لـ"ديفو" إذ كل ما تقوله في هذا الصدد: هو أن المؤلف قد اعتمد جزئيًّا على مذكرات بعض الرحالة والناجين من الغرق من أمثال "سركيك" ثم لا شيء آخر. وتكتفي مادة "دانيال ديفو" في "انسيكو بديا يونيفرسليس" بالقول بأن رواية "ديفو" تستلهم مغامرات البحارة الإسكتلندي "سركيك". وممن وقفوا نفس الموقف الذي وقفه مدني صالح دكتور غسان مرتضى الذي قام بالمقارنة بين العملين، مبينًا أن التشابه بينهما يثير كثيرًا من الأسئلة حول مدى تأثير الرواية الأولى في الثانية، وبخاصة أن "حي بن يقظان" تسبق "روبنسون كروزو" في الظهور بزمن جد طويل، فضلًا عن ترجمتها إلى بعض اللغات الأوربية قبل ظهور رواية مغامرات "روبنسون كروزو". وقد قام دكتور مرتضى بتلخيص قصة "حي بن يقظان" الذي قذفت به الأمواج إلى جزيرة الواقواق الخيالية، فتحدث عما ذكره ابن الطفيل من ولادة حي غير العادية، وكيف عاش في كنف غزالة أعانته على الحياة كما تعين الأم وليدها، وكيف راعى الفروق الجسدية التي تميزه عن حيوانات الغابة، وكيف أخذ يستر عورته وجسده بأوراق الأشجار، ثم كيف ماتت الغزالة، فحاول معرفة سبب موتها لكن دون جدوى، وكيف دفنها كما تفعل الغربان إلى آخره . وانتقل الباحث بعد ذلك الحديث عن نمو مدارك ابن يقظان وحواسه، واكتشافه للنار، وفهمه لمسألة الجسد والروح، وكيف أخذ يدرك طبيعة الأجسام والأشياء من حوله، ويعرف طبيعة الأفلاك والأجرام السماوية، ليتوصل إلى أن هذا كله لا يصدر عن فاعل مختار في غاية الكمال، وعندما بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين تحول حرصه من معرفة المصنوع إلى معرفة الصانع؛ فزهد في الطعام والشراب، ولجأ إلى كوخ ينفق وقته في التأمل رغبة في الوصول إلى مرتبة مشاهدة الحق، إلى أن تم له ذلك، ففني عن ذاته وعن جميع الذوات، ولم يعد في الوجود إلا الحي القيوم، وبقي كذلك حتى بلغ الخمسين من عمره . ثم أوضح الباحث كيف تعلم حي بن يقظان لغة الكلام، من رجل اسمه "آسال" قدم إلى الجزيرة وكيف اصطحبه "آسال" إلى مدينته لإقناع الناس بأهمية التأمل إلى حياتهم الروحية؛ لكن ذلك لم يجد معهم للنقص الذي كان في فطرتهم؛ فرجعا معًا إلى جزيرة الواقواق حيث أخذا يعبدان الله بطريقتهما حتى أتاهما اليقين . ثم ينتقل الباحث إلى تلخيص رواية "روبنسون كروزو" فيقول: "إنها تتحدث عن مغامرات "روبنسون كروزو" الذي ترك بيته وأهله خلافًا لرغبتهم ورحل طالبًا الثروة والمغامرة؛ فصادف أثناء ترحاله مخاطر وأهوالًا كثيرًا، منها غرق سفينته، ثم نجاته رغم هذا، ووصوله على ظهر موجة إلى اليابسة في جزيرة ليس فيها إلا الأدغال والوحوش؛ ليجد نفسه هناك وحيدًا دون رفيقٍ من بني جنسه . ثم محاولته التأقلم مع حياته الجديدة مستغلًا كل ما حوله من موجوداتٍ في تدبير مأكله، وصنع ملبسه، ثم تخليصه بعض العبيد من يد جماعةٍ من آكلي لحوم البشر، وتعليمه العبد "فراي داي" اللغة الإنجليزية، ومبادئ النصرانية.
بعد ذلك يورد الباحث أوجه الاتفاق بين "حي بن يقظان" و"روبنسون كروزو" على النحو التالي:
- رمى القدر كلًا من حي و"روبنسون" في جزيرة لا حياة فيها لبني البشر.
-اضطر كلًا منهما أن يتأقلم مع حياته مستخدمًا أدواتٍ بسيطة؛ ليحمي نفسه.
- يلتقي حي بآسال، ويلتقي "روبنسون بفراي داي" فيعلم آسال حيًّا الكلام، ويُعلم "كروزو فراي داي" اللغة الإنجليزية ومبادئ النصرانية.
