أضواء خافتة.. فهل تكشف شيئا من أنوار القصيد؟!
.......................
محاولة لقراءة قصيدة ( النبي ) للشاعر العماني جمال الملا قراءة تحليلية تذوقية.
بقلم أحمد عبد الكريم زنبركجي.
.................................................. ...............
فازت هذه القصيدة بالمركز الأول في جائزة " كتارا " لشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، في قطر هذا العام بجدارة.
وهي قصيدة طويلة، كتبها الشاعر في ستة أشهر، وأنا مكثتُ في حناياها طويلا، كما لم أفعل في أي قصيدة من قبل.
...................
في البدء لا بد من عرض القصيدة عليكم، يقول الشاعر:
...................
أنْسَلّ من عتْمة المعنى أغيب سدى ..... خلعت نعليّ لا ظلا ولا جسدا!
أمشي على الماء..هل في الماء من قبسٍ؟....لما بدوتُ اختفى..لما اختفيت بدا!
يرتد صوت من النار التي اتقدت ...... يارب…يارب من فينا الذي اتقدا
أكان صوتكَ إذ ناديتني ولِهاً ..... أم كنتُ من صاح بي والنارُ محض صدى!
وكنت وحدي في الوادي أرى حجبا ...... تكشفت وأرى إذ لا أرى أحدا!
وقفتُ أحمل ميلادا وأسئلة ....... وحيرة شربَتْ من خافقي أمدا
فمر بي عاشق حينا ولوح لي ........ ثم استدار لوجه الضوء وابتعدا
وشق في الطور دربا ضائعا ومضى ...... في هدأة واستباح السفح والسندا
أدركته عند جرف فاستحال هوًى ..... غزالة جفلت ما إن مددت يدا
تلفتت في جهات الروح غارقة ....... فلم تجد دون وجه الله ملتحدا!
واساقطت في العماء المحض وارتطمت ...... بوردة وتلاشت في الرؤى بددا!
بهوٌ يعج بأسماء العلو..رحىً .......... تدور.. بابٌ … ضجيجٌ ما … أزيز ندا
كان النشور مهيبا يومها انشطرت ........ أرض وجاؤوا فُرادى..شهقة فردى
وثَمّ ألفٌ نبيٍ دونهم أمم ......... ووحده كان مشهودا ومنفردا
كان اللواء رفيعا وهو يحمله ....... وكان في ظله العشاق والشهدا
تروي النقوش القديمات التي نُسيت ......في حائط البحر.. أن البحر قد نفدا
إذ الخليل وفأس الحق في يده ....... إذ يرفع البيت… يهدي قلبه وتدا
ويوم قال ابنه افعل ما أمرتَ به ....... الله.. وانقلب السكينُ مرتعدا!!
فمن سيلتقط السر الذي فضحت ...... منه ملامحه جهرا بكبش فدا!!
ضجت قريش إلى أن قالت امرأةٌ ...... يا شيبة الحمدِ.. قد أنجبت من حُمدا!!!
هم تسعةٌ ليس هذا الفرد عاشرهم ...... فانحر من الإبل إكراما لمن وفدا!!
يابن الذبيحين يا من في تقلبه ...... في الساجدين أضاء المنتهى مددا
صلبا فصلبا كريما كان منتقلا ....... حتى تجلى قريشيا بذات ندى
وأي أم نبي مثل آمنة ......... وقد تراءت قصور الروم إذ ولدا!!
تلقفته البوادي.. حضن مرضعة ...... حضن وحيد.. ولا أحصي له عددا
قد شق جبريل منه الصدر فانطفأت ......فيه حظوظ الدنى فانداح نور هدى
نجم يشعُ .. وفي “بصرى” يخرُ له ......كلٌ ..وكان صبيا يقطع البددا!!
في الغار..ما الغار؟ إذ يعدو على عجل....إلى خديجة بل نحو السماء عدا!
بيت بمكة .. شباكان من مطر ....... باب تفتح إلا أنه صعدا!
نحو الخيال الذي أرخى سريرته .....على ذرى القدس..إذ حيث البراق حدا!
