الأغراض الشعرية الجديدة في العصر العباسي
وقد تمثلت في :
1 ـ الشعر التعليمي :
وهو الشعر الذي نظم فيه العلماء مختلف العلوم المعاصرة لهم، وقد غلب على هذا النوع من الشعر العقل والمنطق وخلال من العاطفة واعتمد على إظهار الحقائق ، وقد نظم فيه العلماء علوم الفرائض . علم الواريث – العبادات – السلوك – الأخلاق واليسير والتاريخ والنحو .كما صنع أبان ابن عبد الحميد اللاحقي في نظمه (ككليلة ودمنة ) وابن مالك في (ألفيته) وابن المعتز في أرجوزته (مسيرة الخليفة العباسي المعتضد).
- يقول أبان اللاحقي :
هذا كتاب أدبٍ ومحنةٍ وهو الذي يدعى ككليلة ودمنة
فيه دلالات وفيه رشد وهو كتابُ وضعته الهندُ
- ويقول ابن المعتز واصفاً تسلط الأتراك على أموال الخلافة
كذلك حتى أفقروا الخلافةْ وعوّدوها الرعب والمخافةْ

يقول أبان في مزدوجة الفرائض شارحاً أحكام الصوم والزكاة:
هذا كتاب الصوم وهو جامع ... لكل ما قامت به الشرائع
من ذلك المنزل في القرآن ... فضلاً على من كان ذا بيان
ومنه ما جاء عن النيِّ ... من عهده المتبع المرضيِّ
صلى الإله وعليه سلّما ... كما هدى الله به وعلّما
وبعضه على اختلاف الناس ... من أثر ماضٍ ومن قياس
والجامع الذي إليه صاروا ... رأي أبي يوسف مما اختاروا
قال أبو يوسف: أمّا المفترض ... فرمضان صومه إذا عرض
والصوم في كفارة الأيمان ... من حنث ما يجري على اللسان

ومعه الحج وفي الظهار ... الصوم لا يدفع بالإنكار
وخطأ القتل وحلق المحرم ... لرأسه فيه الصيام فافهم
فرمضان شهره معروف ... وصومه مفترض موصوف
والصوم في الظهار إن لم يقدر ... مظاهر يوماً على محرر
والقتل إن لم يك عمداً قتله ... فإن ذاك في الصيام مثله
شهران في العدة كاملانِ ... متصلان لا مفرّقان
والحنث في رواية مقبولهْ ... ثلاثه أيامها موصوله
ومثلها في عدة الأيام ... لمحرم الحالق في الإحرام
ثلاثة يصومها إن طلقا ... لا بأس إن تابعها أو فرّق1
هذا نموذج من نظمه لكليلة ودمنة
وهذا أنموذج من نظمه لكليلة ودمنة، يقول في المقدمة:
هذا كتاب أدب ومحنه ... وهو الذي يدعى كليل دمنه
فيه دلالات وفيه رشد ... وهو كتاب وضعته الهند
فوصفوا آداب كل عالم ... حكاية عن ألسَن البهائم
فالحكماء يعرفون فضله ... والسخفاء يشتهون هزله
وهو على ذاك يسير الحففا ... لذّ على اللسان عند اللفظ
يا نفس لا تشاركي الجهّالا ... في حب مذموم كّان قد زالا
يا نفس لا تشقي ولا تُعَنيّ ... في طلب الدنيا ولا تمنيِّ
ما لم ينله أحد إلا ندِمْ ... إذا تولىّ ذاك عنه وسدم
دنياك بالأحباب والإخوان ... كثيرة الآلام والأحزان
وهي وإن نيل بها السرور ... آفاتها وغمها كثير
ويقول في باب الأسد والثور:
وإنّ من كان دنيءَ النّفس ... يرضى من الأرفع بالأخس
كمثل الكلب الشقي البائس ... يفرح بالعظم العتيق اليابس
وإن أهل الفضل لا يرضيهم ... شيء إذا ما كان لا يغنيهم
كالأسد الذي يصيد الأرنبا ... ثم يرى العير المجد هربا
فيرسل الأرنب من أظفاره ... ويتبع العير على أدباره
والكلب من رقته ترضيه ...
بلقمةٍ تقذفها في فيه
ويقول في الباب ذاته:
وباذل النّصح لمن لا يشكره ... كطارح في سبغ ما يبذره
لا خير للعاقل في ذي المنظر ... إن هو لم يحمده عند المخبر
وليس في الصديق ذكر الصفاء ... خير إذا لم يك ذا وفاء
الرجل العاقل من لا يسكره ... كأس سمو واقتدار يبطره
فالجبل الثابت في أصوله
... لا تقدر الريح على تحويله
والناقص العقل الذي لا رأي له ... يطغى إذا ما نال أدنى منزله
مثل الحشيش أيّما ريح جرت ... مالت به فأقبلت وأدبرت1
وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقيانه المكافأة الجزيلة من البرامكة، وبإقبال الناس عليه، أقبل غيره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله.
ومن هنا تدافع الشعراء ينظمون الشعر التعليمي في عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه في الصراع العقدي والمذهبي، وفي الحكمة والموعظة، وفي الفلك والنجوم، والسيرة والتاريخ، وفي اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانينه! ...
ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي:
كان بشر بن المعتمر يفيد من هذا اللون الشعري في الصراع المذهبي، وتأييد وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذين أثارهم بشار بن برد بما ذهب إليه من تفضيل النار على الأرض، وإبليس على آدم في أبياته التي يقول فيها:
إبليس أفضل من أبيكم آدم ... فتبينوا يا معشر الأشرار
فتصدوا له يردون عليه مبينين أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فيها (بالقوة) ، وأنّ في الأرض أعاجيب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى .. فلبشر قصيدتان طويلتان رواهما الجاحظ في الحيوان، أولاهما في ذمّ فرق الإباضية والرافضة والحشوية، وذكر فيها أصنافاً من الحيوان، وتحدث عن أعاجيبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال:
الناس دأباً في طلاب الغنى ... وكلهم من شأنه الختر
كأذؤب تنهشها أذؤب ... لها عواء ولها زفر
تراهم فوضى وأيدي سبا ... كل له في نفسه سحر
تبارك الله وسبحانه ... بين يديه النفع والضر
من خلقه في رزقه كلهم ... الذيخ والتيتل والعفر
ويعدد أصناف الحيوان، وكيف تعيش وتقتات، حتى ينتهي من ذلك إلى قوله:
إني وإن كنت ضعيف القوى ... فالله يقضي وله الأجر
لست إباضياً غبيّاًولا ... كرافضي غرّه الجفر
كما يغرّ الآل في سبب ... سَفْراً، فأودى عنده السفْر
كلاهما وسّع في جهل ما ... فعاله عندهما كفر
لسًنا من الحشو الجفاة الألى ... عابوا الذي عابوا ولم يدروا
والقصيدة الثانية تتحدث عن العالم وما فيه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ويعدد الشاعر الحيوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يهتدي به الناس، وألاّ يتخذوا غيره رائداً مرشداً كما يفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقليد:
أما ترى العالم ذا حشوة ... يقصر عنها عدد القطر
أوابد الوحش وأجناسها ... وكل سبع وافر الظفر
وبعد أن يعدد أجناساً من الحيوان، يقول:
فكم ترى في الخلق من آية ... خفية الحسبان في قعر
أبرزها الفكر على فكرة ... يحار فيها واضح الفجر
لله در العقل من رائد ... وصاحب في العسر واليسر
وحاكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر
ثم يعود الشاعر فيعدد الحيوان ويذكر طبائعه، وأنه في طلب رزقه يقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم في هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون في الدين، ومتفاوتون في الرأي والقدر، وقد تحكمت فيه واستولت عادة الاتباع والتقليد:
وكل جنس فله قالب ... وعنصر أعراقه تسري
وتصنع السرفة فيهم على ... مثل صنيع الأرض والبذر
والأضعف الأصغر أحرى بأن ... يحتال الأكبر بالفكر
متى يرى عدوه قاهرا ... أحوجه ذاك إلى المكر
كما ترى الذئب إذا لم يطق ... صاح فجاءت رسلاً تجري
وكل شيء فعلى قدره ... يحجم أو يقدم أو يجري
والخلد كالذئب على خبثه ... والفيل كالأعلم كالوبر
والعبد كالحرّ وإن ساءه ... والأبغث الأعثر كالوبر
لكنهم في الدّين أيدي سبا ... تفاوتوا في الرأي والقدر
قد غمر التقليد أحلامهم ... فناصبوا القياس ذا السَّبر
فافهم كلامي واصطبر ساعة ... فإنما النجح مع الصبر
وانظر إلى الدنيا بعين امرئ ... يكره أن يجري ولا يدري
وحين أنشأ بشار قصيدته المتقدم ذكرها في تفضيل النار وإبليس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاري قصيدته المضادة في تفضيل الأرض وآدم، فقال:
زعمت بانّ النار أكرم عنصراً ... وفي الأرض تحيا بالحجارة الزند
وتخلق في أرحامها وأرومها ... أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد
وفي القعر من لج البحار منافع ... من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد
وفي قلل الأجبال خلف مقطم ... زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد
وفي الحرّة الرجلاء تلقي معادن ... لهن مغارات تبجس بالنقد
من الذهب الإبريز والفضة التي ... تروق وتصبي ذا القناعة والزهد
وكلّ فلزّ من نحاس وآنك ... ومن زئبق حي ونوشادر يسدي
وكلّ يواقيت الأنام وحليها ... من الأرض والأحجار فاخرة المجد
وفيها مقام الحل والركن والصفا ... ومستلم الحجاج من جنة الخلد
كما شارك في الرد على بشار أيضاً سليمان الأعمى_ أخو مسلم بن الوليد قائلاً:
لابدّ للأرض إن طابت وان خبثت ... من أن تحيل إليها كلّ مغروس
وتربة الأرض إن جيدت وإن قحطت ... فحملها أبداً في إثر منغوس
وبطنها بفلزّ الأرض ذو خبر ... لكل جوهرة في الأرض مرموس
وكلّ آنية عمت مرافقها ... وكل منتقد فيها وملبوس
وكل ما عونها كالملح مرفقة ... وكلها مضحك من قول إبليس
في ميدان الموعظة والحكمة:
