المناظرات في العصر العباسي
وهي المحاججات التي وقعت بين أصحاب الكلام والعلم والفلسفة والدين ، ولقد أسهمت هذه المناظرات التي كانت تعقد بين العلماء والمحدثين والفقهاء والفلاسفة في إغناء وتطور الثقافة الإسلامية تطوراً كبيراً من حيث الطريقة والأسلوب ومن حيث المعنى والفهم. وتعد فرقة المعتزلة من الفرق التي أسهمت في تنشيط هذه الحركة الثقافية وعلى رأس هؤلاء المعتزلة "واصل بن عطاء – عمرو بن عبيد". ونهض النثر العباسي من خلالهما نهضة رائعة حتى إنّ المتكلم كما يقول الجاحظ لا يعد جامعاً لأقطاب الكلام إن لم يحسن كلام الدين والفلسفة والعلوم الأخرى.وقد عقدت هذه المناظرات في العصر العباسي رداً على الملحدين والزنادقة من جهة ، وتفنيداً لدور العقل في الدين وإرساء لمبدأ أحقية الخلافة ، وكانت هناك نظريات كلامية في الروح والنفس والحواس والجسم والخير والشر والاستطاعة ، والقدر ثم انتقلت هذه المناظرات من الجانب الديني إلى الجانب النحوي كما حدث بين الكسائي الكوفي وبين البصري . وقد شجع الخلفاء أصحاب العلم في المناظرات فكانوا يعقدون لهم المجالس ، كما صنع البرامكة وعلى رأسهم يحيى بن خالد البرمكي ، وكما صنع المأمون ، وكما حصل في عصر المعتصم من جدال حول مسألة خلق القرآن . وقد تحدث المسعودي عن هذه المناظرات وذكر من أصحابها: أبا هذيل العلاف – أبا اسحق ابراهيم بن سيّار النظام. وكانت الخلافة تجري عليهم الرواتب الشهرية ، وكانت معظم المناظرات تدور بين المعتزلة ومن يعتنقون التشيع الغالي وأرباب الملك السماوية ، والنحل غير السماوية من الدهرية والمانوية. يقول أبو هذيل العلاف في مناظرته لأحد اليهود:"أسألك أم تسألني ؟ فقال له اليهودي : بل أسألك فقال اليهودي : أتعترف بأن موسى نبيٌ صادق أم تنكر ذلك ، فقال له أبو هذيل : إن كان موسى الذي تسألني عنه هو الذي بشر بنبيي عليه السلام ، وشهد بنبوته وصدقه فهو نبي صادق ، وإن كان غير من وصفت فذلك شيطان لا أعترف بنبوته". وقد عقد أهل المناظرات مناظرة بين الكلب والديك فذكروا مساوئ الديك ومحاسنه ، ومحاسن (منافع) الكلب ومساوئه.

ب-نماذج من المناظرات:
أولاً-المناظرات الشعرية :
1-مناظرة أبو تراب والشريف العباسي
اجتمع يوما أبو تراب هبة الله بن السريجي والشريف العباسي وكانا شاعرين – فقال أبو تراب :
أسلوت حب بدور أم تتجلد وسهرت ليلك أم جفونك ترقد
فأجاب الشريف بديها ً :
لا بل هم ألفوا القطيعة مثل ما ألفوا نزولهم بها فتبعدوا
فقال أبو تراب :
فإلإم تصبر والفؤاد متيم ولظى اشتياقك في الحشى يتوقد
فأجاب الشريف :
ما دام لي جلد فلست بجازع إذ كان صبري في العواقب يخمد
فقال أبو تراب :
أحسنت : كتمان الهوى مستحسن لو كان ماء العين مما يجمد
فأجاب الشريف :
إن كان جفني فاضحي بدموعه أظهرت للجلساء إني أرمد
فقال أبو تراب :
فهب للدموع إذا جرت موهتها فيقال لم أنفاسه تتصعد
فأجاب الشريف :
امشي وأسرع كي يظنوا أنها من ذلك المشي السريع تولد
فقال أبو تراب :
هذا يجوز ومثله مستعمل لكن وجهك بالمحبة يشهد
فأجاب الشريف :
إن كان وجهي شاهدا بهوى فما يدري إلى من بالمحبة اقصد

فقال أبو تراب :
اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى انف يشال ويقعد
فأجاب الشريف :
ذا لا يكون مع الحبيب وإنما مع ساقط متحيل يتعمد
ثانياً-المناظرات النثرية
ا-مناظرة المنصور والربيع بن يونس
قال سعيد بن مسلم بن قتيبة دعا المنصور بالربيع فقال : سلني ما تريد ؟ فقد سكت حتى نطقت وخففت حتى ثقلت , واقللت حتى أكثرت , فقال : والله يا أمير المؤمنين , ما أرهب بخلك , ولا أستقصر عمرك ولا أستصغر فضلك ولا أغتنم مالك وإن يومي بفضلك على أحسن من أمسى , وغدك في تأميلي أحسن من يومي ولو جاز أن يشكرك مثلي بغير الخدمة والمناصحة لما سبقني في ذلك أحد .
قال صدقت . علمي بهذا منك أحلك هذا المحل , فسلني ما شئت ؟ ؟
قال : أسالك أن تقرب عبد ( الفضل ) وتؤثره وتحبه .
قال : يا ربيع أن الحب ليس بمال يوهب ولا رتبة تبذل , وإنما تؤكده الأسباب .
قال : فاجعل لي طريقا إليه بالتفضل عليه .
قال : صدقت . وقد وصلته بألف ألف درهم ولم أصل بها أحداً غير عمومتي لتعلم ما له عندي , فيكون منه ما يستدعي به محبتي . وكيف سألت له المحبة يا ربيع ؟
قال : لأنها مفتاح كل خير , ومغلاق كل شر , تستتر عندك عيوبه وتصير حسناتك ذنوبه .
قال : صدقت وأتيت بما أردت .