ماذا جرى في بلاط الروح ليس لنا ....فيه من العلم..يا من غاب!..من شهدا؟
وعاد يحمل إرث الله في دمه....... واللمحة البكر أن نفنى به أبدا!!
ما أمر ربك إلا محض واحدة ...... لذا فراشك حتى الآن ما بردا!
أضاعك العُقلا من كل خاطرة ...... وضيعتك قلوبٌ في الذي اعتقدا
يا أيها القدم المنسي داخلنا ...... فتشت عنك وكلي منك قد وجِدا!!
نقول كان بسيطا.. ها هنا حُجَرٌ ..... هنا توضأ.. صلى.. ها هنا سجدا!
وكان بين يديه كم ملائكة ...... تحفه.. وكذا من خلفه رصدا!
الأسودان صحابيان مرتبة ...... عليا وللجوع آيات كما عهدا
كم شدّ تحت رداء النور من حَجرٍ...... حتى تعلم منه الصبر والجلدا
يا من له كانت الأخلاق معجزة .......ما عاب قط طعاما لا وما انتقدا
لا تبك يا عمر الفاروق ان ترك..... الحصير في جنبه ختما اذا رقدا
فذاك من لغة في أبجديتها: ..... أن الحرير يساوي ذلك اللبدا
محمد واستوى الرحمن وهو على..... عرش عظيم .. فسمى نفسه الصمدا
محمد يا مقامات معمدة ......بالطين .. عبدا رسولا كيف ما عبدا!
سواد عينيك، ليل العارفين سروا ..... به، فغابوا.. أضاعوا الدرب والبلدا
أتوا إلى البئر مشدوهين وارتحلوا ....وأشعلوا في الغياب القلب والكبدا
كل الطرائق تفضي في حقيقتها..... له وان قد تبدّت في للورى قددا
وافيت بابك حيث الأرضُ متعبةٌ .... أقول شعرا كثيرا فيك مجتهدا
فلست كعبا وإن بانت سعاد وإن..... أبقتني اليوم متبولا بها سهدا
ولا الذي أشرقت شعرا كواكبه..... درية لم يسعها في الفضاء مدى
معي القصيدة أتلوها عليك وقد ..... ألفت ذلي والأبواب والوصدا
كل القصائد مهما قيل ناقصة ..... فالعفو إن لامني النقاد والرشدا
والعفو منك رسول الله معذرة .... إن حمّلوها على غير الذي قصدا
لا زلت في الحيرة الأولى بقلب طوى.... هل جئِتُ مصطليا أم جئِتُ مبتردا؟
في اللاشعور بهاءٌ، في حضور دمي ... لكنني اخترت سهوا أن أغيب سدى!
............................
لا أخفيكم أنني وقفتُ أمام هذه القصيدة متحيّرًا، تائهًا بين حناياها وأوصالها.
حتى إنها قد جعلتني أوشك أن أصدق مقولة شيطان الشعر.
رأيتها هُلامية، سابحة في أعماق الأحلام، متلاطمة الأمواج، عباراتها تومض كالبرق
وفي كثير من معانيها قفزاتٌ متتابعة سريعة، بعبارات موجزة، ورموز كثيرة تميل إلى الغموض نسبيًّا.
وقد اختار الشاعر البحر البسيط ذا الموسيقا الغنائية الهادئة، أشهر البحور الشعرية التي نُظِمت عليها مدائح الرسول الكريم، مثل بانت سعاد والبردة ونهج البردة...
وقد بنى قصيدته معتمدا على ثلاثة عناصر فكرية رئيسة هي:
- إبراز شعوره وإحساساته، ووصف رؤاه وأحواله.
- ذِكْرُ أحداث وعلامات بارزة أساسية من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بإيجاز شديد، وبإيماءات سريعة ورموز.
- بيان أن الرسول يجل عن الوصف والمدح، وبيان تواضع الشاعر أمام كبار الشعراء الذين سبقوه في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .
...................
فنجده في المقدمة يستلهم جوانب من قصة ارتحال سيدنا موسى للقاء ربه جانب الطور كسيره وحيدا، وخلع النعلين، ورؤية النار. يرى من جلال النبي عجبا.