ومن أبرز الشعراء الذين استخدموا الشعر التعليمي في الموعظة والحكمة أبو العتاهية الذي كانت له عدة قصائد تعليمية أسهم بها في ميدان نقل العلم والمعرفة للآخرين، و " ... أخذت مكانها في تربية الذوق الإسلامي وتهذيب الناشئين 000"... ومن أبرز قصائده هذه أرجوزته المعروفة بذات الأمثال التي يقف فيها موقف المعلم من تلاميذه، أو الحكيم الواعظ الذي يوجه الناس ويريهم سبيل الرشاد من منبره ... وهي أرجوزة مزدوجة ينفرد كل بيت فيها بقافية يشترك فيها شطران، ويذكر أبو الفرج أنها طويلة جداً . وفيها أربعة آلاف مثل 3 ولكنه لم يثبت منها في أغانيه إلاّ ثلاثة وعشرين بيتاً 4 إلاّ أن جمع ديوانه قد أورد منها ما يقرب من الخمسين بيتاً. وأبو العتاهية في ذات الأمثال هذه يأتينا بحكم أخلاقية وأمثال سائرة سجّل فيها خلاصة تجاربه وآرائه في الحياة مصوغة صياغة مضغوطة مركزة في أخصر عبارة بحيث تبدو في صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فيسهل تداولها، ويسرع في الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا يحتسبها من يحتسبها في الشعر التعليمي6، ويضعها من يضعها في أدب الحكمة!.. والقصيدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بيت يعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبيات في عرض فكرة، ولكن يظل كل بيت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة . يقول أبو العتاهية:
حسبك ما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا ... من اتّقى الله رجا وخافا
إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكل ما في الأرض لا يغنيكا
إن القليل بالقليل يكثر ... إن الصفاء بالقذى يكدّر
ومنها:
لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر
وكل شيء لاحق بجوهره ... أصغره متصل بأكبره
مازالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى
الخير والشر بها أزواج ... لذا نتاج، ولذا نتاج
من لك بالمحصن وليس محصن ... يخبث بعض ويطيب بعض
لكل إنسان طبيعتان ... خير وشر وهما ضدان
والخير والشر إذا ماعدّا ... بينهما بؤن بعيد جدا
وهكذا تمضي الأرجوزة التي يتضح فيها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذي رّبما كان السبب فيه أنها لم تنظم في وقت واحد، وإنما نظمت في أوقات متباينة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جديرة بالتسجيل أسرع إلى تسجيلها رجزاً وألحقها بدفتره . ومن شعره هذا مذكراً بالموت وسكراته، لائماً على نسيانه والسهو عنه:
حتى متى تصبو ورأسك أشمط ... أحسبت أن الموت في اسمك يغلط
أو لست تحسبه عليك مسلّطا ... ويلي، وربك إنه لمسّلط
ولقد رأيت الموت يفرس تارة ... جثث الملوك وتارة يتخبط
فتألف الخلان مفتقداً لهم ... ستشط عمن تألفن وتشمط
وكأنني بك بينهم واهي القوى ... نضواً تقلص بينهم وتبسط
وكأنني بك بينهم خفق الحشا ... بالموت في غمراته يتشحظ
وكأنني بك في قميص مدرجاً ... في ريطتين ملفف ومخيط
لا ريطتين كريطتي متنسم ... روح الحياء ولا القميص مخيط
ويمكن النظر في هذه النصوص التي أوردناها من قبل لبشر بن المعتمر، وصفوان الأنصاري، وسليمان الأعمى- باعتبارها نماذج للحكمة والموعظة، بل هي من صميم ذلك دون ريب، كما يمكن اعتبار آداب وأشعار الوعاظ والزهاد من الأدب التعليمي في الصميم!..
في ميدان النحو والفلك:
لمحمد بن إبراهيم الفزاري قصيدة مزدوجة في علم الفلك، يقول عنها ((ياقوت الحموي)) إنها تقوم مقام زيجات المنجمين، وهي طويلة يدخل في تفسيرها -هي وشروحها- عشرة أجلاد، أولها:
الحمد لله العلي الأعظم ... ذي الفضل والمجد الكريم الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم
الخالق السبع العلى طباقا ... والشمس يجلو نورها الأغساقا
والبدر يملا نوره الآفاقا
الفلك الدائر في المسير ... لأعظم الخطب من الأمور
يسير في بحر من البحور
فيه النجوم كلها عوامل ... منها مقيم دهره وزايل
فطالع منها ومنها نازل
وهي هكذا ثلاثة أقفال ثلاثة أقفال1
وفي ميدان النحو استخدم الشعر التعليمي الإلمام به وتحبيب دراسته، يقول إسحاق بن خلف البهراني:
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن2
ويقول الكسائي ((ت 183 أو 189 هجري)) في المعنى نفسه:
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع
فإذا ما أبصر النحو فتى ... مرّ في المنطق مرّا فتّسع
فاتقاه كل من جالسه ... من جليس ناطق أو مستمع
وإذا لم يبصر النحو فتى ... هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه ينصب الرفع وما ... كان من خفض ومن نصب رفع
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... حرّف الإعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرؤه ... فإذا ما شكّ في حرف رجع
ناظرا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع
فهما فيه سواء عندكم ... ليست الألسن فينا كالبدع
كم وضيع رفع النحو وكم ... من شريف قد رأيناه وضع
في ميدان اللهو والمجون:
وإن تعجب فعجب لما بذله شعراء هذا العصر من جهد لاستخدام الشعر التعليمي في موضوعات اللهو والمجون الذي أصاب جانبا من جوانب ذلك المجتمع متأثرا بأمراض الفكر الوافد، والثقافة الدخيلة وأدوائهما ... فراحوا يضعون للهو والمجون أصولا وقواعد تجب مراعاتها، وقوانين ومراسم ينبغي أن تراعى وتلتزم4.