2-مناظرة معن بن زائدة والأسود
روى مروان بن أبي حفصة عن معن بن زائدة أنه قال : لما جد المنصور في طلبي وجعل لمن يحملني إليه مالا ً , اضطررت لشدة الطلب أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخفقت عارضي ولبست جبة صوف , وركبت جملا وخرجت متوجها إلى البادية لأقيم بها , فلما خرجت من باب حرب وهو أحد أبواب بغداد , تبعني أسود متقلد سيفا ً , حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناحه وقبض على يدي فقلت له : ما بك ؟ فقال : أنت طلبة أمير المؤمنين , فقلت : ومن أنا حتى أطلب ؟ فقال : أنت معن بن زائدة , فقلت له يا هذا , اتق الله عز وجل وأين أنا من معن ؟ فقال : دع هذا فإني والله لأعرف بك منك , فلما رأيت منه الجد قلت له : هذا عقد جوهر قد حملته بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سببا ً لسفك دمي , قال : هاته فأخرجته إليه , فنظر إليه ساعة وقال : صدقت في قيمته , ولست قابله منك حتى أسالك عن شيء فإن صدقني أطلقتك , فقلت قل , قال : إن الناس قد وصفوك بالجود , فاخبرني هل وهبت مالك كله قط ؟ قلت : لا , قال : فنصفه ؟ فقلت : لا ، قال : فثلثه ؟ قلت : لا , حتى بلغ العشر فاستحييت وقلت : أظن إني قد فعلت هذا , قال : ما ذاك بعظيم , أنا والله راجل ورزقي من أبي جعفر المنصور كله عشرون درهما وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير , وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس , ولتعلم أن في هذه الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة , فقلت : يا هذا قد والله فضحتني ولسفك دمي علي أهون مما فعلت , فخذ ما دفعته لك فاني غني عنه , فضحك وقال : أردت أن تكذبني في مقالي هذا , والله لا أخذته ولا اخذ لمعروف ثمنا ً أبدا , ومضى لسبيله فو الله لقد طلبته بعد أن أمنت , وبذلت لمن يجيء به ما يشاء , فما عرفت له خبرا ً وكأن الأرض ابتلعته .
3--مناظرة المأمون والمرأة المتظلمة
جلس المأمون يوما للمظالم فكان آخر من يقدم إليه- وقد هم بالقيام -امرأة عليها هيئة السفر , وعليها ثياب رثة فوقفت بين يديه فقالت : ( السلام عليكم يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ) , فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فقال لها يحيى : وعليك السلام يا امة الله , تكلمي في حاجتك , فقالت :
يا خير منتصف يهدي له الرشد ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عماد القوم أرملة عدا عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي بعد منعتها ظلما ً وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حينا ً ثم رفع رأسه إليها وهو يقول :
في دون ما قلت زال الصبر والجلد عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أوان صلاة العصر فانصرفي ولحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يقض الجلوس لنا ننصفك منه وإلا المجلس الأحد
وفي الموعد المقرر حضرت المرأة : ( السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ) فقال : وعليك السلام أين الخصم ؟ فقالت : الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين , وأومأت إلى العباس ابنه فقال : يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم , فجعل كلامها يعلو كلام العباس . فقال لها أحمد بن أبي خالد : يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير ، فاخفضي من صوتك , فقال المأمون : دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها وأخرسه . ثم قضى لها برد ضيعتها إليها , وأمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يوفر لها ضيعتها , ويحسن معونتها وأمر لها بنفقة .
4-مناظرة إبراهيم بن المهدي – وابن بختيشوع
قال العتبي : تنازع إبراهيم بن المهدي وابن بختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داوود في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد , فأربى عليه إبراهيم السلام وأغلظ له , فأغضب ذلك ابن أبي داوود فقال :
يا إبراهيم إذا نازعت في مجلس الحكم امرءاً، فلا أعلمن أنك رفعت عليه صوتا ولا أشرت بيد وليكن قصدك أمما وريحك ساكنة وكلامك معتدلا ووف مجالس الخليفة حقوقها من التعظيم والتوقير واستكانة والتوجه إلى الواجب , فإن ذلك أشبه بك , وأشكل بمذهبك في محتدك , وعظيم خطرك ولا تعجلن فرب عجلة تهب ريثا ً , والله يعصمك من خطل القول والعمل ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل إن ربك حكيم عليم .
فقال إبراهيم : أصلحك الله أمرت بسداد وحضضت على رشاد , ولست عائدا إلي الاعتذار , فهاأنذا معتذر إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه معترف بجرمه , ولا يزال الغضب يستفزني ببوادره فيردني مثلك بحلمه وتلك عادة الله عندك وعندنا منك , وقد جعلت حقي في هذا العقار لابن بختيشوع فليت ذلك يكون وافيا ً بأرش الجناية عليه (( ولم يتلف مال ٌ أفاد موعظة )) وحسبنا الله ونعم الوكيل .