- حاول ابن طفيل أن يؤدي عبر "حي بن يقظان" رسالة مفادها أن الإنسان قادر بفضل حواسه وعقله، وحدثه الوصول إلى حقائق الكون كلها، ومعرفة الله بعقله المحض دون الاستعانة بالأديان، أما "دانيال ديفو" فأراد إيصال رسالة مختلفة بعض الشيء.
- تتفق القصتان في كثير من الجوانب الفنية، وفي تعليل الحدث، واعتماد الحوار الداخلي، وتصوير شخصية نامية متطورة.
ثم يسرد المحاضر أوجه التباين بين الروايتان، وهي كما يلي:
- وصل حي إلى الجزيرة وعمره لم يتجاوز اليوم الواحد، على حين وصل "كروز" إليها وهو شاب؛ فتأقلم الأول مع واقعه ذاتيًّا وبالفطرة، فيما استخدم "كروزو" خبراته السابقة في عملية التأقلم.
- حاول الكاتبان إبراز مقدرة الإنسان في التأقلم مع الطبيعة والحياة دون معين، لكن ابن طفيل كان هدفه رمزيًّا يتمثل في إبراز مقدرة الإنسان على التطور ماديًّا وروحيًّا دون شرائع مسبقة، أما ديفو فلم يكن هدفه سوى عرض جانب المغامرة، بما تنطوي عليه من تصعيدٍ قصصي وتشويق.
- لقاء حي بآسال كان لقاءً نديًّا بخلاف لقاء "روبنسون بفراي داي" الذي كان لقاء مصلحة ومنفعة.
- في رواية "حي بن يقظان" تكثر الأفكار الفلسفية، مما أضعف عنصر التشويق والإثارة، على عكس رواية "روبنسون كروزو" التي اتسمت بالإحكام الفني.
- الجانب المهم في شخصية حي هو التأمل، أما في شخصية "روبنسون" فهو الاكتشاف وبناء السلوك وفقًا لهذا الاكتشاف.
- تحدث ابن طفيل في الرواية بضمير الغائب، أما رواية "دانيال ديفو" فقد كُتبتْ بضمير المُتكلم مما أعطاها واقعية أكثر.
- رواية ابن طفيل رواية عقلية فكرية؛ ليس فيها وجود للعناصر الاجتماعية الأندلسية أو الأسبانية بخلاف رواية "ديفو" التي تمجد الحياة الاجتماعية، وصراع الإنسان عبر العمل للسيطرة على الطبيعة.
وهنا يطرح المحاضر السؤال التالي: هل أثرت رواية حي بن يقظان في "روبنسون كروزو"؟ ليجيب موضحًا أن الترجمتين اللاتينية والإنجليزية لرواية حي بن يقظان قد ظهرتا قبل إصدار "ديفو" روايته بأكثر من عشرين سنة، فمن المحتمل إذًا أن يكون "ديفو" قد اطلع على عمل ابن طفيل، وهو أمرٌ قد يؤكده اهتمام الأوربيين عمومًا بالثقافة العربية آنذاك. لكن المسألة ليست مسألة عواطف ورغبات، لذا لا بد -في رأيه- من التروي قبل إطلاق الأحكام، وإضافة إلى ذلك ثمة اعتقاد متداول بين بعض الباحثين، مؤداه أن "ديفو" قد اعتمد على روايته على حادثة حقيقية معروفة، وقعت لبحار إسكتلندي يدعى "ألكسندر سركيك" وهو ما يعني أن تأثر "ديفو" بالرواية العربية ضعيف جدًّا . وبِخُصوص اتهام "ديفو" بالسطو على ما كتبه "سلكيرك" البحار الإسكتلندي الذي وقع له مثل ما وقع لبطل "ديفود" ثم مقال كتبه الدكتور نجم عبد الكريم بعنوان "روبنسون كروزو سرقة أدبية في سياق المغامرة" نشرته صحيفة الشرق الأوسط العربية اللندنية، بتاريخ الإثنين الحادي عشر من أكتوبر عام ألفين وأربعة، جاء فيه: "ينسب الكثير من النقاد العرب أن رائعة الكاتب الإنجليزي "دانيال ديفو" مغامرة "روبنسون كروزو" إنما هي مأخوذة من تراثٍ عربي، واعتبروها عبارة عن سطوٍ أدبي على قصة ابن طفيل حي بن يقظان، وهناك من يقارن بين أحداثها وبين رحلات السندباد، وفيهم من نسب مغامرات "روبنسون كروزو" إلى تأثرها ببعض الرحالة من العرب. ومما لا شك فيه أن الأعمال الأدبية العظيمة لا تنبع من فراغ، ولا يلزم أن يخوض الكاتب تجربة أبطال روايته أو مسرحيته؛ فهناك دائمًا مؤثرات خارجية