من ذلك أرجوزة الرقاشي المزدوجة التي تحدث عنها ابن المعتز في طبقاته، قائلا عن ناظمها: ".... وهو يزعم كما ترى: أنها تدخر لوقت الموت، مجونا وخلاعة، وأولهما:
أوصى الرقاشي إلى خلاّنه ... وصية المحمود في إخوانه
وهي مشهورة وموجودة" ... ولكن لم يصل منها غير هذا الذي أشار إليه ابن المعتز. كما قام ((حمدان بن أبان اللاحقي)) بوضع أرجوزة طويلة في الحب وحيل المحبين اختار منها أو بكر الصولي ثمانية أبيات ومائة بيت أثبتهما في كتابه ((الأوراق)) بدئت بقوله:
ما بال أهل الأدب ... منّا وأهل الكتب
قد وضعوا الآدابا ... واتبعوا الأصحابا
لكل فن دفتر ... منقط محبر
ففرقت أجناسا ... وعلموها الناسا
بالحيل الرقيقة ... والفطن الدقيقة
فارشدوا الضلالا ... وعلموا الجهالا
سوى المحبين فلم ... يرعوا لهم حق الذمم
في علم ما قد جهلوا ... وما به قد ابتلوا
ويمضي حمدان اللاّحقي إلى أن يقول في آخر منظومته:
قد تم مني الوصف ... ولم يخني الرصف
وانقضت القصيدة ... محبوبة حميدة
والحمد للرحمن ... ذي العزّ والسلطان
والذم للشيطان ... ذي الذم والطغيان
ومن أروع ما جاء في هذا اللون من الشعر التعليمي ما أورده ابن المعتز في أرجوزته الطويلة ((ذم الصبوح)) ... إذ يصور شارب الخمر في أتعس حالاته وأبأس أوضاعه، فيقول في آخر قصيدته:
فمن أدام للشقاء هذا ... من فعله والتذه التذاذا
لم يلف إلا دنس الأثواب ... مهوّسا مهوّس الأصحاب
فازداد سهوا وضنى وسقما ... ولا تراه الدهر إلا فدما
ذا شارب وظفر طويل ... ينغص الزاد على الخليل
ومقلة مبيضة المآقي ... وأذن كحقة الدباق
وجسد عليه جلد من وسخ ... كأنه أشرب نفطا أو لطخ
تخال من تحت إبطه إذا عرق ... لحية قاض قد نجا من الغرق
وريقه كمثل طوق من أدم ... وليس من ترك السؤال يحتشم
في صدره من واكف وقاطر ... كأثر الذرق على الكنادر
هذا، كذا، وما تركت أكثر ... فجربوا ما قلته وفكروا1
في ميدان السير والتاريخ:
لعل أهم عملين كبيرين في هذا المجال مزدوجتان: مزدوجة علي بن الجهم2 ومزدوجة عبد الله بن المعتز في السير والتاريخ..
أما ابن الجهم (188 -249 هجري) فله مزدوجة تسمى ((المحبّرة)) شديدة الطول، تقع في ثلاثمائة وثمانية أبيات، ذكر فيها ابتداء الخلق والأنبياء والخلفاء إلى أيامه -أيام الخليفة المستعين العباسي 248 هجري- وبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على نبيه، ثم أخذ يجيب من يسأله عن بدء الخليقة:
الحمد لله المعيد المبدي ... حمدا كثيرا، وهو أهل الحمد
ثم الصلاة أولا وآخرا ... على النبي باطنا وظاهرا
يا سائلي عن ابتداء الخلق ... مسألة القاصد قصد الحق
أخبرني قوم من الثقات ... أولو علوم وأولو هيئات
تقدموا في طلب الآثار ... وعرفوا حقائق الأخبار
وفهموا التوراة والإنجيلا ... واحكموا التنزيل والتأويلا
أن الذي يفعل ما يشاء ... ومن له العزة والبقاء
أنشأ خلق آدم إنشاء ... وقد منه زوجه حواء
مبتدئا ذلك يوم الجمعة ... حتى إذا أكمل منه صنعة
أسكنه وزوجه الجنانا ... فكان من أمرهما ما كانا
وراح يتحدث عن إغراء إبليس آدم وزوجه، واستجابتهما له، وكيف أهبطا من الجنة إلى الأرض في جبل بالهند يسمى ((واسم)) ... واستمر يتحدث عن أبناء آدم وأحفاده، إلى أن جاء إلى نوح عليه السلام، فقال:
فأرسل الله إليهم نوحا ... عبدا لمن أرسله نصوحا
فعاش ألفا غير خمسين سنة ... يدعو إلى الله وتمضى الأزمنة
يدعوهم سرا ويدعو جهرا ... فلم يزدهم ذلك إلا كفرا
وانهمكوا في الكفر والطغيان ... وأظهروا عبادة الأوثان
وهكذا يمضي الشاعر في أرجوزته يتحدث في استفاضة، ودقة متناهية عن قصة أبي البشر الثاني مع قومه، وما أعقب ذلك من أحداث. وتحدث عن الأنبياء والرسل نبيا نبيا، ورسولا رسولا، وعن الأمم والشعوب من عرب وعجم قبل مطلع النور -الإسلام- فيقول:
فهذه جملة أخبار الأمم ... منقولة من عرب ومن عجم
وكل قوم لهم فكير ... وقلما تحصل الأمور
وعميت في الفترة الأخبار ... إلا التي سارت بها الأشعار
والفرس والروم لهم أيام ... يمنع من تفخيمها الإسلام
وإنما يقنع أهل العقل ... بكتب الله وقول الرسل
جاء الإسلام بنوره الوهاج:
ثم أزال الظلمة الضياء ... وعاودت جدتها الأشياء
ودانت الشعوب والأحياء ... وجاء ما ليس به خفاء
أتاهم المنتخب الأوّاه ... محمد صلى عليه الله
وانساب الشاعر يصور الأحداث حدثا حدثا، والخلفاء خليفة خليفة إلى أيام المستعين الذي عاصره الشاعر، واختتم أرجوزته قائلا:
فنحن في خلافة مباركة ... خلت عن الأضرار والمشاركة
فالحمد لله على إنعامه ... جميع هذا الأمر من أحكامه
ثم الصلاة أولا وآخرا ... على النبي باطنا وظاهرا1
وبذا يكون علي بن الجهم أول شاعر يقوم بعمل متكامل وصل إلينا كاملا في هذا الباب. أما عبد الله بن المعتز ((247 -296 هجري)) فقد نظم في أرجوزته حياة الخليفة العباسي المعتضد ((279 -289 هجري)) وسيرته وما قام به من أعمال كبيرة وعظيمة، فرفع من شأن الخلافة بعد اتضاع، وأخذ على يد الأتراك بقدر المستطاع، وشرح الشاعر فيها الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفسادها، وتحدث عن القضاء على الثائرين والمتمردين!.. وهذه الأرجوزة يحسبها كثير من النقاد والباحثين مظهرا من مظاهر الشعر القصصي ، ويقول الأستاذ أحمد أمين: " ... هي صورة مصغرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامة سدت بعض النقص في الشعر العربي من هذا النوع".