ثالثاً-المناظرة السياسية
-مناظرات المهدي ومشاورته لأهل بيته في حرب خراسان
هذا ما تراجع فيه المهدي ووزراؤه وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان , أيام تحاملت عليهم العمال وأعنفت , فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة على أن نكثوا ببيعتهم ونقضوا موثقهم وطردوا العمال , والتووا بما عليهم من الخرج , وحمل المهدي ما يحب من مصلحتهم ويكره من عنتهم , على أن أقال عثرتهم واغتفر زلتهم واحتمل دالتهم تطولا بالفضل واتساعا بالعفو وأخذا بالحجة ورفقا ً بالسياسة , ولذلك لم يزل مذ حمله الله أعباء الخلافة وقلده أمور الرعية رفيقا ً بمدار سلطانه , بصيرا ً بأهل زمانه , باسطا للمعدلة في رعيته تسكن إلى كنفه وتأنس بعفوه وتثق بحلمه , فإذا وقعت الأقضية اللازمة والحقوق الواجبة فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة , أثره للحق وقياما بالعدل وأخذا بالحزم , فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه والثقة بعفوه , أن كسروا الخراج وطردوا العمال وسألوا ما ليس لهم من حق , ثم خلطوا احتجاجا باعتذار , وخصومة بإقرار وتنصلا ً باعتلال , فلما انتهى إلى المهدي خرج إلى مجلس خلائه , وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه فأعلمهم الحال واستفهم للرعية , ثم أمر الموالي بالابتداء وقال للعباس بن محمد : ( أي عم ) تعقب قولنا وكن حكما بيننا وأرسل إلى ولديه ( موسى وهارون ) فأحضرهما الأمر وشاركهما في الرأي , وأمر محمداً بن الليث بحفظ مراجعتهم وإثبات مقالتهم في كتاب . فقال سلام صاحب المظالم : أيها المهدي , إن في كل أمر غاية , ولكل قوم صناعة , استفرغت رأيهم , واستغرقت أشغالهم واستنفدت أعمارهم وذهبوا بها وذهبت بهم وعرفوا بها وعرفت بهم ولهذه الأمور التي جعلتنا فيها غاية , وطلبت معونتنا عليها أقوام من أبناء الحرب , وساسة الأمور وقادة الجنود وفرسان الهزاهز وإخوان التجارب وأبطال الوقائع الذين رشحتهم سجالها وفياتهم ظلالها وعضتهم شدائدها وفرمتهم نواجذها , فلو عجمت ما قبلهم وكشفت ما عندهم لوجدت نظائر تؤيد أمرك وتجارب توافق نظرك وأحاديث تقوي قلبك , فأما نحن -معاشر عمالك وأصحاب دواوينك -فحسن بنا , وكثير منا أن نقوم بثقل ما حملتنا من عملك واستودعتنا من أمانتك وشغلتنا من إمضاء عدلك وإنفاذ حكمك وإظهار حقك .
فأجابه المهدي : إن في كل قوم حكمة , ولكل زمان سياسة , وفي كل حال تدبير يبطل الآخر الأول , ونحن على علم بزماننا وتدبير سلطاتنا .
قال : نعم أيها المهدي أنت متبع الرأي , وثيق العقدة قوي المنة , بليغ الفطنة معصوم النية , محضور الرؤية , مؤيد البهية موفق العزيمة معان بالظفر , مهدى إلى الخير , إن هممت ففي عزمك مواقع الظن , وإن اجتمعت صدع فعلك ملتبس الشك فأعزم يهد الله إلى الصواب قلبك , وقل ينطق الله بالحق لسانك , فإن جنودك جمة وخزائنك عامرة ونفسك سخية , وأمرك نافذ .
فأجابه المهدي : إن المشاورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يهلك عليهما رأي ولا يتغيل منهما حزم فأشيروا برياكم وقولوا يما يحضركم , فإني من ورائكم وتوفيق الله من وراء ذلك .
قال الربيع : أيها المهدي أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة , وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة ولكن خراسان أرض ٌ بعيدة المسافة متراخية الشقة متفاوتة السبيل , فإذا ارتأيت من محكم التدبير ومبرم التقدير ولباب الصواب رأيا , قد أحكمه نظرك , وقلبه تدبيرك , فليس وراء مذهب طاعن ولا دونه معلق لخصومة عائب ثم خبت البرد به , وانطوت الرسل عليه بالحرى أن لا يصل محكمه , إلا وقد حدث منهم ما ينقضه . فما أيسر أن ترجع إليك الرسل وترد عليك الكتب بحقائق أخبارهم وشوارد أثارهم ومصادر أمورهم فتحدث رأيا غيره وتبتدع تدبيرا سواه , وقد انفرجت الحلق , وتحلت العقد واسترخى العقاب وامتد الزمان ثم لعلمك موقع الآخرة كمصدر الأولى ولكن الرأي أيها المهدي , وفقك الله أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفكر فيما جمعتنا له واستشرتنا فيه من التدبير لحربهم والحيل في أمرهم إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل وعقل كامل وورع واسع ليس موصوفا يهوى في سواك , ولا متهما ً في أثرة عليك , ولا ظنينا ً على دخلة مكروهة ولا منسوبا ً إلى بدعة محذورة , فيقدح في ملكك ويريض الأمور لغيرك ثم تستند إليه أمورهم وتفوض إليه حربهم وتأمره في عهدك وصيتك إياه بلزوم أمرك ما لزمه الحزم , وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي عند استحالة الأمور واشتداد الأحوال التي ينقض أمر الغائب عنها ويثبت رأي الشاهد لها , فإنه إذا فعل ذلك , فواثب أمرهم من قريب وسقط عنه ما يأتي من بعيد تمت الحيلة , وقويت المكيدة ونفذ العمل واحد النظر إن شاء الله .
قال الفضل بن عباس :
أيها المهدي , إن ولي الأمور وسائس الحروب ربما نحى جنوده وفرق أمواله في غير ما ضيق أمر حزبه , ولا ضغطة حال اضطرته فيقعد عند الحاجة إليها وبعد التفرقة لها عديما منها فاقدا لها , لا يتق بقوة ولا يصول بعدة , ولا يفزع إلى ثقة , فالرأي لك أيها المهدي وفقك الله أن تعفي خزائنك من الإنفاق للأموال وجنودك من مكابدة الأسفار ومقارعة الأخطار وتغرير القتال , وتسرع للقوم في الإجابة إلى ما يطلبون , والعطاء لما يسالون , فيفسد عليك أدبهم وتجرئ من رعيتك غيرهم ولكن اغزهم بالحيلة وقاتلهم بالمكيدة وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق وابرق لهم بالقول وأرعد نحوهم بالفعل وابعث البعوث وجند الجنود وكتِّب الكتائب واعقد الألوية وانصب الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش مع أحنق قوادك عليهم وأسوئهم أثرا فيهم , ثم ادسس الرسل , وابثث الكتب , وضع بعضهم على طمع من وعدك وبعضا على خوف من وعيدك , وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاشد فيهم واغرس أشجار التنافس بينهم , حتى تملأ القلوب من الوحشة وتنطوي الصدور على البغيضة , ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة فإن مرام الظفر بالغيلة والقتال بالحيلة والمناصبة بالكتب , والمكايدة بالرسل , والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب القوي الموقع على النفوس المعقود بالحجج الموصول بالحيل المبني على اللين الذي يستميل القلوب , ويسترق العقول والآراء , ويستميل الأهواء ويستدعي المواتاة – أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح , كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل , ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة أحكم عملا ً وألطف منظرا وأحسن سياسة , من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال , والإتلاف للأموال والتغرير والخطار.