تدفع بالعمل الإبداعية إلى البروز؛ وفقًا لمدى قدرات وإبداعات ذلك الكاتب في تصويرها، لكن السيدة "سيلكيرك" التي التقيتها مصادفة في مناسبة اجتماعية بمدينة "مارلو" الإنجليزية تزعم بعكس ذلك تمامًا، فهي ترى أن "دانيال ديفو" مؤلف رواية مغامرات "روبنسون كروزو" ما هو إلا كاتب أفاق، وسارق لأفكار غيره وكان جزاؤه أن مات فقيرًا عندما دفن في مقابر الفقراء. وتزعم السيدة "سيلكيرك" أنها تحتفظ بالأدلة أكيدة على حقيقة شخصية "روبنسون كروزو" ، لأنه جدها الرابع، واسمه ألكسندر سيلكيرك" والسيدة "سيلكيرك" هذه قد تجاوزت العقد الثامن من عمرها، لكنها تتمتع بذهنية متوقدة، وتتحدث بحماسٍ عن جدها الذي تعتبره الأب الحقيقي لرواية مغامرات "روبنسون كروزو" . عندما علمت بأنني من المهتمين بالكتابة والنقد، وجهت إلي سؤالًا عما هو مضمون رواية مغامرات "روبنسون كروزو"؟ فأجبتها أنها تروي عن ملاح بريطاني "روبنسون كروزو" تحطمت السفينة التي كان يعمل عليها في وسط المحيط الهادي، لكنه تمكن من التشبث بقطعة كبيرة من الخشب؛ ليتخذ منها طوافة تقيه الغرق، إلى أن تقذف به الأمواج على شواطئ جزيرة لم تطأها من قبل قدم إنسان؛ فيجد نفسه مضطرًا للتعايش مع الحياة الجديدة في تلك الجزيرة مع الحيوانات والطيور. وتمر الأيام ويجد "كروزو" نفسه ما إن يخرج من مغامرة مثيرة، حتى يدخل في مغامرة أكثر منها إثارة، وقد اتخذ لنفسه عددًا من الأصدقاء هم عبارة عن بغبغاء وقرد وعنزة، وقد صور "ديفو" حياة "كروزو" في تلك الجزيرة بشكل رائع وشائق؛ إلى أن تنقذه سفينة عابرة وتعيده إلى المدينة . بَعدَ أنْ لخّصتُ رِواية مغامرات "روبنسون كروزو" للسيدة "سيلكيرك" أضفت أن هذه الرواية ضربة رقمًا قياسيًّا في الترجمة عن اللغة الإنجليزية إلى اللغات الأخرى، فأنا مثلًا قرأتها باللغة بالعربية، كما قرأها الملايين من الناس بلغاتهم المختلفة؛ قالت السيدة "سيلكيرك": "ليس هذا فحسب، بل إنها تفوقت على أشهر كتابين ظهرا في العصر الذي كتبت فيه، وهما ألف ليلة ولية المقبلة إلينا منكم يا عرب، و" دنكي شوت" التي ترجمت إلى الإنجليزية عن الإسبانية، وهي "الاستفانس". فأجبتها: ولعلمك إنك لست الوحيدة ممن يزعمون بسطو "دانيال ديفو" على أحداث "روبنسون كروزو" والبعض منهم لديه مقارنات يدلل بها على ذلك السطو؛ فما هو دليلك على أن مؤلف "روبنسون كروزو" قد سطا على تراث جدك "إلكسندر سيلكيرك" الذي لم يسمع به أحد من قبل، ظهر الانزعاج على ملامح السيدة، وقالت بعصبية: "جدي ولد في قرية "لافيو" الإسكتلندية عام ألف وستمائة وستة وسبعين، وهو يعرف "ديفو" وكانا يلتقيان في حانة واحدة في السنوات الأولى من القرن السابع عشر، وكان جميع الناس يعرفون تلك المغامرة، والتجربة التي مر بها جدي "سيلكيرك" وكان "ديفو" يسمعه منه لعدة أشهر، ويدون بعض أحداثها، ولكنه قد زيف الكثير مما جاء فيها من أحداث . ثم أخذت تروي قصة جدها الذي كان يعمل بحارًا في سفينة تجارية، كان ربانها شديد القسوة على بحارته، وقد بلغت قسوته أن قام بشنق ثلاثة من الرجال أمام زملائهم في وسط البحر، وألقى بجثثهم في المياه في أثناء رحلة لأمريكا الجنوبية، ولم يكن أمام البحارة، وهم يقاسون من عذابات الربان سوى التمرد والثورة، الذي دفعت بهم إلى الفتك بالربان ومساعديه، وفروا بالسفينة يجوبون بحار الجنوب، بينما كانت السفن البريطانية تطاردهم؛ فاتفق "ألكسندر سيلكيرك" -الجد الرابع للسيدة التي