رابعاً-المناظرات النقدية الأدبية :
1-مناظرة للآمدي
بين صاحب أبي تمام – وصاحب البحتري
-صاحب أبي تمام : كيف يجوز لقائل أن يقول : إن البحتري أشعر من أبي تمام , ومن أبي تمام أخذ , وعلى حذوه احتذى , ومن معانيه استقى ! حتى قيل الطائي الأكبر , والطائي الأصغر !! .
-صاحب البحتري : أما الصحبة له فما صحبه ولا تتلمذ له , ولا روى ذلك أحد عنه ولا نقله , ولا رأى قط أنه محتاج إليه , ودليل ذلك الخبر المستفيض من اجتماعهما وتعارفهما عند ( أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري ) وقد دخل عليه البحتري بقصيدته التي أولها :* أأفاق صب من هوى فأفيقا * وأبو تمام حاضر فلما أنشدها علق أبو تمام منها أبياتا ً كثيرة , فلما فرغ من الإنشاد أقبل أبو تمام على محمد بن يوسف فقال : أيها الأمير , ما ظننت أن أحدا ً يقدم على أن يسرق شعري , وينشده بحضرتي حتى اليوم . ثم اندفع ينشد ما حفظه , حتى أتى على أبيات كثيرة من القصيدة .
فبهت البحتري , ورأى أبو تمام الإنكار في وجه أبي سعيد . فحينئذ قال له أبو تمام : أيها الأمير والله ما الشعر إلا له , وإنه أحسن فيه الإحسان كله , وأقبل يقرظه ويصف معانيه ويذكر محاسنه , ولم يقنع من محمد بن يوسف حتى ضاعف له الجائزة .
فمن كان يقول مثل هذه القصيدة التي هي من عين شعره وفاخر كلامه قبل أن يعرف أن أبا تمام جدير به أن يستغني عن أن يصحبه أو يتتلمذ له أو لغيره من الشعراء , على إنني لا أنكر أنه استعار بعض معاني أبي تمام , لقرب البلدين وكثرة ما كان يطرق سمع البحتري من شعره وليس ذلك بمقتض أن يكون أبو تمام أستاذ البحتري , ولا بمانع أن يكون البحتري أشعر من أبي تمام , فهذا ( كثيِّر ) قد أخذ من ( جميل ) واستقى من معانيه , فما رأينا أن أحدا قال:إن ( جميلا ً ) أشعر منه بل هو عند أهل العلم بالشعر والرواية أشعر من جميل .
-صاحب أبي تمام : إن البحتري نفسه يعترف أن أبا تمام أشعر منه , فقد سئل عنه وعن أبي تمام فقال : إن جيده خير ٌ من جيدي , وجيد أبي تمام كثير .
-صاحب البحتري : إن كان هذا الخبر صحيحا فهو للبحتري لا عليه لأن قوله هذا يدل على أن شعر أبي تمام كثير الاختلاف وشعره شديد الاستواء , والمسوي الشعر أولى بالتقدمة من المختلف الشعر , وقد اجتمعنا نحن وأنتم على أن أبا تمام يعلو علوا ً حسنا ً وينحط انحطاطا ً قبيحا ً , وأن البحتري يعلو بتوسط ولا يسقط , ومن لا يسقط ولا يسف أفضل ممن يسقط ويسف .
صاحب أبي تمام : إن أبا تمام انفرد بمذهب اخترعه وصار فيه أولا ً , وإماما ً متبوعا ً , وشهر له حتى قيل هذا مذهب أبي تمام وطريقة أبي تمام , وسلك الناس نهجه واقتفوا أثره , وهي فضيلة عرى عن مثلها البحتري .
-صاحب البحتري : ليس الأمر على ما وصفت وليس أبو تمام صاحب هذا المذهب ولا بأول فيه ولا سابق إليه , بل سلك فيه سبيل مسلم بن الوليد واحتذى حذوه , وأفرط في ذلك وأسرف , حتى زال عن النهج المعروف , والسنن المألوف .