وليعلم المهدي أنه إن وجه لقتالهم رجلا لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة , وتقدم على أسفار ضيقة متفرقة وقواد غششة إن ائتمنهم استنفدوا ماله , وإن استنصحهم كانوا عليه لا له , قال المهدي هذا رأي قد أسفر نوره وأبرق ضوءه , وتمثل صوابه للعيون ومجد حقه في القلوب , ولكن فوق كل ذي علم عليم , ثم نظر إلى ابنه فقال : ما تقول ؟ .
قال علي : أيها المهدي إن أهل خراسان لم يخلعوا عن طاعتك , ولم ينصبوا من دونك أحدا ً يقدح في تغيير ملكك ويريض الأمور لفساد دولتك , ولو فعلوا لكان الخطب أيسر والشأن أصغر والحال أدل , لأن الله مع حقه الذي لا يخذله وعند موعده الذي لا يخلفه , ولكنهم قوم من رعيتك وطائفة من شيعتك الذين جعلك الله عليهم واليا وجعل العدل بينك وبينهم حاكما ً ,طلبوا حقا ً وسألوا إنصافا فإن أجبت إلى دعوتهم ونفست عنهم قبل أن يتلاحم منهم حال , أو يحدث من عندهم فتق , أطعت أمر الرب وأطفأت ثائرة الحرب , ووفرت خزائن المال وطرحت تغرير القتال , وحمل الناس على طبيعة جودك وسجية حلمك وأسجاع خليفتك ومعدلة نظرك , فأمنت أن تنسب إلى ضعف , أن يكون ذلك فيما بقي دربة , وإن منعتهم ما طلبوا ولم تجبهم إلى ما سألوا اعتدلت بك وبهم الحال , وساويتهم في ميدان الخطاب – فما أرب المهدي أن يعد إلى طائفة من رعيته مقرين بملكيته مذعنين بطاعته لا يخرجون أنفسهم عن قدرته , ولا يبرئونها من عبوديته فيملكهم أنفسهم , ويخلع نفسه عنهم ويقف على الحيل معهم , ثم يجازيهم السوء في حد المنازعة ومضمار المخاطرة – أيريد المهدي وفقه الله الأموال ؟ فلعمري لا ينالها , ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر منها مما يطلب منهم وإضعاف ما يدعي قلبهم , ولو نالها فحملت إليه أو وضعت بخزائنها بين يديه , ثم تجافى لهم عنها وطال عليهم بها , لكان مما ينسب وبه يعرف من الجود الذي طبعه الله عليه وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه , فإن قال المهدي هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا , وتحامل ولاتنا , فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود وأنطقوا لسان الإرجاف , وفتحوا باب المعصية وكسروا قيد الفتنة فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم وعظة لسواهم , فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد مقرنين بالأصفاد , ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه ولإقالة عثرتهم صفحه واستبقاهم لما فيه من حزبه , أو لمن بإزائهم من عدوه لما كان بدعا ً من رأيه ولا مستنكرا ً من نظره.
لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا وأشدها وقعا ً وأصدقها صولا ً وأنه لا يتعاظمه عفو , ولا يتكاءده صفح , وإن عظم الذنب وجل الخطب , فالرأي للمهدي وفقه الله تعالى أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم وأن يذكروا أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم برأيهم , وتوسعا ً لهم فإن إخوان دولته وأركان دعوته وأساس حقه الذين بعزهم يصول , وبحجتهم يقول , وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطة وتعرضوا له من معاصيه , وانطووا فيه عن إجابته , ومثله في قلة ما غير من رأيه فيهم أو نقل من حاله لهم , أو تغير من نعمته بهم كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين أصاب أحدهما خبل ٌ عارض ولهو ٌ حادث فنهض إلى أخيه بالأذى وتحامل عليه بالمكروه , فلم يزدد أخوه إلا رقة له ولطفا ً به واحتيالا لمداواة مرضه ومراجعة حاله عطفا ً عليه وبرا ً به ومرحمة .
فقال المهدي : أما علي فقد نوى سمت الليان وفض القلوب من أهل الخراسان ولكل نبأ مستقر , ثم قال ما ترى يا أبا محمد ؟ ( يعني موسى ابنه ) .