تروي الحكاية- مع زميل له على الفرار من السفينة، ونفذا خطتهما في جوف الليل، بعد أن قام بسرقة قارب صغير انطلقا به على غير اتجاه إلى أن قذفت بهما الأمواج على شواطئ جزيرة ذات طبيعة أخاذة مليئة بالطيور والحيوانات الأليفة؛ لأنها -أي: الحيوانات- كانت تقف أمامهما ، ولا تنطلق هاربة خائفة منهما، وهذا يدل على أن الجزيرة لم تطأها أقدام بشرية من قبل . وفي اليوم الثاني لوجودهما في الجزيرة مات زميل "ألسكندر سيلكيرك" لأنه تناول فراولة مسمومة، وظل "ألكسندر" يعيش في الجزيرة بمفرده، بعد أن هيأ لنفسه أجواءً تسمح له بالعيش فيها طيلة حياته، ومما عثر عليه في أوراقه عن وصفه تلك الجزيرة -كما تقول حفيدته- أنها جنة الله في الأرض؛ فكافة أنواع الفواكه والأطعمة موفورة فيها بكثرة، ومياه غدرانها عذبة كالشهد، وكُنت أصطاد فيها الغزلان والديكة البرية، وإذا رغبت في شرب شيء من اللبن؛ فما ألذه من ضرع "ماري" تلك العنزة التي كانت تتبعني أينما أذهب. وقد بنى "سيلكيرك" كوخًا من عيدان الخيزران وأوراق الشجر العريضة . وقد استرسلت السيدة في وصف تلك الجزيرة، على ضوء قراءتها للأوراق التي خلفها لها جدها، ومن أطرف ما قالت في هذا الصدد: "إن القطط والكلاب لم تكن بينها تلك العداوة التي نعرف عنها في معيشتها بين ظهرانينا؛ فالحيوانات في تلك الجزيرة الساحرة كانت تعيش في بسلام ومحبة" -والكلام ما زال للسيدة "سيلكيرك" . ومما ذكره جدي في أوراقه: "كنت أشاهد الحيوانات كيف تقضي وقتها باللعب معًا، فالفئران كانت تركب على ظهر القطط، والقطط تتسابق مع الكلاب، وكثيرًا ما كنت أجدها تنظف جلود بعضها البعض بألسنتها، ولم يحدث أن وجدت عداءً بين أي من الحيوانات التي تعيش على يابسة تلك الجزيرة" . ولكن الذي حفز "ألكسندر سيلكيرك" للعودة إلى المدينة، هو عثوره على مجرى للتبر، أخذ يجمع منه ما يستطيع جمعه، وعبأه بأكياسٍ جلدية صنعها من جلود الحيوانات، وحذر أنّ هَذه الثروة ستمكنه من العيش برغد في حالة عودته إلى العالم المتحضر؛ فصار يجمع الحطب والأخشاب بكميات كبيرة، ويضرم فيها النار ليتصاعد منها الدخان الذي يلفت إليه انتباه السفن البعيدة، وبعد محاولات متعددة أثمرت خطته أن سفينة "ديوك" قد اقتربت من تلك الجزيرة، وكان ذلك في عام ألف وستمائة وتسعة وخمسين. وما إن تمكن من الصعود إليها، حتى علم من البحارة أن الملكة "إليزابيس" قد أصدرت عفوًا شاملًا عن جميع البحارة الملاحقين من الإنجليز، احتفالًا بانتصار بريطانيا على الأسطول الأسباني؛ فوصل "الإكسندر سيلكيرك" حاملًا أكياس التبر التي كون منها ثروة طائلة، وقد وعدتني السيدة "سيلكيرك" بأن تزودني بنسخ من الصور الأصلية بالأوراق التي كتبها جدها "الإكسندر سيلكيرك" الذي توفي عام ألف وسبعمائة وثلاثة وعشرين من دون أن يعرفه أحد؛ بينما دوت شهرت "دانيال ديفو" في كافة أنحاء العالم، وأصبح من أشهر المؤلفين في التاريخ بينما هو ليس سوى سارق لقصة جدي على -حد تعبير السيدة- التي راجعت معها تفصيل ما أوردته من معلومات في هذه المقالة؛ فوافقت على ما جاء فيها مع بعض التعديلات، التي أشارت إلي بها. ولكن أين هي الحقيقة؟ الحقيقة أن مغامرات "كروزو" صارت أكبر من كل الادعاءات". وتعقيبًا على ما قالته السيدة البريطانية نذكر نبذة عن جدها البعيد، وعن الجزيرة التي عاش فيها، على مدى عشرات الشهور وحيدًا دون أنيس من بني الإنسان؛ فنقول: "إن "إلكسندر سيلكيرك" ولد سنة ألف وستمائة وست وسبعين، ومات سنة ألف وسبعمائة وإحدى وعشرين، وهو رجل "إسكتلندي" عاش وحيدًا في جزيرة معزولة من جزر "شيلي" بأمريكا الجنوبية؛ فكانت له تجربة مثيرة، فعندما كان يعبر البحار الجنوبية عام ألف وسبعمائة وأربعة في حملة للقرصنة البحرية تشاجر مع قبطان السفينة. وبناء على طلبه ترك في إحدى جزر "خوان فورنانديز" على بعد حوالي ستمائة وأربعين كيلو متر غرب "تشيلي" فعاش هناك وحيدًا لمدة اثنين وخمسين شهرًا، حتى أنقذه القبطان "وولس روجرس" وقد سجل القُبطان تجارب "سيلكيرك" في كتابه (رحلة ممتعة حول العالم) كما وصفه القبطان "إدور كوك" في كتابيه (رحلة إلى البحار الجنوبية) و (حول العالم) . أما اسم رواية "ديفو" فمأخوذ من اسم إحدى الجزر التابعة لأرخبيل "خوان فرنانديز" الذي يتبع دولة "تشيلي" وهي "روبنسون كروزو" و"سانتكلارا" و"ريجندو سيلكيرك" ويعش نحو أربعمائة نسمة من المتحدثين بالأسبانية في جزيرة "كروزو" التي اشتهرت بوصفها الجزيرة التي عاش فيه المنبوذ "الإكسندر سيلكيرك" وحيدًا لأكثر من أربع سنوات؛ من عام ألف وسبعمائة وأربعة، إلى عام ألف وسبعمائة وتسعة، وكانت الرحالة الأسباني "خوان فرنانديز" أول من اكتشف هذه الجزر عام ألف وخمسمائة وثلاثة وستين للميلاد . والآن وبعد أن ألممنا جيدًا بشكل القصتين ومضمونهما، واطلعنا على المقارنات المختلفة بينهما، وعرفنا الظروف التي صدرت فيها كل منهما، يمكننا أن نقول: "لا شك أنه كان لمغامرة "سيلكيرك" التي سجلها القبطان الذي أنقذه، ونشرها على الجمهور؛ فضل كبير على رواية "ديفو" إذ لا يعقل أن تنشر تلك المغامرات في العصر الذي يعيش فيه كاتب، وأديب، وسياسي مثله دون أن يدري ويتأثر بها في قصته. والإجماع منعقد على الاعتراف بهذا التأثير؛ لكن هل هذا يعني بالضرورة أنه لا مكان لأي تأثير من جانب حي بن يقظان في ذلك العمل؟ لقد تمت ترجمة الرواية الأخيرة الإنجليزية واللاتينية، قبل كتابة "ديفو" روايته بزمن غير قصير، وليس من المعقول أيضًا أن يجهل واحد مثله ذلك العمل الذي شد كبار عصره في أوربا كلها، وأعجبهم إعجابًا شديدًا، وكانت له تلك التأثيرات العميقة على عددٍ من مفكري القارة وفلاسفتها، مما سقنا بعضه فيما سبق . ومن هنا فإنني أقول: "إنه من المرجح أن يكون "ديفو" قد تأثر بها أيضًا كما تأثر بمغامرات "سليكيرك" تأثر بها على الأقل من حيث أنها شجعته أن يحول ما قرأه عن مغامرات البحار "الإسكتلندي" إلى عمل قصصي، وعلى تضمين قصته بعض القضايا الفكرية، مثلما اشتملت حي بن يقظان على مثل تلك القضايا، وإن اختلفت نوع قضاياه عن قضايا ابن الطفيل؛ نظرًا لاختلاف شخصيتيهما، وبيئتيهما، وثقافتيهما ووظيفتيهما، صحيح أن أحدًا من المقارنين لم يستطع حتى الآن -في حدود علمنا- أن يضع يده على شيء يثبت أن "ديفو" قد اطلع فعلًا على حي بن يقظان، بيد أن هذا كما قلت لا يستلزم بالضرورة أن لا يكون الاطلاع قد حدث، أو أن التأثر لم يقع إذ الأمران مختلفان تمامًا . وعلى هذا؛ فإنني لا أستطيع الجزم بتأثير القصة العربية على نظيرتها الإنجليزية، كما صنع بعض المتحمسين من الباحثين العرب والأوربيين، بل أكتفي بالترجيح نظرًا لما ذكرته قبل قليل من الأسباب الحاملة على ذلك، بالإضافة إلى وجوه التشابه القوي بين العملين، وقرب الزمنين اللذين ظهرا فيهما، أما الجزم بنفي أي تأثير لرواية ابن الطفيل على "روبنسون كروزو" فأمر لا يمكن الإقدام عليه ولا حتى تقبله.




