-بشر بن المعتمر والصورة الأدبية:
أول من تنبَّه من النقاد العرب القدامى إلى النظم، وهو بشر بن المعتمر2 في ضحيفته المشهورة ( البيان والتبيين الجاحظ: تحقيق السندوبي جـ 1 ص 82 وما بعدها، وتحقيق عبد السلام هارون جـ 1 ص 134 وما بعدها) ، فهو لا يرتفع باللفظ وحدّه، ولا بالمعنى وحدّه، ولكن بقصدهما معًا وفي نفس واحد، ولا يفصل أحدهما عن الآخر، ويشيد بهما معًا ممهدًا لنظرية النظم يقول: "إياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك ممانيك ويشين ألفاظك". فالتعقيد من سمات اللفظ والمعنى معًا وهو يفسد الصورة ويخل التعبير ويفقد روح التأثير فيها، ويقول بعد ذلك: "ومن أراد معنى كريمًا فيلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حتهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما". فموطن الجمال عنده في العمل الأدبي، يرجع إلى ارتباط اللفظ بالمعنى، فلا بد للمعنى الشريف من لفظ شريف، ويريد بذلك أن يفصح عن العلاقة بينهما، فليس في اللفظ وحده، ولا في المعنى وحده، ولكن في العلاقة بينهما، وهي محلّ الصورة الأدبية التي توضح المعنى، وتسمو بالصياغة والتعبير، وليسمها بشر علاقة، أو اهتمام باللفظ والمعنى كما يشاء، لمناسبة التسمية مع ذوق أدباء عصره، ونشأة النقد الأدبي قبل أن يعرف المصطلحات الأدبية. وهذا الاتجاه قريب من مفهوم الصورة التي تحدَّدت معالمها فيما بعدُ، بل أضاف لما سبق معالم جديدة في مفهومها، منها التلاؤم بين اللفظ والمعنى، وقوة العاطفة، والوحدة الفنية، وتلاؤم الصورة مع العاطفة والمقام والغرض التي ذُكرت من أجله. يقول أبو سهل بشر بن المعتمر في مناسبة اللفظ للمعنى والتلاؤم بينهما "ومن أراد معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا، فإن حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف.. إلى قوله: أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا". أما قوة العاطفة في الأسلوب والصورة يقول فيها: "خذ من نفسك ساعة نشاطك" وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرًا، وأشرف حسبًا وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وقوة من لفظ شريف، ومعنى بديع، وأعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمماودة". أليس هذا حديث العاطفة في الكلام؟ فإنها لا تتولَّد إلا ساعة النشاط والحيوية والحرارة والانفعال، وعند ذلك تعطى الكثير في وقت قليل، كمًّا وكيفًا في النظم والتصوير، وتتوافر لديها المعاني البكر والألفاظ الغرر. وفي غير هذا الوقت الذي تتوهَّج فيه العاطفة، يعاود الأديب ويطاول سليقته، ويتكلَّف ويجاهد نفسه وجسمه، حتى يحقّق نظمًا وصياغة، لا يخلو من كلفة ونثور عاطفة. والعاطفة القوية هي التي تلهب التصوير، وتسري حرارتها في الصورة الأدبية وتبعث في النظم قوة التأثير وهو ما أراده بشر وإن لم يصرح بلفظها، أليس من الحق بعد وضوح معالمها وتحديد مفهومها حديثًا أن تقرّر التشابه بين الحديث عنها عند بشر وفي العصر الحديث؟ ألم يكن بينهما توافق كبير؟ فحديث العاطفة في الصورة اليوم هو نفسه حديث أبي سهل عنها منذ اثنى عشر قرنًا من الزمان؟ أظن أنه لا فرق في الجوهر واللب، وإن كان هناك فرق بينهما في التصريح بالعاطفة وعدمه. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الثالثة للصورة الأدبية، أو النظم والكلام البليغ وهي الوحدة الفنية أو مناسبة الكلمة لموقعها، يقول: "فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها، وإلى حقِّها من أماكنها المخصوصة لها، والقافية لم تحلّ في مركزها وفي نصابها، ولم تصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها، نافرة من موضعها، فلا تغصبها على اغتصاب الأماكن، والنزول في غير أوطانها، فإن ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك للطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إحالة الفكرة فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة أوجرت من الصناعة على عرق". فالشعر عند أبي سهل ليس ميسورًا وصياغته ليست سهلة، والتصوير لمعنى ما يحتاج إلى دفة وبراعة، وعلى الشاعر بعد اختيار الألفاظ والمعاني الكريمتين أن يختار لكل كلمة موقعها من الصورة" لتستمر في مكانها المخصوص لها، وكذلك القافية لا بد أن تقع في نصابها، وتتوازن مع نظائرها وتنشأ كل مع أخواتها، وبذلك يصير كلٌّ من الكملة والقافية غير قلق في مكانه، ولا نافر من موضعه، وغير مكره على اغتصاب ولا