فقال موسى : أيها المهدي لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم وأنت ترى الدماء تسيل من خلل فعلهم , الحال من القوم ينادي بمضمرة شر وخفية حقد قد جعلوا المعاذير عليها سترا ً، واتخذوا العلل من دونها حجابا ً رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير , والأمور بالتطويل , فيكسروا حيل المهدي فيهم ويفنوا جنوده عنهم حتى يتلاحم أمرهم , وتتلاحق مادتهم وتستفحل حربهم وتستمر الأمور بهم , والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس آمنة قد فتر لها وأنس بها , وسكن إليها
ولولا ما اجتمعت به قلوبهم , وبردت عليه جلودهم من المناصبة بالقتال والإضمار للقراع عن داعية ضلال أو شيطان فساد لرهبوا عواقب أخبار الولاة وغب سكون الأمور فليشدد المهدي – وفقه الله – أزره لهم , ويكتب كتائبه نحوهم وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم , وليوقن : إنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم إلا كانت دربة إلى فسادهم وقوة على معصيتهم , وداعية إلى عودتهم وسببا ً لفساد من بحضرته من الجنود ومن ببابه من الوفود الذين إن أقرهم وتلك العادة وأجراهم على ذلك الأرب , ولم يبرح في فتق حادث , وخلاف حاضر , لا يصلح عليه دين ولا تستقيم به دنيا , وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة , واستمرار الدربة لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة , والمؤونة الشديدة والرأي للمهدي وفقه الله أن لا يقيل عثرتهم , ولا يقبل معذرتهم حتى تطأهم الجيوش , وتأخذهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحدق بهم البلاء ويطبق عليهم الذل فإن فعل المهدي ذلك كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم وهزيمة لكل بادرة شر منهم , واحتمال المهدي في مئونة غزوتهم هذه تضع عنه غزوات كثيرة ونفقات عظيمة , فقال المهدي : قد قال القوم , فاحكم يا أبا الفضل ! . فقال العباس بن محمد : أيها المهدي : أما ( الموالي ) فأخذوا بفروع الرأي وسلكوا جنبات الصواب وتعدوا أمورا قصر بنظرهم عنها انه لم تأت تجاربهم عليها – وأما الفضل فأشار بالأموال أن لا تنفق والجنود لا تفرق , وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا ولا يبذل لهم ما سألوا , وجاء بأمر بين ذلك استصغارا لأمرهم , واستهانة بحربهم وإنما يهيج جسيمات الأمور صغارها , وأما علي فأشار باللين , وإفراط الرفق وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره وسفه حقه اللين بحتا ً والخير محضا ً , لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب عن لينة , ولا بشر يحسبهم إلى خيره , فقد ملكهم الخلع لعذرهم ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم , فإن أجابوا دعوته وقبلوا لينه من غير خوف اضطرهم ولا شدة فنزوة في رؤوسهم , يستدعون بها إلى أنفسهم ويستصرخون بها رأي المهدي فيهم , وإن لم يقبلوا دعوته ويسرعوا لإجابته باللين المحض والخير الصراح فذلك ما عليه الظن بهم , والرأي فيهم وما قد يشبه أن يكون من مثلهم لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل فيها من النعيم المقيم والملك الكبير ما لا يخطر على قلب بشر ولا تدركه الفكر , ولا تعلمه نفس , ثم دعا الناس إليها ورغبهم فيها , فلولا أنه خلق نارا جعلها لهم رحمة يسوقهم بها إلى الجنة لما أجابوا ولا قبلوا .
وأما موسى فأشار بأن يعصبوا بشدة لا لين فيها , وأن يرموا بشر لا خير معه , وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته الخوف مفردا ً , والشر مجردا ً ليس معهما طمع ولا لين يثنهم اشتدت الأمور بهم , وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين إما أن تدخلهم الحمية من الشدة والأنفة من الذلة والامتعاض من القهر , فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف , والاستبسال في القتال والاستسلام للموت , وإما أن ينقادوا ويذعنوا بالقهر على بغضه لازمة , وعداوة باقية , تورث النفاق وتعقب الشقاق , فإذا أمكنتهم الفرصة أو ثابت لهم قدوة أو قويت لهم حال , عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد مما كان .
وقال في قول الفضل : أيها المهدي أكفى دليل وأوضح برهان , وأبين خبر بأن قد أجمع رأيه وحزم نظره على الإرشاد ببعثه الجيوش إليهم وتوجيه البعوث نحوهم مع إعطائهم ما سألوا من الحق , وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل .
قال المهدي : ذلك رأي .
قال هارون : ما خلطت الشدة أيها المهدي باللين فصارت الشدة أمر فطام لما تكره , وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب , ولكن أرى غير ذلك .
قال المهدي : لقد قلت قولا بديعا ً , وخالفت فيه أهل بيتك جميعا ً والمرء مؤتمن بما قال وظنين بما ادعى , حتى يأتي ببينة عادلة وحجة ظاهرة فاخرج عما قلت .
قال هارون : إن الحرب خدعة , والأعاجم قوم مكرة , وربما اعتدلت الحال بهم واتفقت الأهواء منهم فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون وربما افترق الحالان , وخالف القلب اللسان , فانطوى القلب على محجوبة تبطن واستسر بمدخولة لا تعلن والطبيب الرفيق بطبه البصير بأمره العالم بمقدم يده وموضع ميسمه , لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء فالرأي للمهدي وفقه الله أن يفر باطن أمرهم فر المسنة ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء بمتابعة الكتب ومظاهرة الرسل , وموالاة العيون , حتى تهنك حجب عيونهم وتكشف أغطية أمورهم , فإن انفرجت الحال وأفضت الأمور إلى تغيير حال , أو داعية ضلال اشتملت الأهواء عليه وانقاد الرجال إليه وامتدت الأعناق نحوه بدين يعتقدونه وإثم يستحلونه بشدة لا لين فيها , ورماهم بعقوبة لا عفو معها , وإن انفرجت العيون واهتصرت الستور ورفعت الحجب والحال فيها مريعة والأمور بهم معتدلة في أرزاق يطلبونها وأعمال ينكرونها , وظلامات يدعونها وحقوق يسألونها بماتة سابقتهم ودالة مناصحتهم , فالرأي للمهدي وفقه الله , أن يتسع لهم بما طلبوا ويتجافى لهم عما كرهوا ويشعب من أمرهم ما صدعوا ويرتق من فتقهم ما قطعوا ويولى عليهم من أحبوا ويداوي بذلك مرض قلوبهم وفساد أمورهم , فإنما المهدي من أمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق والوالد الشفيق والراعي المجرب الذي يحتال لمرابض غنمه , وضوال رعيته حتى يبرئ المريضة من داء علتها ويرد الصحيحة إلى أنس جماعتها , ثم إن خراسان بخاصة الذين لهم دالة محمولة وماتة مقبولة ووسيلة معروفة , وحقوق واجبة لأنهم أيدي دولته وسيوف دعوته وأنصار حقه وأعوان عدله فليس من شأن المهدي الاضطعان عليهم ولا المؤاخذة لهم , ولا التوعر بهم ولا المكافأة بإساءتهم لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن تقوى , ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ احزم في الرأي واصح في التدبير من التأخير لها والتهاون بها حتى يلتئم قليلها بكثيرها وتجتمع أطرافها إلى جمهورها .