وتلتبس عليه بعض المشاهدات، فيرى خيالات ثم تختفي. إنه مذهول من جلال رسول الله صاحب السيرة العطرة العظيمة.
أخذ يبحث في داخله فلم يجد ملاذا له من الحيرة إلا الله.
........
ثم من خلال نقلة فكرية نوعية يتمثل الشاعر بعض أحداث يوم القيامة:
(كان النشور مهيبا يومها انشطرت أرض وجاؤوا فُرادى..شهقة فردى)
وهنا يستحضر مشهد بعث الأنبياء مع أممهم.
........
ثم لا يلبث الشاعر أن يعود بخياله الذي لا يعرف الحدود إلى بداية سيرة الرسول الكريم بدءًا من جده الأعلى إبراهيم - عليه السلام - ثم ابنه الذبيح إسماعيل.
ثم يذكر قصة ولادة عبد الله بن عبد المطلب والد النبي وافتدائه بذبح النوق، حتى سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين:
(يابن الذبيحين يا من في تقلبه في الساجدين أضاء المنتهى مددا)
ويتابع وصف إشراقة المولد النبوي العظيم، ورضاعته، وحادثة شق الصدر، ويومئ إلى قصة رحلته مع عمه أبي طالب إلى الشام، إلى بصرى ، حيث الراهب بحيرا الذي تنبَّأ له بنبوّته عليه السلام.
........
ثم يعرج على تعبده في غار حراء، ونزول جبريل عليه بالوحي، وفزعته إلى زوجه خديجة:
(في الغار.. ما الغار؟ إذ يعدو على عجل إلى خديجة بل نحو السماء عدا!)
( بل نحو السماء عدا ) تقرير بجوهر هذا الحدث وهو بداية الرسالة الإلهية.
ثم يذكر رحلة الإسراء والمعراج التي كانت في ليلة واحدة:
(ما أمر ربك إلا محض واحدة لذا فراشك حتى الآن ما بردا!)
ثم يذكر جوانب أخرى من حياته عليه السلام من حفظ الملائكة له، ومن عيشه زاهدا على التمر والماء، ومن شد الحجر على بطنه لتخفيف ألم الجوع، ومن عدم عيبه أي طعام.
يقول:
(الأسودان صحابيان مرتبة عليا وللجوع آيات كما عهدا)
(كم شدّ تحت رداء النور من حَجرٍ حتى تعلم منه الصبر والجلدا)
ثم يذكر تألّم الفاروق عمر من رؤية الحصير وقد أثّر في جنب النبي عليه السلام.
ثم بيّن اكتمال الشريعة بهذا النبي الذي كانت تهوي إليه الأفئدة.
وحينما يصل إلى العنصر الأخير؛ يبين أنه مدح النبي مع أنه لا يداني في شعره أولئك الشعراء الكبار ككعب وحسان.
ويبين أن كل ما قيل من شعر لا يمكن أن يوفّي النبيَّ عليه السلام حقه من المدح والثناء:
(كل القصائد مهما قيل ناقصة فالعفو إن لامني النقاد والرشدا)
ويختم قصيدته عودًا على بدء: فهو لم يزل في " طوى " حائرا متفكرًا
لا يدري أهو يتنعّم بذكر سيرة الرسول الكريم، أم يزيده الشوق والحب التهابا:
(لا زلت في الحيرة الأولى بقلب طوى هل جئِتُ مصطليا أم جئِتُ مبتردا؟)
(في اللاشعور بهاءٌ، في حضور دمي .. لكنني اخترت سهوا أن أغيب سدى!)
..................
أعود معكم إلى القصيدة لننعم النظر، ونستمتع بالجمال:
بدأ الشاعر قصيدته بمطلع أخّاذ جذّاب:
(أنسل من عتْمة المعنى أغيب سدى خلعت نعليّ لا ظلا ولا جسدا!)
بيت مُصَرَّع، وألفاظ منتقاة، ومعنًى ذو رؤى وخيال.
( أنسلُّ ) كلمة منتقاة، فعل مضارع، يصف حدثا للشاعر نفسه، إنه ينسل من الغموض ملتمسا الفهم والنور.