يفتتح الشاعر أرجوزته على الطريقة التي سلكتها المتون في الأزهر القديم:
باسم الإله الملك الرحمن ... ذي العز والقدرة والسلطان
الحمد لله على ألائه ... أحمده والحمد من نعمائه
أبدع خلقا لم يكن فكان ... وأظهر الحجة والبرهانا
وجعل الخاتم للنبوة ... أحمد ذا الشفاعة المرجوة
الصادق المهذب المطهرا ... صلى عليه ربنا فأكثرا
مضى وأبقى لبني العباس ... ميراث ملك ثابت الأساس
برغم كل حاسد يبغيه ... يهدمه كأنه يبنيه
ثم يذكر أنه ألف هذه القصيدة في سيرة أبي العباس المعتضد، ويعرض لحال الخلافة قبله، والفوضى السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة، وأعمال أبيه ((الموفق)) والقضاء على فتنة الثائر العلوي 270 هجري، فيقول:
قام بأمر الملك لما ضاعا ... وكان نهبا في الورى مضاعا
تذللا ليست له مهابة ... يخاف إن طنت به ذبابة
وكل يوم ملك مقتول ... أو خائف مروع ذليل
أو خالع للعقد كيما يغني ... وذاك أدعى للردى وأدنى
وكم أمير كان رأس جيش ... قد نغصوا عليه كل عيش
وكل يوم شغب وغصب ... وأنفس مقتولة وحرب
وكم فتى قد راح نهبا راكبا ... إما جليس ملك أو كاتبا
فوضعوا في رأسه السياطا ... وجعلوا يردونه شطاطا
وكم فتاة خرجت من منزل ... فغصبوها نفسها في المحفل
وفضحوها عند من يعرفها ... وصدقوا العشيق كي يقرفها
وحصل الزوج لضعف حيلته ... على نواحه ونتف لحيته
وكل يوم عسكر فعسكرا ... بالكرخ والدور مواتا أحمرا
كذاك حتى أفقروا الخلافة ... وعودوها الرعب والمخافة
فتلك أطلال لهم قفارا ... ترى الشياطين بها نهارا
ويصور الشاعر الفظائع التي كانت تنصب على أفراد الأمة من مصادرات لأموالهم بعد انتهاك حرماتهم، فيقول:
أجرأ خلق الله ظلما فاحشا ... وأجور الناس عقابا بالوشى
يأخذ من هذا الشقي ضيعته ... وذا يريد ماله وحرمته
وويل من مات أبوه موسرا ... أليس هذا محكما مشهرا؟!
وطال في دار البلاء سجنه ... وقال: من يدري بأنك ابنه؟!
فقال جيراني ومن يعرفني ... فنتفوا سباله حتى فنى
وأسرفوا في لكمه ودفعه ... وخدرت أكفهم في صفعه
ولم يزل في أضيق الحبوس ... حتى رمى إليهم بالكيس
وتاجر ذي جوهر ومال ... كان من الله بحسن حال
قيل له عندك للسلطان ... ودائع غالية الأثمان
فقال: لا والله ما عندي له ... صغيرة من ذا ولا جليلة
وإنما أربحت في التجارة ... ولم أكن في المال ذا خسارة
فدخنوه بدخان التبن ... وأوقدوه بثفال اللبن
حتى إذا مل الحياة وضجر ... وقال ليت المال جمعا في سقر
أعطاهم ما طلبوا فأطلقا ... يستعمل المشي ويمشي العنقا1
ثم يأتي إلى تصوير عناية الخليفة المعتضد بالجيش واختياره جنوده، وقيامه بحركة تطهير واسعة في هذا الجيش ونبذ غير اللائقين منهم بكرامة الجندي:
واختار من جنوده كل بطل ... مجرب إن حضر الموت قتل
ثم نفى كل دخيل قد مرق ... إذا رأى السيف جرى من الفرق
حتى إذا صفى خيار الجند ... قال يا حرب اهزلي وجدي
سار إلى الموصل ينوي أمرا ... فملأ البر معا والبحرا1
وهكذا يسير ابن المعتز في أرجوزته، أو قل ملحمته التي بلغت نحوا من عشرين وأربعمائة بيت في تاريخ الخليفة المعتضد . ومن هنا: نرى أن الشعر التعليمي قد وجد عند العرب منذ جاهليتهم بكل أقسامه التي عرفت عند اليونان، وقد رأينا لذلك أمثلة عند شعراء جاهليين، كما وجدناه عند الشعراء الأمويين في أخص أقسامه، في أبياته في صناعة الكيمياء.. ووجدناه في الأرجوزة الأموية التي اتخذت وسيلة لتعليم غريب اللغة، مما ألهم المقامة فيما بعد، ودفع بالشعراء في العصر العباسي إلى التوسع في الشعر التعليمي، حتى إذا ولج أبان اللاحقي هذا الميدان، فتح الباب واسعا، فتهافت عليه من تهافت من الشعراء أو النظاميين!.. وبهذا يتضح أن الشعر التعليمي العباسي لم يكن في جملته وتفصيله تقليدا لمثيله عند الأمم الأخرى كالهنود واليونان.. تلك الأمم التي عرفت هذا اللون من الشعر!.. ولكن هل يعني هذا الكلام أننا ننكر أن للثقافة الدخيلة والفكر الوافد أثرا في الشعر التعليمي خلال هذا العصر؟!. كلا!.. نحن لا ننكر هذا التأثير، ولكنا نريد أن نقول: إن التأثير