قال المهدي : ما زال هارون يقع وقع الحيا حتى خرج خروج القدح من الماء وانسل انسلال السيف فيما ادعى , فدعوا ما سبق موسى فيه فإنه هو الرأي وثنى بعده هارون , ولكن من لأعنة الخيل وسياسة الحرب وقادة الناس إن أمعن بهم اللجاج وأفرطت بهم الدالة ؟
قال صالح بن علي : لسنا نبلغ أيها المهدي بدوام البحث الطويل وطول الفكر أدنى فراسة رأيك وبعض لحظات نظرك , وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل ورأي كامل وتدبير قوي تقلده حربك وتستودعه جندك ممن يحتمل الأمانة العظيمة ويضطلع بالأعباء الثقيلة , وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة , مخبور التجارب محمود العواقب معصوم العزم . فليس يقع اختيارك ولا يقف نظرك على أحد توليه أمرك وتسند إليه ثغرك إلا أراك الله ما تحب لك منه ما تريد .
قال المهدي إني لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه وحسن معونته عليه , ولكي أحب الموافقة على الرأي والاعتبار للمشاورة في الأمر المهم .
قال محمد بن الليث : أهل خراسان قوم ٌ ذو عزة ومنعة وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة , وملابس الأنفة عليهم ظاهرة , فالروية عنهم عازبة ولعجلة عنهم حاضرة , تسبق مطرهم سيوفهم عذلهم , لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم وبين رؤساء لا يلجمون إلا بشدة ولا يفطنون إلا بالمر , وإن ولى المهدي عليهم وضيعا لم تنقد له العظماء وإن ولى أمرهم شريفا ً تحامل على الضعفاء وإن آخر المهدي أمرهم ودافع حربهم حتى يصيب لنفسه من حشمة ومواليه أو بني عمه أو بني أبيه ناصحا ً يتفق عليه أمرهم وثقة تجتمع له إملاؤهم بلا أنفة تلزمهم ولا حمية تدخلهم ولا مصيبة تنفرهم , تنفست الأيام بهم وتراخت الحال بأمرهم , فدخل بذلك من الفساد الكبير , والضياع العظيم ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد , ولا يستصلحه وإن جهد , إلا بعد دهر طويل وشر كبير وليس المهدي – وفقه الله – فاطما عاداتهم ولا قارعا ً صفاتهم بمثل أحد رجلين لا ثالث لهما ولا عدل في ذلك بهما : أحدهما لسان ناطق موصول بسمعك ويد ٌ ممثلة لعينك وصخرة لا تزعزع وبهمة لا تثنى وبازل لا يفزعه صوت الجلجل , نقي العرض نزيه النفس جليل الخطر قد اتضحت الدنيا قدره , وسما نحو الآخرة بهمته فجعل الغرض لعينه نصبا , والغرض الأدنى لقدمه موطئا ً , فليس يقبل عملا ً ولا يتعدى أملا وهو رأس مواليك وأنصح بني أبيك , رجل قد غذى بلطيف كرامتك ونبت في ظل دولتك ونشأ على قوائم أدبك قلدته أمرهم وحملته ثقلهم وأسندت إليه ثغرهم كان قفلا ً فتحه أمرك وبابا ً أغلقه نهيك , فجعل العدل عليه وعليهم أميرا والإنصاف بينه وبينهم حاكما ً . وإذا حكم المنصفة وسلك المعدلة فأعطاهم مالهم ، وأخذ منهم ما عليهم , غرس لك في الذي بين صدورهم , وأسكن لك السويداء داخل قلوبهم , طاعة راسخة العروق باسقة الفروع متماثلة في حواشي عوامهم . متمكنة من قلوب خواصهم , فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه ولا يلزمهم حق إلا أدوه , وهذا أحدهما , وآخر عود من غيضتك أو نبعة من أرومتك فتى السن كهل الحلم راجح العقل محمود الصرامة مأمون الخلاف يجرد فيهم سيفه ويبسط عليهم خيره بقدر ما يستحقون وعلى حسب ما يستوجبون وهو ( فلان ) أيها المهدي – فسلطه أعزك الله عليهم ووجهه بالجيوش إليهم ولا تمنعك ضراعة سنه وحداثة مولده فإن الحلم والثقة مع الحداثة خير ٌ من الشك والجهل مع الكهولة , وإنما إحداثكم أهل البيت فيما طبعكم الله عليه , واختصكم به من مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور وصواب التدبير وصرامة الأنفس كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب , والعارفة لوجوه النفع بلا تأديب فالحلم والعلم والعزم والحزم والتؤدة والرفق , ثابت في صدروكم مزروع في قلوبكم , مستحكم لكم متكامل عندكم , بطبائع لازمة وغرائز ثابتة .