(... من عتمة المعنى ) : الراجح أن ( من ) هنا هي لابتداء الغاية المكانية، فهو يخرج من تلك العتمة....، و ( عتمة المعنى )وصف مبتكر، يوحي بالالتباس وعدم الوضوح.
( خلعت نعلي ) جملة موجزة استعار فيها الشاعر مشهد نبي الله موسى وهو عند جبل الطور، إذ أمره الله بخلع نعليه. وهو بهذا الخلع والاقتباس يعقد مشابهة بين الموقفين من حيث العظمة، فهو أمام عظمة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
( لا ظلا ولا جسدا ) ذَوَبانٌ وتَلاشٍ في حضرة السيرة العظيمة.
(أمشي على الماء..هل في الماء من قبسٍ؟؟ لما بدوتُ اختفى..لما اختفيت بدا!)
كلام من عالَم سحريّ، من شاعر ساح في واد من الأحلام والخيال.
جمل قصيرة، استفهام تعجبي، ومقابلةٌ هي لغز: (لما بدوتُ اختفى..لما اختفيت بدا)!
وهذا الأسلوب اتبعه الشاعر كثيرا، كما سنرى.
...........
ويتابع فيقول:
(يرتد صوت من النار التي اتقدت يارب…يارب من فينا الذي اتقدا)
(أكان صوتكَ إذ ناديتني ولِهاً أم كنتُ من صاح بي والنارُ محض صدى!)
الشاعر والنار متّقدان معا. فالشاعر متقد شعورا وشوقا. التبس عليه الأمر، وهامَ فلم يدر أكان هو المتكلم أم سمع أحدا يكلمه، ولم يدر أكان هناك نار أم هي مجرد وهم.. إنه ولهان حيران هيمان..
..........
(وكنت وحدي في الوادي أرى حجبا تكشفت وأرى إذ لا أرى أحدا!)
(وقفتُ أحمل ميلادا وأسئلة وحيرة شربت من خافقي أمدا)
انفراده في الوادي جعله يرى العجب العجاب، وتتكشف له الحجب، فيقف وهو ممتلئ حيرة وتساؤلات عن ميلاد النبي وحياته الحافلة العظيمة.
( وأرى إذ لا أرى أحدا ) عبارة أخرى من عبارات التضاد ( وهي هنا طباق سلب ) .
أسلوب مؤثر في المتلقّي، يأخذ بالألباب.
( وحيرة شربت من خافقي أمدا ) معنى جميل، وصورة مبتكرة، تبين مدى هذه الحيرة وشدتها، وشدة انشغاله بها.
...........
ويتابع فيقول:
(فمر بي عاشق حينا ولوح لي ثم استدار لوجه الضوء وابتعدا
وشق في الطور دربا ضائعا ومضى في هدأة واستباح السفح والسندا
أدركته عند جرف فاستحال هوى غزالة جفلت ما إن مددت يدا
تلفتت في جهات الروح غارقة فلم تجد دون وجه الله ملتحدا!
واساقطت في العماء المحض وارتطمت بوردة وتلاشت في الرؤى بددا!
بهوٌ يعج بأسماء العلو..رحىً تدور.. بابٌ … ضجيجٌ ما … أزيز ندا)
رأينا الشاعر في الأبيات السابقة يستمر في عالمه الخيالي الرومنسي، عالم الأحلام: يرى شبحا يسلم عليه، ثم لا يلبث أن يختفي كما تختفي غزالة شرود، فلا يبقى بعدُ إلا وجه الله.
( ... رحى تدور .. باب .. ضجيج ما .. أزيز ندا ) حركة لغوية سريعة، تعكس مشهدا وأصواتا.
نلحظ أنه يستخدم الكلمات المفردة قائمةً مقام الجمل، بتقدير محذوفات: (باب/ ضجيج ما/ أزيز ندا)
..........
وكما هو حال جمله القصيرة السريعة؛ كانت قفزاته الفكرية كذلك سريعة، لا تعرف الحدود ولا الترتيب.