بل إن مسلما غير مبتدع , ولكنه رأى هذه الأنواع التي وقع عليها اسم البديع متفرقة في أشعار المتقدمين فقصدها , وأكثر في شعره منها , ولكنه حرص على أن يضعها في مواضعها , ولم يسلم مع ذلك من الطعن عليه , حتى قيل إنه أول من أفسد الشعر , فجاء أبو تمام على أثره واستحسن مذهبه , وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من هذه الأصناف فسلك طريقا ً وعرا ً واستكره الألفاظ والمعاني استكراها ً , ففسد شعره وذهبت طلاوته ونشف ماؤه , فقد سقط الآن احتجاجكم باختراع أبي تمام لهذا المذهب وسبقه إليه , وكل ما في المسألة أنه استكثر منه وأفرط فكان إفراطه من أعظم ذنوبه , وأكبر عيوبه .
أما البحتري فانه فارق عمود الشعر , وطريقته المعروفة على كثرة ما جاء في شعره من الاستعارة والتجنيس والمطابقة فكان انفراده بحسن العبارة وحلاوة اللفظ وصحة المعنى والبعد عن التكلف والتعمل سببا ً في إجماع الناس على استحسان شعره , واستجادته وتداوله , ونفاق شعر الشاعر دليل ٌ على علو مكانته , واضطلاعه بما يلاءم الأذواق , ويلامس القلوب , من أساليب الكلام ومناهجه .
-صاحب أبي تمام : إنما أعرض عن شعر أبي تمام من لم يفهمه لدقة معانيه وقصور فهمه عنه , أما النقاد والعلماء فقد فهموه وعرفوا قدره , وإذا عرفت هذه الطبقة فضيلته لم يضره طعن من طعن بعدها عليه .
-صاحب البحتري : لا يستطيع أحد أن ينكر منزلة ابن الأعرابي , وأحمد بن يحيى الشيباني , ودعبل الخزاعي من الشعر ومنزلتهم من العلم بكلام العرب , وقد علمتم مذهبهم في أبي تمام وازدرائهم بشعره , حتى قال دعبل : إن ثلث شعره محال وثلثه مسروق وثلثه صالح , وقال : ما جعل الله أبا تمام من الشعراء , بل شعره بالخطب والكلام المنثور أشبه منه بالشعر , وقال ابن الأعرابي في شعر أبي تمام : إن كان هذا شعرا ً فكلام العرب باطل ٌ , وهذا محمد بن يزيد المبرد : ما علمناه دون له كبير شيء .
-صاحب أبي تمام : إن دعبلا ً كان يشنأ أبي تمام ويحسده على ما هو معروف ومشهور فلا يقبل قول شاعر في شاعر , وأما ابن الأعرابي فكان شديد التعصب عليه لغرابة مذهبه , ولأنه كان يرد عليه من معانيه ما لا يفهمه ولا يعلمه , فكان إذا سئل عن شيء منها يأنف أن يقول لا أدري فيعدل إلى الطعن عليه . ولا مانع أن يكون جميع من تذكرونه على هذا القياس .
-صاحب البحتري : لا عيب على ابن الأعرابي في طعنه على شاعر عدل في شعره عن مذاهب العرب إلى الاستعارات البعيدة المخرجة للكلام إلى الخطأ والإحالة , والعيب في ذلك يلحق أبا تمام إذ عدل عن المحجة إلى طريقها يجهلها ابن الأعرابي وأمثاله من المضطلعين بالسليقة العربية .
-صاحب أبي تمام : إن العلم في شعره أبي تمام , أظهر منه في شعر البحتري والشاعر العالم , أفضل من الشاعر غير العالم .