الوافد لم يكن في إنشاء هذا اللون من الشعر في الأدب العربي وإيجاده -فلقد كان ذلك موجودا في العربية منذ زمن طويل كما رأينا- ولكن التأثير كان في تشكيله وإعطائه ملامح نهائية، وسمات بينة، متعاونا مع عوامل أخرى ... إن تأثير الفكر الوافد في الشعر التعليمي لا يعدو أن يكون هو التأثير ذاته أثره في الخمريات وشعر اللهو والمجون، والزهد ... الخ في هذا العصر، وكل أولئك كان موجودا في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يعز أحد ابتكارها وابتداعها للعصر العباسي، مع ذلك فلا ينكر أحد أنها في هذا الوقت قد زيدت مساحتها ومدت الرقعة التي تشغلها، وأنه أضيف إلى الصورة أشياء وألوان، حتى لقد ينخدع كثيرون بأن كل ما هناك جديد مبتكر.. والشعر التعليمي لم يكن بدعا في ذلك؛ فهو قد تأثر بالعصر وظروفه وملابساته، وبما كان يموج فيه من فكر وثقافة ومعرفة متعددة المصادر والينابيع.. ولقد بانت في هذا العصر ملامح وحدود كثير من العلوم، واتضحت معالم كثير من المعارف، فأخذ الشعراء منذئذ يتناولون هذه
2- الشعر الفلسفي:
وقد بدأ الشعراء العباسيون التأثر بأفكار الفلسفية من خلال الترجمات البيزنطية للفكر، ومن خلال صراع الأفكار والمذاهب الدينية التي تبنَّت بعض الأفكار الفلسفية ، كما هو عند المعتزلة ،ومن خلال اطلاع أبي تمام على فلسفات البيزنطيين، ومزاوجتة بين الشعر، والفلسفة ، وإدخاله قضية الديالكتيك "الجدلية" في شعره ، كذلك ما بثّه المتنبي من حكم يونانية في شعره ، وما صنعَه المعري في تأملاته في الكون والقدر ، والنجوم، والحديث عن العقل والروح ،والبعث والنشور ، وما صنعه ابن سينا في حديثه عن النفس واتصالها بالبعث . قال أبو النواس في وصف الخمرة مستعملاً كلمات فلسفية :
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها لطافة وجفا عن شكلها الماء
ويقول أبو تمام :
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا فأنت لا شك فيك السهل والجيل
ويقول المتنبي :
لأتركن وجوه الخيل ساحمةً والحرب أقوم من ساق على قدم
بكل منصلت مازال منتظري حتى أدلت له من دولة الخـدم
شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ويستهل دم الحجاج في الحرم
ويقول المعري :
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادِ
ويقول ابن سينا في وصف النفس :
هبطت إليك من المحلِّ الأرفع ورقاءَ ذاتُ تعزز وتمنّع
وصلت على كرهٍ إليك وربّما كرهت فراقك وهي ذات توجّع

3ً- شعر اللهو والمجون:
نظراً لكثرة تدفق الأموال وانتشار اللهو والمجون فقد أكب قسمٌ من الشعراء على وصف أماكن الخمرة ومجالسها كمنطقة الكرخ في بغداد، ومنطقة قطر بّل ، ومن الشعراء الذين وصفوا الخمرة وأكثروا من الخمر والمجون في شعرهم : أبو نواس ومطيع بن إياس بن عجرد، والشاعر بشار بن برد ، ومسلم بن الوليد وغيرهم ....
ويقول بشار بعد أن أصدر الخليفة أمراً بمنعه من وصف الخمر والغزل المخجل :
نهاني الخليفة عن ذكرها وكنت بما سرَّه أكدحُ
فأعرضتُ عن حاجتي عندها وللموتُ من تركها أروحُ
ويقول أبو نواس بعد أن سجنه الأمين لشربه الخمر :
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمرُ ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهرُ
ويقول أبو نواس
تفتير عينيكَ دليلٌ على أنك تشكو سهر البارحة
عليكَ وجهٌ سيئ حاله من ليلةٍ بتَّ بها صالحه
4ً- شعر الزهد:
وقد جاء هذا العرض رداً على اللهو والمجون ووصف الخمرة وفي الوقت الذي كانت فيه حانات بغداد مملوءة بأصحاب الخمرة ، كانت مساجد بغداد مملوءة بالعباد والنساك والعابدين، وقد عرف العباسيون لونين من الزهد .
أً- زهد إسلامي في مستقى من القرآن الكريم والسنة الشريفة معتمدة على قوله تعالى ((وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك)) . وكذلك من قوله عليه السلام : ((من بات آمناً في سريه، معافاً في بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما ملك الدنيا كذا فيرها)).
ب - زهدٌ مانوي نسبة إلى زعيم فارسي اسمه ((ماني)).