مضرب في غير أوطان. وإذا لم يتيسر للشاعر التناسب في الصورة الأدبية الوحدة الفنية بين الألفاظ فيها بحيث لا توافق الكلمة أختها، بأن تعبّر إحداهما عن العشق والصبابة والأخرى عن الحماسة والفخر، مما يهلهل النسج، ويضعف التماسك، وعلى الشاعر حينئذ خوفًا من الخلط والاضطراب أن يترك العمل الأدبي يومًا أو ليلة، حتى يستطيع أن يحكم النسج، ويضع كلًّا في مكانه المناسب، فتقع الكلمة مع أختها، لا مع الغريبة عنها وبذلك يتم التلاؤم بين أجزاء الصورة، ودور الصياغة المنثورة، وتتحقَّق الوحدة الفنية فيها. وليسمها بشر بن المعتمر بين الكلمات، وتوافق في القوافي، حين تأخذ الكلمة موطنها وتتلاءم القافية مع أخواتها فيتحقق من عناصر الصورة دلالة الألفاظ في مدلولها وبموسيقاها على غرض الشاعر، وقد أخذ اللفظ والقافية مكانهما من النظم أو البيت وليسمّها النقاد اليوم الوحدة الفنية أو العضوية، مما يدلّ على التناسب بين الكلمات في التركيب، والتلاؤم بين الأجزاء في التصوير. ويتحدث أبو سهل عن الدعامة الرابعة للصورة الأدبية، أو عن النظم والتأليف. بين الكلم وهي تلاؤم الصورة أو التركيب، مع المقام والغرض الذي يهدف إليه الشاعر فيقول: "وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، ولكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار للمعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين، على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلمًا، لم يتجنب ألفاظ للمتكلمين، كما أنه إن عبَّر عن شيء من صناعة الكلام واصفًا أو مجيبًا أو سائلًا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسم، وبها أشغف ". وعالم البلاغة عندنا يسمع حديث بشر يحكم عليه هنا بأنه لا يصلح إلا لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، لارتباطه القوي بالبلاغة، ولا يمت للصورة الأدبية إلا بأدنى ملابسة، والحق أن كلام بشر السابق وما قبله لا يستطيع أحد ألا يلحقه بعلم البلاغة فحديثه وثيق الصلة بها، وينبغي أن يدخل في باب الصورة الأدبية، لأن الغرض من التصوير هو التأثير في النفس بحيث يسيطر على العقل والمشاعر، وهذا التأثير للصورة لا يتمّ ولا يقوى إلا إذا اتفقت مع الحالة التي تعبر عنها، في المقام الذي يبرزه الشاعر للصور مثل قول ابن الرومي في "النقيل البارد":
يا أبا القاسم الذي ليس يدري ... أرصاص كيانه أم خلايد
أنت عندي كما يثرك في الصيف ... ثقيل بعلوّه برد شديد
وأجزاء الصورة هنا تبرز معالم الثقل في شخص أبي القاسم، فهو ثقيل النفس عديم الحركة ناقد الإنسانية، ميت الشعور، بارد العاطفة، كالرصاص أو الحديد اللذين لا ينتفع الناس بكل منهما، إلا إذا انصهرا في الغار واتخذا أشكالًا وجسومًا تصلح للاستعمال والانتفاع. فأبو القاسم بارد كهذين المعدنيين، اللذين يظهر فيهما تأثير البرودة واضحًا وبسرعة، فهما جيدا التوصيل، كما يقول علماء الطبيعة حديثا، بخلاف الخشب فهو رديء التوصيل ولكي يبلغ ابن الرومي الغاية في الصورة، ويمنحها القدرة على التأثير، أضاف إلى البرودة السابقة برودة أشدّ وأقوى، وهي برودة الماء التي ترتفع فيه الدرجة ليغلانه وليونقه، ثم يرتفع بها إلى معدن غير عادي، وهو ما بعد الصفر، فيصور الماء في بئر تحت الأرض، بعيدًا عن حرارة الشمس، وفي ظل دائم، ثم أخيرًا يكسبه بطبقة من الجليد والبرد. وقد اختار الألفاظ في النظم التي تناسب مع أبي القاسم، واستقطب الأجزاء في الصورة التي تتلاءم مع حالة الثقيل البارد من الرصاص والحديد وماء البئر في الصيف، والثقل والبرد الشديد كل ذلك ليؤدي الشاعر الغرض الذي من أجله كانت الصورة ويتآلف مع مقام الهجاء العنيف الذي أراده الشاعر، فقد رمى أبا القاسم في صورته ينقل النفس، وجمود العاطفة وتجريده من الإنسانية وموت الشمور فيه، مما يتناسب مع مقام الإقذاع والتنكيل به. وهذا هو نهاية ما يتطلبه بشر بن المعتمر من التركيب والتصوير، وما اهتمَّ العلماء بالبلاغة إلا ليبلغوا بالكلام والصور مبلغ التأثير والإقناع، ولعل هذه الشبهة هي التى وقفت دون النقاد عن فهم ما يقصده بشر من صحيفته المشهورة من العناية وبالنظم، وإيضاح معالم التأليف والصور، حتى تكون جديرة بوصفه إياها بالبلاغة وقوة التأثير في النفس، إن كانت هذه إشارات خاطفة منه في مفهوم النظم والتصوير، إلا أنها نبهت من بعده، فأخذ ينميها ويعمقها، ليبلغ بها الغاية في الدقة والكمال وقوة التأثير والإمتاع.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)