وكان الكثيرون من المسلمين يقبلون على سماع الغزل في ذات النبي صلّى الله عليه وسلّم إقبالا واسعا ويهتزون له، وشاع في اوساط العامة شيوعا كثيرا، ورددوه في احتفالهم سنويا بمولده، وتغنوا به، مما دعا بعض العلماء من رجال الدين الى انكاره، فقال صاحب المجموعة النبهانية في المدائح النبوية: «واقبح من التشبيب بالنساء والولدان في ذلك ما يستحسنه بعض الجهال القاصرين من سماع الاشعار المشتملة على المعاني الغزلية في وصف الذات الشريفة المحمدية مما يأباه كلّ ذي طبع سليم ولا يستحليه الا كلّ ذي ذوق سقيم. وقد ادخلوا بعض تلك الاشعار في قصة المولد الشريف المنسوبة الى بعض العلماء، وصارت تقرأ في مجالس العوام فلا تذكر، وذلك من أقبح المذكر، فليتجنب سماعه وليحذر، ومن ذا الذي يستحسن ان يتغزل به أو بأبيه او برجل جليل من قومه او ممن يعتقدهم ويجلهم من العلماء والاولياء وغيرهم من الاكابر والاجلاء، كما يتغزل بالولدان والنساء؟ لا شك في ان ذلك لا يستحسنه احد من العقلاء» ( المجموعة النبهانية 2/ 14. ) ، ومن الشعراء من تناول مولد الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورضاعته ونشأته وبعثته واسراءه ومعراجه وجهاده ومعجزاته وما ظهر عند مولده وعند بعثته وتعد قصيدة جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري النونية من اطول القصائد في هذا المجال، فهي في ثماني مئة واثنين وخمسين بيتا، وضع فيها سيرة الرسول كاملة ، منها قوله:
لما اصطفى الله الخليل وزاده ... شرفا ونجاه من النيران
اختار اسماعيل من اولاده ... وبني كنانة من بني عدنان
ثم اصطفى منهم قريشا واصطفى ... ابناء هاشم الفتى المطعان
ثم اصطفى خير الانام محمدا ... من هاشم فسمت على قحطان
وأبان كعب جدّه في خطبة ... بعروبة في سائر الاخوان «86»
فضل النبي وودّ ان يبقى الى ... أيامه لقتال ذي شنآن
ولقد بدت أنواره بجبين عب ... د الله ظاهرة لذي عرفان
وبدت لآمنة الحصان لحملها ... بأخفّ حمل راجح الميزان
ولدته عام الفيل يوم الاثنين فاح ... تاز الفخار بفضله الاثنان
بربيع الأدنى بثاني عشرة ... ويوافق العشرين من نيسان
واغلب قصائد هذا الشاعر الطويلة تتناول السيرة العطرة للنبي المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وسيرة صحابته المؤمنين المجاهدين الذين صارعوا قوى الكفر والبغي والضلال «87» . ويعد شرف الدين البوصيري من الشعراء الذين بلغت شهرتهم القمة في المديح النبوي ولا سيما في مطولاته مثل: قصيدته الهمزية (457 بيتا) التي سرد فيها حياة خاتم النبيين صلّى الله عليه وسلّم من الولادة حتى الوفاة وما رافقها من جهاد ومواقف عظيمة في اصلاح الامة وانقاذها من الضلالات والاوهام والخرافات.. مطلعها :
كيف ترقى رقيّك الانبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
إنه تناول مولده ورضاعته وما وهب الله حليمة السعدية من خير وبركة ورزق وفير، واخلاقه واخلاصه وأمانته ووفاءه وزواجه من خديجة وبعثته، ونزول جبريل عليه، ودعوته للناس في الدخول الى الاسلام، وكفاحه وصموده في مكة، ثم خروجه الى المدينة، واستقبال الانصار له، وصبره وانتصاره على المشركين والمكابرين، ومحاربته اليهود، وذكر معجزاته ... جاء فيها قوله:
رحمة كلّه وحزم وعزم ... ووقار وعصمة وحياء
لا تحلّ البأساء منه عرى الصب ... ر ولا تستخفه السراء
كرمت نفسه فما يخطر السّو ... ء على قلبه ولا الفحشاء
عظمت نعمة الاله عليه ... فاستقلت لذكره العظماء
جهلت لومه عليه فاغضى ... وأخو الحلم دأبه الاغضاء
وسع العالمين علما وحلما ... فهو بحر لم تعيه الاعباء
وفي قصيدته اللامية (204 ابيات) ذكر بعض ما حدث بعد
ولادته، مثل خمود نار فارس، وانجماد نهرهم، واهتزاز صرح ملكهم :
كم آية ظهرت في حين مولده ... به البشائر فيها والتهاويل
ونار فارس أضحت وهي خامدة ... ونهرهم جامد والصرح مشلول