وهذا الزهد مرتبط بالديانة الزردتشية والبوذية والنصرانية وقد كان من زعماء هذا اللون : صالح بن عبد القدوس، أما الديانة الزردتشية فتؤمن بعقيدتي النور والظلمة ، وإباحة زواج الأباء من بناتهم وأخواتهم، أما البوذية فتؤمن بقضية تناسخ الأرواح ، وتحريم ذبح الحيوان والطيور وأما النصرانية فتؤمن بالنسك والزهد، وليست الرهبانية إلا جزءا من ذلك . ومن أمثلة الزهد الإسلامي قول أبو العتاهية:
لدو للموت وابنوا للخراب فلكم يصيرُ إلى ذهابٍ
ويقول أبو نواس :
.........في أملي وقد قصّرت في عملي
فأيامي تقربني وتدنيني إلى أجلي
ويقول المعري:
أغنى الأنام تقيُّ في ذرا جبلٍ يرضى القليل ويأبى لوشي والتاجا
وأفقر الناس في دنياهم ملكٌ يضحى إلى اللجب الجرار محتاجا
وقد علمت المنايا غير تاركة ليثاً بخفان أو طبياً بفرتاجا
ويقول عبد الله بن المبارك الذي جمع بين الزهد والجهاد في رسالةٍ إلى الفضيل بن عياض الناسك الذي كان مجاوراً مكة:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنّك في العبادة تلعب
من كان يخضبُ جيده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضبُ
ويقول ابن المبارك يخاطب أحد أصحابه وهو اسماعيل بن عليَّه وكان قدولي الصدقات بالبصرة:
يا جاعل الدين له بازياً يصطاد أموال المساكين
احتلت للدنيا ولذّاتها بحيلةٍ تذهبُ بالدين
ويقول ابن الرومي في أجمل صورة للزهد والورع:
بات يدعو الواحد الصمدا في ظلام الليل منفرداً
كلما مر الوعيد به سح دمع العين فاطّردا
قائلاً يا منتهى أملي نجني مما أخاف غدا
ومن عجب إن الذين أقبلوا على الزهد وسعوا إليه وقالوا فيه شعرهم هم أنفسهم الذين أسرفوا على أنفسهم وعلى مجتمعهم إثما ومعصية وانحرافا ، أو على وجه أدق هم بعض أولئك الذين انغمسوا في طلب اللذة المحرمة حتى جرفهم تيارها وغمرهم عبابها ، إن منهم أبا نواس ، ومسلم بن الوليد ، وصالح بن عبد القدوس ، وأبا العتاهية ، كما كان هناك أيضا محمود بن الحسن الوراق الذي لم يكن من فريق العصاة ، ولذلك فإن شعره في الزهد والحكمة أنقي منهم روحا وأصفى محتوى وأقرب إلى النفس تقبلا وأسرع إلى الخاطر تلقيا أما أبو نواس فلم يقل ما قال من شعر الزهد إلا بعد إن قعدت به الصحة عن أن يستمر فيما ظل يخوض فيه من وحل وما يرتكبه من إثم ورجس طوال حياته ، ومن ثم فإن مرارة الندم قد ألحت عليه فعدل إلى جانب النسك ، ويؤوب أخيرا من رحلة العصيان الطويلة إلى رحاب الله فيؤدي فريضة الحج ويكبر مع المكبرين ويلي مع الملبين وهو يطوف بالبيت العتيق : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك البيك ، أن الحمد والنعمة لك والملك ، لاشريك لك . وتنساب إلى قلب الشاعر ومضات الإيمان لتصب في وجدانه فيتذوق روحانيتها فيقول :
إلهنا مـا أعدلك مليك كـل من ملـك
لبيك قد لبيت لك
لبيـك إن الحمد لـك والملك ، لا شريـك لـك
مـا خاب عبد سالـك أنت لـه حيث سلـك
لولاك يارب هلـك
لبيك إن الحمد لـك والملك لا شريك لـك
كل نـبي وملـك وكل من أهل لك
وكل عبد سألك سبح أو لبى فلك
لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك
والليل لما إن حلك والسابحات في الفلك
لبيك إن الحمد لك والملك،لا شريك لك
اعمل وبادر أجلك واختم بخير علمك
لبيك إن الحمد لك والملك..لا شريك لك
ويفتكر أبو نواس في مصير كل حي ولكن بعد أن انقضت شهرتهفيرعوي ويستجيب إلى نداء عقله
أيها الغافل المقيم على السهو ولا عذر في المقام لساه
لا بأعمالنا نطيق خلاصا يوم تبدو السماء فوق الجباه
غير أني على الإساءة والتف ـريط راج لحسن عفو الله
ويلجأ أو نواس إلى المحسن الرحيم بكل رجائه وبتوسل المعترف بخطئه وضراعة النادم غير اليائس من رحمة الله معبرا عن صدق إسلامه قائلا آخر شعر صدر عنه :
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بان عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير الجرم
ادعوك رب كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم
مالي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم
ومن شعراء الزهد صالح بن عبد القدوس الذي يقول في الدعوة إلى الإيمان والاستقامة:
فوحق من سمك السماء بقدرة والأرض صير للعباد مهادا
إن المصر على الذنوب لهالك صدقت قولي أو أردت عنادا
و أشهر شعراء الزهد في تلك الفترة العباسية أبو العتاهية فهو يدعو إلى ترك الدنيا وتحقيرها حينا ويدعو إلى التقى وصالح الأعمال حينا آخر ويذكر الموت وملاحقته للخلق ويلح في ذلك إلى الحد الذي يصد الناس فيه عن ترك أية متعة ولو كانت حلالا ويقف على القبور ويناجيها حينا ويسائل ساكنيها آونة أخرى ويقرن بين الدنيا والآخرة أو بالأخرى بين الحياة والموت ثم النشور والحساب والثواب والعقاب ويرجو الثواب ويخشى العقاب
تصبر عن الدنيا ودع كل تائه مطيع هوى يهوي به في المهامه
دع الناس والدنيا فبين مكالب عليها بأنياب وبين مشافه
ومن لم يحاسب نفسه في أموره يقع في عظيم مشكل متشابه
وما فاز أهل الفضل إلا بصبرهم عن الشهوات واحتمال المكاره
ويقول أبو العتاهية في قصيدته التي نالت شهرة عريضة وتكررت ترديدا على ألسنة معاصريه وفي مقدمتهم الخليفة المأمون
فمالي لست مشغولا بنفسي وما لي لا أخاف الموت ما لي
لقد أيقنت أني غير باق ولكني أراني لا أبالي
أما لي عبرة في ذكر قوم تفانوا ربما خطروا ببالي
كأن ممرضي قد قام يمشي بنعشي بين أربعة عجال
وخلفي نسوة يبكين شجوا كأن قلوبهن على مقال
سأقنع ما بقيت بقوت يوم ولا ابغي مكائرة بمال
هب الدنيا تساق إليك عفوا أليس مصير ذاك إلى زوال
خبرت الناس قرنا بعد قرن فلم أر غير ختال وفال
وذقت مرارة الأشياء طرا فما طعم أمر من السؤال
ولم أر في الأمور اشد وقعا وأصعب من معاداة الرجل
ولم ارفي عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على الكمال
يقول أبو العتاهية في آخر أبيات قالها قبل موته :
الهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كلن مني
وما لي حيله إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني
يظن الناس بي خيرا واني لشر الناس إن لم تعف عني
5ً- شعر التصوف:
شهد العباسيون نوعاً من الزهد أفضل من التصوف القائم على إرضاء الخالق وذم التعلق بالدنيا: (( الأموال – الأبناء – النساء)) ولكن هذا التصوف خرج في معظمه عن تعاليم الإسلام بفعل الترجمات اليونانية والهندية واعتمد هذا التصوف على مجموعة من ركائز
أولها: فكرة المحبة الإلهية ،
وثانيها فكرة انكار الذات
وثالثها الاعتماد على القلب والكشف ونظرية التوحد ((وحدة الوجود ، ووحدة الخالق والمخلوق)).