قال معاوية بن عبد الله : إفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر , وأهل خراسان في حال عز على ما وصف , ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلا ً ليس بقدر الذكر في الجنود ولا بنبيه الصوت في الحروب ولا بطويل التجربة للأمور , ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء , دخل ذلك أمران عظيمان , وخطران مهولان أحدهما : أن الأعداء يغتمزونها منه ويحتقرونها فيه ويجترئون بها عليه في النهوض به والمقارعة له والخلاف عليه قبل الاختبار لأمره , والتكشف لحاله والعلم بطباعه . والأمر الآخر : أن الجنود التي يقود , والجيوش التي يسوس , إذا لم يختبروا منه البأس والنجدة ولم يعرفوه بالصيت والهيبة انكسرت شجاعتهم وماتت نجدتهم واستخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم ووقوع معرفتهم , وربما وقع البوار قبل الاختيار وبباب المهدي – وفقه الله – رجل مهيب نبيه حنيك صيت له نسب زاك وصوت عال قد قاد الجيوش وساد الحروب وتألف أهل خراسان , واجتمعوا عليه بالمقة ووثقوا به كل الثقة فلو ولاه المهدي أمرهم لكفاه الله شرهم . قال المهدي : جانبت قصد الرمية وأبيت إلا عصبية إذ رأى الحدث من أهل بيتنا كرأي عشرة حلماء من غيرنا , ولكن أين تركتم ولي العهد ؟
قالوا : لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده ونسيج وحده ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله , ولكن وجدنا الله عز وجل حجب عن خلقه وستر دون عباده علم ما تختلف به الأيام , ومعرفة ما تجري عليه المقادير من حوادث الأمور , وريب المنون المخترمة لخوالي القرون ومواضي الملوك فكر هنا شسوعه عن محله ودار السلطان ومقر الإمامة والولاية , وموضع المدائن والخزائن ومستقر الجنود ومعدن الجود , ومجمع الأموال التي جعلها الله قطبا ً لدار الملك ومصيدة لقلوب الناس , ومثابة لإخوان الطمع وثوار الفتن , ودواعي البدع وفرسان الضلال وأبناء الموت , وقلنا : إن وجه المهدي ولي عهده فحدث في جيوشه وجنوده ما قد يحدث بجنود الرسل من قبله , لم يستطع المهدي أن يعقبهم بغيره إلا أن ينهض إليهم بنفسه , وهذا خطر عظيم وهول شديد , إن تنفست الأيام بمقامه واستدارت الحال بإمامه , حتى يقع عوض لا يستغنى عنه , أو يحدث أمر لا بد منه صارما ً بعده ما هو أعظم هولا ً , وأجل خطرا ً له تبعا ً , وبه متصلا ً .
قال المهدي : الخطب أيسر مما تذهبون إليه وعلى غير ما تصفون الأمر عليه , نحن أهل البيت نجري من أسباب القضايا ومواقع الأمور على سابق من العلم , ومحتوم من الأمر , قد أنبأت به الكتب ونبأت عليه الرسل , وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا وتكامل بحذافيره عندنا , فيه ندبر وعلى الله نتوكل إنه لا بد لولي عهدي وولي عهد عقبى بعدي , أن يقود إلى خراسان البعوث ويتجه نحوها بالجنود , أما الأول فانه يقدم إليهم رسله ويعمل فيهم حيلة ثم يخرج نشيطا ً إليهم حنقا ً عليهم يريد أن لا يدع أحدا ً من إخوان الفتن ودواعي البدع وفرسان الضلال , إلا توطئه بحر القتل وألبسه قناع القهر , وقلده طوق الذل ولا أحدا ً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة وإخماد نار البدعة ونصرة ولاة الحق إلا أجرى عليهم ديم فضله وجداول نهله , فإذا خرج مزمعا ً به مجمعا ً عليه لم يسر إلا قليلا ً حتى تأتيه أن قد عملت حيله , وكدحت كتبه ونفذت مكايده فهدأت نافرة القولب ووقعت طائرة الأهواء واجتمع عليه المختلفون بالرضا فيميل نظرا لهم وبراً بهم وتعطفا ً عليهم إلى عدو قد أخاف سبيلهم وقطع طريقهم ومنع حجاجهم بيت الله الحرام وسلب تجارهم رزق الله الحلال , وأما الآخر فإنه يوجه إليهم ثم تعقد له الحجة عليهم بإعطاء ما يطلبون وبذل ما يسالون , فإذا سمعت الفرق بقراباتها له وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه , فأضعت إليه الأفئدة واجتمعت له الكلمة وقدمت عليه الوفود قصد الأول ناحية بجعت بطاعتها وألقت بأزمتها فألبستها جناح نعمته وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه , ثم عم الجماعة بالمعدلة وتعطف عليهم بالرحمة فلا تبقى فيهم ناحية ذاتية ولا فرقة قاصية إلا دخلت عليها بركته ووصلت إليها منفعته فأغنى فقيرها وجبر كسيرها ورفع وضيعها وزاد رفيعها ما خلا ناحيتين : ناحية يغلب عليها الشقاء وتستميلهم الأهواء فتستخف بدعوته , وتبطئ عن إجابته وتتثاقل عن حقه , فتكون آخر من يبعث وأبطأ من يوجه , فيصطلي عليها موجدة ويبتغي لها علة , لا يلبث أن يجد بحق يلزمهم وأمر يجب عليهم فتستلحمهم الجيوش وتأكلهم السيوف ويستحر بهم القتل ويحيط بهم الأسر ويفنيهم التتبع حتى يخرب البلاد وييتم الأولاد .