2-التوابع والزوابع :
أ-التعريف برسالة التّوابع والزّوابع: رسالة التّوابع والزّوابع رسالة نثريّة خاطب فيها ابن شُهيد صديقه أبا بكر بن حزم وعرض فيها أروع نتاجه الشّعريّ والنّثريّ، وقرنه إلى نتاج كبار أدباء المشرق مبيناً تفرّده وتفوّقه، وعرّض بخصومه وحسّاده من معاصريه الأندلسيّين والقرطبيّين.
ب- والتّوابع والزّوابع قصّة رحلةٍ خياليّة إلى عالم الجنّ قام بها ابن شهيد مع تابع اسمه زهير بن نُمير ولقي شياطين المشرق وكتّابهم، وجرت بينه وبينهم مطارحات أدبيّة، ومناقشات لغوية تجلّت فيها آراء ابن شهيد النقديّة، وانتزع اعترافهم بتفوّقه وجودة أدبه، فضلاً عن الفكاهات والطّرف وروح الدّعابة التي سرت في هذه الرسالة.
ج-يحمله زهير على متن الجو إلى أرض الجن حيث التقى هناك بتوابع الشعراء المشهورين عتبة بن نوفل تابع امرئ القيس وعنترة بن العجلان تابع طرفة، وأبا الخطار تابع قيس بن الخطيم من الشعراء الجاهلين، ولقي عتّاب بن حبناء تابع أبي تمام، وأبا الطبع تابع البحتري وحسين الدَّنان تابع أبي نواس، وحارثة ابن المغلس تابع المتنبي، كما التقى ببعض شياطين الكتاب،
د-وهي فكرة جديدة صاحبها أبو عامر؛ ذلك أنه لم يكن من الشائع أن هناك شياطين أو توابع للكتاب، التقى أبو عامر بشياطين صفوة كتاب العربية وهم عتبة بن أرقم تابع الجاحظ، وأبو هبيرة تابع عبد الحميد، وزبدة الحقب تابع بديع الزمان. ويخرج أبو عامر من هذه المقابلات مجازاً مشهوداً له بالفضل، كأن يقال له أحد الجن ما أنت إلا محسن على إساءة زمانك.
ه-ولا يقف بابن شهيد في قصته عند مقابلة التوابع الذين مر ذكرهم، وإنما تلقي به طبيعة رحلته إلى مجلس أدب عقده أدباء الجن وهي جلسة نقدية يعرضون فيها لأقوال الشعراء ويستعرض ابن شهيد أمام منتدى الجن موهبته الشعرية والنقدية،
و-وتمضي قصة التوابع والزوابع، فيصل أبو عامر وتابعه زهير بن نمير إلى وادٍ آخر من أودية الجن وتلقي به المقادير إلى نادِ لحمير الجن وبغالها ويلتقي ببغلة أديبة ناقدة وبأوزة أديبة وتنتهي المحاورة بتغلبه على حيوان الجن الأدباء والنقاد وبذلك تنتهي قصة التوابع والزوابع أو بالأحرى تنتهي الجزء الذي وصل إلينا منها عن طريق كتاب الذخيرة.
ز- يبدأ ابن شهيد قصته قائلاً: "لله أبا بكر ظنٌ رميته فأصميت، وحدسٌ أمّلتّه فما أشويت ، فقلت كيف أوتى الحكم صبياً، وهزّ بجذع نخلة الكلام فالسّاقط عليه رطباً جنيا، أمَا به شيطاناً يهديه، وشيصباناً يأتيه وأقسم أن له تابعة تنجده، وزابعة تؤيده، ليس هذا في قدرة الإنس، ولا هذا النّفس لهذه النفس. فأما وقد قلتها، أبا بكر، فأصخ أسمعك العجب العجاب" ويمضي يقص عليه نبأ تعلقه بأهل العلم والمطالعة حتى يصل إلى "فأرتج عليّ القول وأفحمت، فإذا أنا بفارس على باب المجلس على فرس أدهم كما بقل وجهه، وقد اتكأ على رمحه وصاح بي وقلت له: بأبي أنت، من أنت؟ قال: أنا زهير بن نُمير من أشجع الجن، قلت: وما الذي حداك إلى التصور لي؟ فقال: صادفتَ قلباً إليك مقلوباً، وهوىً نحوك مجنوناً. وتحادثنا حيناً ثم قال: متى شئت استحضاري ؟فأنشد هذه الأبيات.