-صاحب البحتري : كان الخليل بن أحمد عالما ً شاعرا ً , وكان الأصمعي شاعرا ً عالما ً , وكان الكسائي كذلك , وكان خلف بن حبان الأحمر أشعر العلماء , وما بلغ بهم العلم طبقة من كان زمانهم من الشعراء غير العلماء , والتجويد في الشعر ليست علته العلم , والشائع المشهر أن شعر العلماء دون شعر الشعراء , وقد كان أبو تمام يعمل على أن يدل في شعره على علمه باللغة وكلام العرب , أما البحتري فلم يقصد هذا ولا اعتمده ولا كان يعده فضيلة ولا يراه علما ً , بل كان يرى أنه شاعر , لا بد له أن يقرب شعره من فهم سامعه , فلا يأتي بالغريب إلا أن يتفق له في اللفظة بعد اللفظة في موضعه من غير طلب له ولا حرص عليه , على أن هذا العلم الذي تؤثرون به أبا تمام لم ينفعه , فقد كان يلحن في شعره لحنا ً يضيق العذر فيه ولا يجد المتأول له مخرجا ً منه , إلا بالحيلة والتحمل الشديد .
-صاحب أبي تمام : لسنا ننكر أن يكون صاحبنا قد وهم في بعض شعره وعدل عن الوجه الأوضح في كثير من معانيه , وغير غريب على فكر نتج من المحاسن ما نتج وولد من البدائع ما ولد , أن يلحقه الكلال في الأوقات , والزلل في الأحيان وبل من الواجب لمن أحسن إحسانه أن يسامح في سهوه , ويتجاوز له عن أخطائه وما رأينا أحدا ً من شعراء الجاهلية سلم من الطعن , ولا من أخذ الرواة عليه الغلط والعيب , وكذلك ما أخذته الرواة عن المحدثين المتأخرين من الغلط والخطأ , واللحن أشهر من أن يحتاج إلى أن نبرهنه أو ندل عليه , وما كان أحد من أولئك وهؤلاء مجهول الحق ولا مجحود الفضل , بل عفا إحسانهم على أساءتهم وتجويدهم عن تقصيرهم .
-صاحب البحتري : أما أخذ السهو والغلط على من أخذ عليهم من المتقدمين والمتأخرين ففي البيت الواحد والبيتين والثلاثة . أما أبو تمام فلا تكاد تخلو له قصيدة واحدة من عدة أبيات , يكون فيها مفسدا ً أو محيلا أو عادلا ً عن السنن أو مستعيرا ً استعارة قبيحة , أو مخطئا ً للمعنى بطلب الطباق والتجنيس أو مبهما ً بسوء العبارة والتعقيد , حتى لا يفهم ولا يوجد له مخرج . صاحب أبي تمام : تنكرون على أبي تمام من الفضل ما يعترف به البحتري نفسه فقد رثاه بعد موته رثاء اعترف فيه له بالسبق وفضله على شعراء عصره .
-صاحب البحتري : لم لا يفعل البحتري ذلك ؟ ؟ وقد كان هو وأبو تمام صديقين متحابين وأخوين متصافيين يجمعهما الطلب والنسب والمكتسب , فليس بمنكر ولا غريب أن يشهد أحدهما لصاحبه بالفضل , ويفصه بأحسن ما فيه وينحله ما ليس فيه , على أن الميت خاصة يعطى في تأبينه من التقريظ والوصف وجميل الذكر ما كان يستحقه .
-صاحب أبي تمام : كيفما كان الأمر لا تستطيعون أن تدفعوا ما أجمع عليه الرواة والعلماء , أن جيد أبي تمام لا يتعلق به جيد أمثاله , وإذا كان جيده بهذه المكانة وكان من الممكن إغفال رديئه واطراحه كأنه لم يقله فلا يبقى ريب في أنه أشعر شعراء عصره , والبحتري واحد منهم .
-صاحب البحتري : إنما صار جيد أبي تمام موصوفا ومذكورا ً لندرته , ووقوعه في تضاعيف الرديء , فيكون له رونق وماء عند المقابلة بينه وبين ما يليه وجيد البحتري كجيد أبي تمام , إلا أنه يقع في جيد مثله أو متوسط , فلا يناجئ النفس منه ما يفاجئها من جيد صاحبها .


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)