وناحية لا يبسط لهم أمانا ولا يقبل لهم عهدا ً ولا يجعل لهم ذمة لأنهم أول من فتح باب الفرقة وتدرع جلباب الفتنة وربض في شق العصا , ولكنه يقتل أعلامهم وياسر قوادهم ويطلب هرابهم في لجج البحار وقلل الجبال وحميل الأدوية وبطون الأرض تقتيلا وتغليلا وتنكيلا حتى يدع الديار خرابا والنساء أيامى – وهذا أمر لا نعرف له في كتبنا وقتا ولا نصحح منه غير ما قلنا تفسيرا ً- وأما ( موسى ولي عهدي ) فهذا أوان توجهه إلى خراسان وحلوله بجرجان وما قضى الله له من الشخوص إليها والمقام فيها خير للمسلمين مغبة وله بإذن الله عاقبة بحيث يغمر لجج بجورنا ومدافع سيولنا ومجامع سيولنا أمواجنا فيتصاغر عظيم فضله ويتذاءب مشرق نوره ويتقلل كثير ما هو كائن منه , فمن يصحبه من الوراء ويختار له من الناس ؟
قال محمد بن الليث : أيها المهدي – إن ولي عهدك أصبح لامتك وأهل ملتك علما قد تثنت نحوه أعناقها ومدت سمته أبصارها , وقد كان لقرب داره منك ومحل جواره لك عطل غفل الأمر واسع العذر , فأما إذا انفرد بنفسه وخلا بنظره وصار إلى تدبيره , فإن من شأن العامة أن تتفقد مخارج رأيه . وتستنصت لمواقع آثاره , وتسأل عن حوادث أحواله في بره ومرحمته ومعدلته , وتدبيره وسياسته ووزرائه وأصحابه , ثم يكون ما سبق إليهم أغلب الأشياء عليهم وأملك الأمور بهم وألزمها لقلوبهم وأشدها استمالة لرأيهم , وعطفا ً لأهوائهم فلا يفتأ المهدي وفقه الله ناظرا ً له فيما يقوى عمد مملكته , ويسدد أركان ولايته ويستجمع رضاء أمته بأمر هو أزين لحاله , وأظهر لجماله , وأفضل مغبة لأمره وأجل موقعا في قلوب رعيته , وأحمد حالا في نفوس أهل ملته , ولا أدفع مع ذلك باستجماع الأهواء له وأبلغ في استعطاف القلوب عليه من مرحمة تظهر من فعله ومعدلة تنتشر عن أثره , ومحبة للخير وأهله – وأن يختار المهدي وفقه الله من خيار أهل كل بلدة , وفقهاء أهل كل مصر , أقواما ً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا , وتأنس إذا وصفوا , ثم تسهل لهم عمارة سبل الإحسان , وفتح باب المعروف , كما قد كان فتح له وسهل عليه .
قال المهدي : صدقت ونصحت , ثم بعث في طلب ابنه موسى فقال له :
أي بني – إنك قد أصبحت لسمت وجوه العامة نصبا ً , ولمثنى أعطاف الرعية غابة , فحسنتك شاملة وإساءتك نائية , وأمرك ظاهر فعليك بتقوى الله وطاعته فاحتمل سخط الناس فيهما , ولا تطلب رضاهم بخلافهما , فإن الله عز وجل كافيك , من أسخطك عليك إيثارك رضاه , وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من سواه – ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمان فترة من رسله , وبقايا من صفوة خلقه وخبايا لنصرة حقه يجدد حبل الإسلام بدعواهم , ويشيد أركان الدين بنصرتهم ويتخذ لأولياء دينه أنصارا ً , وعلى إقامة عدله أعوانا ً يسدون الخلل ويقيمون الميل , ويدفعون عن الأرض الفساد , وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا وسيوف دعوتنا الذين نستدفع المكاره بطاعتهم , ونستصرف نزول العظائم بمناصحتهم وندافع الزمان بعزائمهم , ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم فهم عماد الأرض إذا أرجف كنفها وخوف الأعداء إذا برزت صفحتها , وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها , قد مضت لهم وقائع صادقات , ومواطن صالحات أخمدت نيران الفتن , وقسمت دواعي البدع , وأذلت رقاب الجبارين , ولم ينفكوا كذلك ما جروا مع ريح دولتنا وأقاموا في ظل دعوتنا , واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز الله بها ذاتهم ورفع بها ضعتهم , وجعلهم بها أربابا ً في أقطار الأرض وملوكا ً على رقاب العالمين بعد لباس الذل وقناع الخوف وإطباق البلاء ومحالفة الأسى وجهد البأس والضر فظاهر عليهم لباس كرامتك وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم حق طاعتهم , ووسيلة دالتهم وماتة سابقتهم , وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم , والتوسعة عليهم والإثابة لمحسنهم والإقالة لمشيئتهم .
أي بني , ثم عليك العامة فاستدع رضاها بالعدل عليها واستجلب مودتها بالإنصاف لها , وتحسن بذلك لربك , وتوثق به في عين رعيتك , واجعل عمال العذر وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك ونصفة منك لرعيتك , وذلك أن تآمر قاضي كل بلد , وخيار أهل كل مصر أن يختاروا لأنفسهم رجلا ً توليه أمرهم وتجعل العدل حاكما بينه وبينهم فإن أحسن حمدت وإن أساء عذرت هؤلاء عمال العذر وولاة الحجج فلا يسقطن عليك ما في ذلك إذا انتشر في الآفاق وسبق إلى الأسماع من انعقاد السنة المرجفين وكبت قلوب الحاسدين وإطفاء نيران الحروب وسلامة عواقب الأمور ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلا ً , وبعرا حبلك متعلقا رجلان : أحدهما كريمة من كرائم رجالات العرب وأعلام بيوتات الشرف له أدب فاضل وحلم راجح ودين صحيح . والآخر له دين غير مغموز , وموضع غير مدخول , بصير بتقليب الكلام وتصريف الرأي , وأنحاء العرب , ووضع الكتب , عالم بحالات الحروب , وتصاريف الخطوب , يضع آدابا نافعة وأثارا باقية من محاسنك وتحسين أمرك وتحلية ذكرك فتستشيره في حربك وتدخله في أمرك فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي ويرعى في خضرة جناني ولا تدع أن يختار لك من فقهاء البلدان وخيار الأمصار أقواما يكونون جيرانك وسمارك , وأهل مشاورتك فيما تورد , وأصحاب مناظرتك فيما تصدر , فسر على بركة الله , أصبك الله من عونه وتوفيقه دليلا يهدي إلى الصواب قلبك وهاديا ينطق بالخير لسانك .




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)