وفي قصيدته المشهورة ب «البردة» تحدث عن مولد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر ان ايوان كسرى تصدع، ونار الفرس خمدت، وبحيرة ساوة غاضت، والشهب انقضت فوق الاصنام، ثم اعقب ذلك حديثا عن المعجزات، فذكر سجود الاشجار للرسول، وسير الغمام أنّى سار لتقيه الهجير، وما صنع الحمام والعنكبوت بالغار، وكان لبس راحته يشفي المريض، وكانت دعوته ترسل بالامطار في السنة المجدبة ...استوعب البوصيري السيرة النبوية، ونقل طرفا كبيرا منها في شعره، وصاغه بأسلوب واضح وميسور كي يسهل فهمه وحفظه وترديده، واضاف الى ما اخذه عن السيرة اخبارا لا تعرف- كما يقول الدكتور زكي مبارك- «متى نشأت عند المسلمين، واغلب الظن انها من وضع القصاص الذين ارادوا ان يصوروا مولد الرسول بالصور التي أثرت عن أنبياء الهنود، وقد اكثر مؤرخو المولد النبوي من هذه الاخبار، وطاف بها جمهور الناظمين في المدائح النبوية» ( المدائح النبوية ص 189. ) . ووجدت «فئة من الناس كانت تحفظ كثيرا من هذه المدائح وتطوف في البلاد تغني بما تحفظ وهي تضرب على العود والقيثارة وغيرهما مما يصلح في هذا المقام، تجمع الصدقات، فلا عيش لها الا من هذا العمل، ولا ربح لها الا من التغني بمدائح الرسول» ( الحروب الصليبية وأثرها في الادب العربي ص 252) . وهكذا تحولت المدائح النبوية عند عدد كبير من الشعراء الى تاريخ منظوم لسيرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتلى في المحافل الدينية، أو مناسبات خاصة تبركا بهذه السيرة العطرة، مثل نجاة من ازمة او خلاص من مصيبة او كارثة، او حالات فرح وابتهاج مثل عودة من حج او زواج او ختان او شفاء من مرض او بناء دار او اعتلاء منصب او نجاح في اختبار.... وقد يكون في ذكرى رجل خير توفى قبل مدة ... ومثال على ذلك قول شهاب الدين محمود بن سليمان الحلبي (ت 725 هـ) من قصيدة عدد ابياتها مئة وواحد وثمانون بيتا ( المجموعة النبهانية 3/ 275- 289، وينظر شهاب الدين محمود الحلبي- حباته وشعره ص 356- 367.) :
حملتك آمنة الحصان فلم تجد ... عب ءا كعبء الحاملات ثقيلا
وولدت مختونا وذلك آية ... لا تقبل التأويل والتعليلا
ورأت لك الاحبار والرهبان في ال ... توراة وصفا طابق الإنجيلا
واستبشروا بك إذ ظهرت وبشّروا ... الّا قليلا حرّفوا ما قيلا
وكذاك بشّرت الهواتف في الرّبى ... بك والكواهن أجملت تفصيلا
والجنّ ترمي بالكواكب بعد ان ... كانت تطيق الى السماء وصولا
وخمود بيت النار من آياتك ال ... لاتي تردّ الطرف عنك كليلا
وكذا بحيرة ساوة غارت وقد ... كانت جوانبها تفوت الميلا
وكذلك الايوان أعظم معجز ... بهر العقول وحيّر المعقولا
لما هوت شرفاته وانشقّ مر ... تجس البناء مشطرا مخذولا
واسترضعتك حليمة فرأت من ال ... بركات ما أغنى أخا وخليلا
وبيمن وجهك صدّ خالقك العدا ... عن بيت كعبته وردّ الفيلا
ومنها:
وأسرّ للعمّ الشفيق بأنّ لاب ... ن أخيك شأنا في الوجود جليلا
فاحذر عليه من اليهود فإنّهم ... إن يقدروا يوما عليه اغتيلا
ومنها:
وأضاءت الدنيا واشرق نورها ... وبدا الهدى وغدا الضلال ضئيلا
وأتاك بالوحي الامين وانت في ... اقصى حرا متبتلا تبتيلا
فوعيت ما أوحى وقد ألقى به ... قولا من الذكر الحكيم ثقيلا
نورا كأنّ بكلّ قلب حله ... لضياء باطنه به قنديلا
عجز الورى عنه فما اسطاعوا له ... حاشاه تشبيها ولا تمثيلا
وتتواصل ابيات القصيدة في الحديث عن ولادة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وما ورد له من ذكر في التوراة والانجيل، ويأتي على بعض علامات نبوته التي مر ذكرها عند البوصيري، وهي خمود نار فارس، وانحسار الماء عن بحيرة ، وانكسار ايوان كسرى ... وينتقل الى رضاعته والبركة التي انهالت على حليمة السعدية، ونشأته، ونبوته، ومعجزاته، وجهاده، ومواقفه مع المشركين واليهود. إن هذا الشاعر لم يضف شيئا جديدا على ما ورد في شعر البوصيري، ولم يرق الى لغته وتفصيله وطريقة عرضه للسيرة النبوية. لقد كان حديث المعجزات جزءا رئيسا من مادة المديح النبوي في كثير من القصائد، حتى ان عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف (ت 695 هـ) سماها في احدى مدائحه بالخوارق ( فوات الوفيات 2/ 281. ) :
هل جاء قبلك مرسل بخوارق ... الا وجئت بمثله أو أزيد
فخوارق النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فاقت- في نظره- خوارق اخوانه الانبياء وتجاوزت عليهم. ويسميها محمد بن محمد بن عيسى الشيباني (ت 707 هـ) بالبراهين بعد ان ساق عددا منها في قصيدة له ( الطالع السعيد ص 617) .