وكأني بهذه الفِكَر – في انتقالاتها وقفزاتها - تشبه فرس امرئ القيس:
{ مكر مفر مقبل مدبر معا ....... كجلمود صخر حطه السيل من عل }!!
فههوذا الشاعر ينتقل الآن إلى استحضار مشهد يوم القيامة:
(كان النشور مهيبا يومها انشطرت أرض وجاؤوا فُرادى..شهقة فردى
وثَمْ ألفٌ نبيٍ دونهم أمم ووحده كان مشهودا ومنفردا
كان اللواء رفيعا وهو يحمله وكان في ظله العشاق والشهدا)
يتحدث عن يوم القيامة بلفظ الماضي ( يومها انشطرت ) وهذا في حد ذاته إبداع، ما أظن أن أحدا غير القرآن الكريم قد سبقه إليه. فهو يتحدث بلسان مَن رأى وسمع فشهِد.
( وجاؤوا فرادى ) لم يعد ضمير الواو على مذكور، ولكنه اعتمد على فهم المتلقي له.
( شهقة فردى ) كل كلمة تمثل جملة!! وهذا ديدن معظم القصيدة، وهذا من أهم أسرار جمالها وجاذبيتها وإثارتها.
...........
ثم في بيتين فقط – كما رأينا – وصف مشهد الأنبياء وأقوامهم يوم القيامة، وكيف يكون الرسول الأعظم عليه السلام متفردا بينهم يقدم جموع المؤمنين، الذين عبر عنهم الشاعر
بـ ( العشاق والشهدا) فالعشاق هم محبو الله ورسوله.
..........
ثم لا يلبث أن تعوج فرسه فترتد إلى الزمن الغابر، إلى جذور سيرة الرسول الكريم بدءًا من جده إبراهيم الخليل، فيقول:
(تروي النقوش القديمات التي نسيت في حائط البحر.. أن البحر قد نفدا)
هذا البيت تمهيد للسيرة، يبين به أنها سيرة زاخرة، نفد البحر حبرًا في كتابتها.
ثم يقول:
(إذ الخليل وفأس الحق في يده إذ يرفع البيت… يهدي قلبه وتدا
ويوم قال ابنه افعلْ ما أُمرتَ به الله.. وانقلب السكينُ مرتعدا!!
فمن سيلتقط السر الذي فضحت منه ملامحه جهرا بكبش فدا!!
ضجت قريش إلى أن قالت امرأةٌ يا شيبة الحمدِ.. قد أنجبت من حُمدا!!!
هم تسعةٌ ليس هذا الفرد عاشرهم فانحر من الإبل إكراما لمن وفدا!!)
في البيت الأول ( إذ الخليل ... ) يشير إلى تحطيم إبراهيم للأصنام بمجرد ذكر ( فأس الحق في يده ) ويترك الفهم وتَذَكُّر البقية للمتلقي.
وفي الشطر الثاني منه يشير إلى بناء إبراهيم البيت الحرام.
( يهدي قلبه وتدا ) أي يهدي إبراهيمُ الكعبةَ قلبَه ليكون وتدا وجزءا من بنائها. فالقلب هو المُهدَى، والكعبة ( وهي مقدرة في السياق ) هي المُهدَى إليه.
وفي البيتين التاليين: ( ويوم قال ابنه افعل...) و ( فمن سيلتقط السر ..... )
حكى الشاعر بإيجاز وإيماض قصة الذبيح إسماعيل، وكيف افتداه الله سبحانه بذِبح عظيم.
ومن الإيجاز الحكيم أنه لم يبدأ تلك القصة من ذكر الحلم الذي رآه إبراهيم، ولكنْ من استجابة إسماعيل مباشرة!
وفي البيتين التاليين: ( ضجت قريش ... ) و ( هم تسعة ... ) حكى بالأسوب الموجز نفسه قصة افتداء عبد المطلب لابنه عبد الله – والد النبي – بمائة من الإبل، إذ كان قد وقعت عليه القرعة ليُذبح قربانا.
..........