وإلى زهير الحُبَّ يا عَزَّ إنه إذا ذكرته الذاكرات أتاها
وأوثب الأدهم جدار الحائط ثم غاب عني. وكنت، أبا بكر، متى أُرتج عليَّ أو انقطع بي مسلك، أو خانني أسلوب، أنشد الأبيات فيمثلُ لي صاحبي فأسير إلى ما أرغب، وأدرك بقريحتي ما أطلب. وتأكدت صحبتنا، وجرت قصص لولا أن يطول الكتاب لذكرت أكثرها، لكني ذاكر بعضها".
نصّ قصة تابع امرئ القيس:
والنّص الذي بين يدينا ما هو إلاّ قصة جمالها في نسج أسلوبها، ودقّة ألفاظها، وبُعد مراميها الفكريّة والحضاريّة والفنيّة، وقد جعل ابن شهيد بدايتها: "تذاكرت يوماً مع زهير بن نمير أخبار الخطباء والشعراء، وما كان يألفهم من التوابع والزّوابع، وقلت: هل حيلةٌ في لقاء مَن اتّفق منهم؟ قال: حتى أستأذن شيخنا، وطار عنّي، ثمّ انصرف كلمح البصر، وقد أُذن له، فقال: حُلّ على متن الجواد، فصرنا عليه، وسار بنا كالطّائر، يجتابُ الجوّ فالجوّ، ويقطع الدّوّ فالدّو، حتى التمحت أرضاً لا كأرضنا، وشارفت جوّاً لا كجوّنا. متفرعُ الشّجر عطرْ الزّهر، فقال لي: حللت أرض الجنّ أبا عامر، فبمن تريد أن نبدأ؟ قلت: الخطباء أولى بالتقديم لكني إلى الشعراء أشوق. قال: فمن تريد منهم؟ قلت: صاحب امرئ القيس. فأمال العنان إلى وادٍ ذي دوح تتكسر أشجاره، وتترنم أطياره، فصاح: يا عتيبة بن نوفل بسقط اللّوى فحومل، ويوم دارة جلجل، إلاّ ما عرضت علينا وجهك، وأنشدتنا من شعرك وسمعت من الإنسيّ، وعرّفتنا كيف إجازتك له. فظهر لنا فارسٌ على فرس شقراء كأنها تلتهب، فقال: حياك الله يا زهير، وحيا صاحبك! أهذا فتاهم؟ قلت: هو هذا، وأيّ حمرة يا عتيبة! فقال لي: أنشد، فقلت: السيّد أولى بالإنشاد، فتطامح طرفه، واهتزّ عطفه، وقبض عنان الشقراء، وضربها بالسوط، فسمت تحضر طولاً عنّا وكرّ، فاستقبلناه بالصعدة هازّاً لها، ثمّ ركزها، وجعل يُنشد:
سما لكَ شوقٌ بعدَ ما كانَ أقصرا
حتى أكملها، ثمّ قال لي: أنشدْ، فهممتُ بالحيصة، ثم اشتّدتْ قوى نفسي، وأنشدتُ:
شجتهُ مغانٍ من سُليمى وأدْؤُرُ
ومِنْ قُبَّةٍ لا يدركُ الطّرفُ رأسها تزلُّ بها ريحُ الصبّا، فتحدَّرُ
تكلّفْتُها، والليلُ قدْ جاشَ بحرهُ وقدْ جعلتْ أمواجُهُ تتكسَّرُ
ومِنْ تحت حضني أبيضٌ ذو سفاسقٍ وفي الكفّ من عسَالةِ الخط أسمَرُ
هما صاحباي من لَدُنْ كنتُ يافعاً مُقيلانِ من جِدّ الفتى حين يَعْثُر
فذا جَدْولٌ في الغِمدِ تُسقى به المُنى وذا غصُنٌ في الكفّ يجنى، فيثمرُ
فلمّا انتهيتُ تأمّلني عُتيبةُ، ثم قال: اذهب، فقد أجزْتُكَ، وغاب عنا".