يقول الحلاح :
مزجت روحك في روحي كما تمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسَّك شيءٌ مسني فإذا أنت أنا في كل حالِ
وهذا كلام خطير يخرج عن حدود الشرع الإسلامي
ويقول عبد الكريم القشيري متمثلاً :
يا من تقاصر شكري عن أياديه وكلَّ كلُّ لسانٍ عن معاليه
لا دهر يخلقُه لا قهر يلحقُه لا كشفَ يظهره لا ستر يخفيه
ويقول السهروردي من عشقه الالهي :
أبداً يحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والسرّاح
وا رحمت للعاشقين تكلّفوا ستر المحبة والهوى فضّاحُ
6ً- شعر تحليل الصفات الخلقية :
رسم الشعراء العباسيون الصفات العظيمة عند ممدوحيهم كما رسموا الصفات الذميمة عند مهجويهم ، ولم يقتصروا في معانيهم الشعرية على الكرم والحلم والحياء والعفة وإنما تجاوزوا ذلك إلى واجبات الأخوة والصداقة واختيار الأصدقاء والصبر على أخطائهم ، وقد صوّر ذلك ابن المعتز قائلاً :
يا من يناجي ضغنه في نفسه ويدبُّ تحتي بالأفاعي اللدغ
وبيت تنهض زفرةً في صدره حسداً وإن دميت جراحي يولغِ
ويصف ابن الرومي الصبر والجزع محللاً عمق هاتين الصفتين :
وقد يظن الناس أن أساهم وصبرهم فيهم طباعٌ مركَّب
وليسا كما ظنوهما بل كلاهما لكل لبيب مستطاع مسبّب
7ً- شعر الشكوى من الزمان ونوازله:
وقد كثر ذلك في العصر العباسي بسبب المفارقات السياسية والاجتماعية والثقافية وبرز نوعان من الشكوى .
أ- نوع فردي بثّ فيه الشعراء همومهم الشخصية .
ب- نوعٌ عام جاء بسبب فساد الأحوال السياسية وتولي المناصب من قبل غير الأكفاء . يقول ابن المعتز في الشكوى العامة:
لم يبق في العيش غيرُ البؤس والنكد فاهرب إلى الموت من همِّ ومن نكد
ملأت يا دهرُ عيني من مكارهها يا دهرُ حسبك قد أسرفت فافتصد
ويقول المتنبي في الشكوى الفردية :
عيد يأية حالٌ عدت يا عيد بما مضى أم لأمرٍ فيه تجديد
أصخرة أنا مالي لا تحركني هذى المدام ولا هذي الأغاريد
ويقول الطغراني في لا ميته العجمية شاكياً من الدهر والزمن :
والدهر يعكس آمالي ويقنعني من الغنيمة بعد الكدِّ بالقفل
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً والخظ عني بالجهال في شغلٍ
8ً- شعر النوادر والفكاهات:
وهو غرض استجد في العصر العباسي كرد فعلٍ على صعوبة العيش وانقسام الناس إلى مذاهب يحاول بعضها هدم البعض الآخر ، وقد برز من شعراء هذا الغرض أبو دلامة وقد تندر الشعراء على البخلاء والأكلة والجشعين ، وأصحاب اللحى الطويلة ، ولا بن الرومي باع طويل في وصف العيوب الخلقية والخلقية كوصف الأعمى والأحدب والأصلع ، وطويل الأنف وغيرهم...
يقول بشار بن برد واصفاً قصة جبٍّ عذري أجراها على لسان حمارٍ له مات عشقاً وقد رآه بشار في اليوم فقص عليه قصته:
سيدي ملْ بعناني نحو باب الأصبهاني
إن بالباب أتانا فضلت كلَّ أتان
تيمتني يوم رحنا بثناياها الحسان
ولها خدٌّ أسيلٌ مثل خدِّ الشيفران
9ً- شعر التهكم والعبث :
وقد اعتمد فيه أصحابه على فحش القول وهجر الكلام وقد ساهم في إبرازه شعراء من أمثال: ((ابن سكرة – ابن حجاج – صريع الدلاء الذي عارض مقصورة ابن دريد)).
يقول صريع الدلاء يعارض مقصورة ابن دريد:
من لم يرد أن تنتقب نعاله يحملهُ في لفِّه إذا مشى
ومن أراد أن يصون رجلهُ فلبسه خيرُ له من الحفا
ومن طبخ الديك ولا يذبحه طار من القدر إلى حيث يشاء
10ً- شعر التهاني والهدايا:


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)