وبعد هاتين القصتين يخاطب الشاعر رسولَ الله بابن الذبيحين، فيقول:
(يابن الذبيحين يا من في تقلبه في الساجدين أضاء المنتهى مددا
صلبا فصلبا كريما كان منتقلا حتى تجلى قريشيا بذات ندى)
( يابن الذبيحين ) يقصد أبويه إسماعيل وعبد الله، إيماء إلى الأصل العريق.
( تقلبه في الساجدين ) اقتباس قرآني يشير إلى كثرة عبادته.
( أضاء المنتهى مددا ) مدح بعظيم أنواره عليه السلام. وكلمة ( المنتهى ) قد يراد بها
كل الكون حتى نهايته، أو سدرة المنتهى في السماء!
..........
ثم يذكر ولادة آمنة للنبي، ثم رضاعته- عليه السلام - من حليمة السعدية، فيقول:
(وأي أم نبي مثل آمنة وقد تراءت قصور الروم إذ ولدا!!)
(تلقفته البوادي.. حضن مرضعة حضن وحيد.. ولا أحصي له عددا)
( حضن وحيد ولا أحصي له عددا ) أي إن النبي الرضيع في حضن واحد، غير أنه يمثل أمة عظيمة لا تُحصى عددا. عبارة موجزة موحية!
...........
ثم يقول:
(قد شق جبريل منه الصدر فانطفأت فيه حظوظ الدنى فانداح نور هدى )
يذكر حادثة شق جبريل لصدر النبي وهو صغير، واستخراج قلبه، ونزع مضغة سوداء منه، هي نصيب الشيطان منه، ثم إعادته إلى صدره، ولأْمِ الجرح.
.........
ثم يقول:
(نجم يشعُ .. وفي “بصرى” يخرُّ له كلٌ ..وكان صبيا يقطع البددا!!)
يذكر رحلته عليه السلام مع عمه أبي طالب إلى بصرى الشام، حيث رآه الراهب بحيرا، وأخبر أنه سيكون النبي المرتقب.
.........
ثم يقول:
(في الغار.. ما الغار؟ إذ يعدو على عجل إلى خديجة بل نحو السماء عدا!)
لقد رأيناه ينتقل هنا مباشرة إلى ذكر نزول الوحي على النبي في غار حراء، ثم لجوئه إلى زوجه خديجة.
( بل نحو السماء عدا ) إثبات لجوهر هذا الأمر، فهو بداية علاقة النبي الكريم بالسماء أي بالله سبحانه.
..........
ثم لا يلبث الشاعر أن ينتقل مباشرة أيضا إلى حادثة الإسراء والمعراج في بضعة أبيات، فيقول:
(بيت بمكة .. شباكان من مطر باب تفتح إلا أنه صعدا!
نحو الخيال الذي أرخى سريرته على ذرى القدس..إذ حيث البراق حدا!
ماذا جرى في بلاط الروح ليس لنا فيه من العلم..يا من غاب!..من شهدا؟
وعاد يحمل إرث الله في دمه واللمحة البكر أن نفنى به أبدا!!
ما أمر ربك إلا محض واحدة لذا فراشك حتى الآن ما بردا!)
يا له من أسلوب في السرد ساحر! يواصل الشاعر فيه استعمال العبارات القصيرة كثيرة الحذف.
ولئن أرخى ليلُ امرئ القيس سدوله؛ إن ( الخيال ) عند شاعرنا هو الذي أرخى (سريرته) على ذرى القدس حيث محط السرى ومبتدأ المعراج!
يبدو أنه قصد بالخيال هنا معنى ( الغيب أو الوحي).
( البراق حدا ) المعروف أن الناس هم الذين يحدون ركائبهم لتسير، ولكن البراق هنا
هو الذي حدا، حدا نفسه لأنه مأمور من الله، ويعلم طريقه، ولا يتوانى في السير.
( ماذا جرى في بلاط الروح ) استفهام يوحي بضخامة الأحداث وعظمتها وكثرة غيبياتها. ( بلاط ) كلمة للدلالة على الفخامة، تشبيهًا بالبلاط الملكي الدنيوي.
لكنه ( بلاط الروح، بلاط الله سبحانه ) لا بلاط البشر ملوك الأرض.