وتنتهي القصة بتوضيح الهدف الذي من أجله نسج ابن شهيد قصته، وهو إثباته لذاته عن طريق نيل الإجازة من تابع امرئ القيس، هذه الإجازة تبرهن على إعجاب ابن شهيد بنفسه وتأتي لتأكيد صلة أدب المشرق بالمغرب، وتطلّع ابن شهيد إلى رئاسة الأدبين، فالهدف عند ابن شهيد في كتابته قصة التوابع والزوابع دافع شخصي نابع من إحساسه بأن معاصريه من الأدباء والنقاد لم يولوه حقه من التكريم، ولم ينزلوه المنزلة الأدبية التي رأى نفسه أهلاً لها. كما أنّ غايته إثبات مقدرته الأسلوبية النثرية والشعرية أمام المشارقة عن طريق مقابلة توابع الشعراء والكتّاب، وكسب اعترافهم بتفوقه.
رؤيا في قصة ابن شهيد :
1-لابن شهيد ثقافته العربية الواسعة بالشعر والنثر التي سخّرها لخدمة نسيج القصة، يدلل على أن هذه القصة عربية الشكل والمضمون
2-لستناد شكل القصة إلى الأسطورة العربية القديمة بوجود توابع للشعراء في وادي عبقر، واستقائها فكرة رحلة الإسراء والمعراج في نسج أحداثها،
3-جاءت القصة عربيّة المضمون لما حوته من قص وشعر مرتبط بحضارة الأندلس من جهة، وبالتراث المشرقي من جهة أخرى.
4-هناك من يرى أن قصة التوابع والزوابع من حيث فكرتها مقتبسة من مقامة لبديع الزمان رغم قصرها، فبطل المقامة فقد إبله وخرج في طلبها، فرمته مقاديره في وادٍ أخضر وهناك التقى بشيخ جالس وبعد أن أنس إليه أخذ يروي شيئاً من أشعار العرب وبهذا يتبين أن ابن شهيد أخذ المقامة ونماها وتوسع في خيالاتها وأضاف إليها ما جعلها تخدم غرضه الخاص في كتابة قصته الطويلة. فالرحلة عربية الطابع والطبّع، وهي مستمدة من التاريخ العربي الإسلامي، لأنها تشبه رحلة الإسراء والمعراج في فكرة الرحلة، وأصالتها في المساجلات التي حصلت بين ابن شهيد وشعراء المشرق العربي ممّا يؤكّد انتماءها إلى التراث العربي الإسلامي، ، كما أن رسالة التوابع والزوابع بُنيت على أساس الأسطورة العربية القائلة بأنّ لكل شاعر تابعاً يلهمه الشعر، ويعينه في صناعته.
5-وابن شهيد يمثّل شخصيّة البطل في هذه القصّة، كما يمثلها في أغلب قصصه، فهو البطل والرّاوي وتأتي شخصيّة زُهير لتكون ظلاً لشخصيّة ابن شهيد إذ ترافقه أينما توجّه، وحيثما حلّ وتُسهم في إغناء مقدّمة القصّة من خلال الحوار الذي دار بينهما وشخصية الشيخ هي الثالثة، وقد جاء بها ابن شهيد، لتكون حلقة وصل بين ابن شهيد وزهير، هذه الشخصية لم يتحدّث عن هيئتها وأوصافها، بل اكتفى بالإشارة إليها لأهميّتها في نيل تذكرة القبول بالمغادرة عن طريق الحوار الذي جعل من هذا النيل حدثاً ثالثاً في القصّة عبر تسيير شخصية الشيخ له، وتأصيله بدعوة من زهير لابن شهيد لاستقلال جوادِ يرحلان عليه.
7-والقصّة في هذا السياق تقدّم جانباً هامّاً من جوانب التربية التي يتمثّل بها ذلك العصر، فقد هذبت طباعَه أناقةُ القصور التي استظلّ في أفيائها، وخالط أصنافاً متعدّدة من أبناء المجتمع أيام النعيم والبؤس، فهو نقطة الدّائرة في عصره يرفع الأمراء قدره، ويخطب الوزراء صداقته، ويتبارى الشعراء والكتّاب بمساجلته، كلّ هذه الأمور ترتبط بهدوء حديثه، ووقار كلامه، وبروز ذاته. ولا عجبَ أن يظهر سلوكه في ألفاظه لأنّ الإنسان ابن البيئة، وقد كان للبيئة دور بارز في تكوين شخصيته، وصقل مواهبه. وهدوء النفس يرتبط بسياق القصة من خلال التركيب اللغوي الذي تتألف فيه العبارات محافظة على الوحدة العضويّة عن طريق العبارة الدّالة على السلوك تارة، ومن خلال اللفظة المنسجمة مع التعبير والملائمة للجو تارة أخرى.
[/align][/SIZE]