( يا من غاب.. من شهدا؟ ) تساؤل يوحي بالشوق إلى معرفة التفاصيل، ويوحي بعظم المشهد وعظم ما فيه ومَن فيه.
( وعاد يحمل إرث الله في دمه ) : ( إرث الله ) تعبير مبتكر، أريد به( الصلاة) على الأرجح، لأنها فرضت في هذه الرحلة العظيمة.
( ... في دمه ) دلالة على حمل الرسول هذه الأمانة بكل قوة وتصديق واهتمام، وكأنها تغلغلت في دمه، وتشبّع بها.
(ما أمر ربك إلا محض واحدة لذا فراشك حتى الآن ما بردا!)
الشطر الأول فيه اقتباس من قول الله تعالى ( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر )
وذلك للدلالة على قدرة الله وإعجازه في رحلة الإسراء والمعراج التي حدثت في ليلة واحدة فـ ( لذا فراشك حتى الآن ما بردا ) الخطاب في ( فراشك ) للنبي الكريم. وعدم
( برود الفراش ) كناية عن قصر وقت الرحلة على الرغم من بعدها المكاني الهائل.
وقوله ( حتى الآن ) هو استحضار للمشهد، وكأن الشاعر يحياه بنفسه، ويراه.
...........
ويتابع الشاعر فيقول:
(أضاعك العُقلا من كل خاطرة وضيعتك قلوبٌ في الذي اعتُقدا)
يواصل خطابه للنبي الكريم؛ مبينا ما لقيه عليه السلام من صدّ وإعراض وسوء اعتقاد عند المشركين.
.........
ثم يقول:
(يا أيها القِدم المنسي داخلنا فتشت عنك وكلي منك قد وجِدا!!))
هنا يعود الشاعر إلى داخل نفسه باحثا عن ذلك التاريخ العظيم مقرًّا أنه نفسه موجود من خلاله.
........
ويتابع:
(نقول كان بسيطا.. ها هنا حُجَرٌ هنا توضأ.. صلى.. ها هنا سجدا!)
هنا عودةٌ إلى الذكرى العطرة: إذ يحكي عن آثار رسول الله، والمواضع التي ارتبطت به وبصلاتها وأعماله الأخرى.
........
ثم يقول:
(وكان بين يديه كم ملائكة تحفه.. وكذا من خلفه رصدا!)
في الشطر الثاني اقتباس قرآني للدلالة على حراسة الملائكة للنبي.
.........
ويتابع:
(الأسودان صحابيان مرتبة عليا وللجوع آيات كما عهدا)
( الأسودان ) هما التمر والماء اللذان كثيرا ما عاش عليهما رسول الله وآل بيته.
( الأسودان صحابيان ) تشبيه بليغ يضم صورة مبتكرة ، فطول عشرة النبي للأسودين جعلهما كأنهما بعض صحابته في المرتبة العليا للصحبة. فهما ( آيات ) وعلامات على كثرة جوع النبي عليه السلام.
.........
ثم يقول:
(كم شدّ تحت رداء النور من حَجرٍ حتى تعلم منه الصبر والجلدا)
إن الحجر الذي كان يشده النبي على بطنه لئلا يحس بالجوع قد تعلّم من النبي الصبر وشدة التحمّل! معنى جميل مبتكر.
.........
ويتابع:
(يا من له كانت الأخلاق معجزة ما عاب قط طعاما لا وما انتقدا)
هذا من أخلاقه وتواضعه عليه السلام، إذ لم يكن يعيب طعاما قط، إذا اشتهاه أكله، وإلا تركه من دون انتقاد.
........
ويتابع:
(لا تبك يا عمر الفاروق إن ترك الــــــــــــحصير في جنبه ختما اذا رقدا)
بيت واحد يروي قصة من قصص تواضع النبي وزهده مقابل تنعم ملوك الدنيا.
(فذاك من لغة في أبجديتها: أن الحرير يساوي ذلك اللبدا)
هذا البيت تعميق للصورة السابقة، يبين أنه لا فرق عند نبينا الكريم الزاهد بين الحصير والحرير، في هذه الدنيا الفانية.
........
ويتابع:
(محمد واستوى الرحمن وهو على عرش عظيم .. فسمى نفسه الصمدا)
( محمد ) كلمة واحدة جملة! يعقبها اقتباس قرآني يمجد الله الصمد الذي بعث محمدا.
(محمد يا مقامات معمدة بالطين .. عبدا رسولا كيف ما عُبدا! )
ذلك إقرارٌ ببشرية النبي وبرسالته، وتعظيمٌ له من خلال التعجب: كيف ما عبدا؟!
أي يعجب كيف رأى الناس عظمة محمد عليه السلام ثم لم يعبدوه؛ على حين عبدوا من قبلُ الأصنام وهي حجارة! وهذا على سبيل المبالغة، مع تَناسب الحال، حال الناس وقتئذ.
.........
ويتابع:
(سواد عينيك، ليل العارفين سروا به.. فغابوا.. أضاعوا الدرب والبلدا
أتوا إلى البئر مشدوهين وارتحلوا وأشعلوا في الغياب القلب والكبدا
كل الطرائق تفضي في حقيقتها له وإن قد تبدّت في للورى قددا)
في تلك الأبيات الثلاثة يخاطب الشاعر رسول الله مادحا، ويبين أنه كان محبوبا جدا
كان سُقيا للظامئين، وإن كل السبل الصحيحة تؤدي إلى الإيمان برسالته.
وفي العنصر الثالث يقول الشاعر:
(وافيت بابك حيث الأرضُ متعبةٌ أقول شعرا كثيرا فيك مجتهدا
فلست كعبا وإن بانت سعاد وإن أبقتني اليوم متبولا بها سهدا)
يصف شعره بالكثرة، ولكنه وإن خاض تجربة كعب بن زهير؛ فهو يشعر أنه لا يرقى إلى مستوى كعب وشعره، وهذا تواضع منه.
(ولا الذي أشرقت شعرا كواكبه درية لم يسعها في الفضاء مدى)
ويرى كذلك أن شعره ليس في جزالة شعر حسان بن ثابت وفخامته.
..........
ويتابع:
(معي القصيدة أتلوها عليك وقد ألفت ذلي والأبواب والوصدا
كل القصائد مهما قيل ناقصة فالعفو إن لامني النقاد والرشدا
والعفو منك رسول الله معذرة إن حمّلوها على غير الذي قصدا)
ما زال يخاطب النبي الكريم، يتذلل إليه ويتقرب، ويرى أن الشعر لا يفي الرسول حقه من المدح.
والشاعر يدرك جيدا أن هناك من سيُحَمّل القصيدة بعض المعاني التي لم يقصدها، فهو يعتذر إلى الرسول عن هذا، وإنما مصدر ذلك هو معرفته الحقيقية بنوعية شعره.
.............
وأخيرا ينهي قصيدته بهذين البيتين:
(لا زلت في الحيرة الأولى بقلب طوى هل جئِتُ مصطليا أم جئِتُ مبتردا؟
في اللاشعور بهاءٌ، في حضور دمي .. لكنني اخترت سهوا أن أغيب سدى!)
يقر الشاعر هنا أنه لم يزل هائما بسيرة النبي حيران، يبترد بحبه، ويصطلي بالشوق إليه.
.............
وهكذا نجد القصيدة:
حالمةً ذاتَ خيال مجنح، كثيرة الرمز، جملها قصيرة، تعتمد على كثرة الحذف والاتكال على فهم المتلقّي، كثيرة الاقتباسات القرآنية، تروي أحداثا كثيرة من السيرة النبوية والمعاني المرتبطة بها؛ ولكنْ بأسلوب خاطف مركز، ووثباتُها الفكريةُ شطحاتٌ ورؤًى لا حدود لها، تتبع عالما سحريا ممتزج المكوّنات، ولا تخضع لصرامة العقل المنضبط.
ومما يميز القصيدة أن ألفاظها بسيطة مألوفة سهلة، وإنما تأتي صعوبتها ورقي فكرها من الإيجاز والحذف والرمز وأسلوب السبك اللغوي.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه أحمد عبد الكريم زنبركجي.