عجبت لمن يتعامى عن ال ... براهين وهي من الشمس أجلى
ومما يلاحظ ان الحروب الصليبية ولدت صراعا عنيفا بين المسلمين وخصومهم، وتجلى اثر ذلك في الشعر الذي خصص لمدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، اذ نجد فيه ردا عليهم ومناقشتهم ودحض آرائهم وتسفيه احلامهم واقامة الحجة عليهم . ومن جانب آخر نجد بعض الشعراء يتخذ من المدائح النبوية ذريعة للتحدث عن حال العرب بعد ان استبد الاعاجم بمقاليد الامور وسيطروا على مرافق الحياة الهامة، من ذلك ما قاله شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان المعروف بالشاب الظريف :
أرض الاحبّة من سفح ومن كثب ... سقاك منهمر الانواء من كثب
ولا عدت أهلك النائين من نفس ال ... صّبا تحية عانى القلب مكتئب
قوم هم العرب المحميّ جارهم ... فلا رعى الله إلّا أوجه العرب
أعزّ عندي من سمعي ومن بصري ... ومن فؤادي ومن اهلي ومن نشبي
لهم عليّ حقوق مذ عرفتهم ... كأنني بين أم منهم وأب
ان كان أحسن ما في الشعر اكذبه ... فحسن شعري فيهم غير ذي كذب
يا ساكني طيبة الفيحاء هل زمن ... يدني المحبّ لنيل السؤل والأرب
أرض مع الله عين الشمس تحرسها ... فان تغب حرستها أعين الشّهب
وكان صوت جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري من اعلى الاصوات الشعرية في التحذير من الاعاجم ولا سيما التتر؛ فانه اتخذ من المديح النبوي منبرا للمناداة بالتهيؤ الى مواجهتهم واعداد العدة لا فشال نواياهم في احتلال ديار المسلمين وضربهم بقسوة كي يتوبوا من تحركاتهم، فها هو ذا يستنجد بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ويقول :
فأعنّا عليهم وأغثنا ... غوث نصر على الطغاة اللئام
سل لنا الله ذا المعارج نصرا ... دائرا فيهم بكأس الحمام
وثباتا كيوم بدر لأقدا ... م جنود لنا ذوي إقدام
قل الهي ثبت قلوب رجال ... عن حريم الاسلام أضحت تحامي
واقذف الرّعب في قلوب عداهم ... وارمهم بالشتات بعد التئام
وكان يخاف على بغداد ويسميها «بيضة الاسلام» لمكانتها في قلوب الناس، واحتضانها العلماء والصالحين ويدعو الله ان يصونها من كيد الاعداء وحقد الخبثاء فيقول :
وفتنة التتر العظمى التي قرحت ... منها لوقعها الأحشاء والكبد
أودت بمن حولنا فتكا وليس لنا ... الا وعدك الميمون مستند
لا تستبيح من الاسلام بيضته ... يد العدا وإن اعتدوا وان حشدوا
ان دعاءه لحفظ بيضة الاسلام من الطغاة البغاة لم ينقطع من مدائحه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ألذي أسر جوارحه ولهج بذكره طوال حياته، فهو يقول :
محمد خير مبعوث بمرحمة ... من خير بيت عليه أجمع العرب
وداره بيضة الاسلام ليس لها ... بوعده من جميع الناس منتهب
ونحن أمته ما صدّنا رهب ... عنه ولا غالنا عن حبه رغب
فليخسأ التتر الطاغون من فئة ... لها الصّغار وذلّ القهر والعطب
وبقي يدعو في مدائحه النبوية الى الحيطة والحذر والتهيؤ لملاقاة الطامعين في ديار المسلمين، ولم يسكت الى يوم استشهاده في حوادث بغداد الدامية سنة 656 للهجرة، فمن استشفاعه برسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوله :
يا سيّد البشر المختار من مضر ... يا جار مضطهد ضاقت به الحيل
أجب نداء شج مستصرخ قلق ... من فتنة أمعنت انيابها العصل
البر من رعبها والبحر منزعج ... والحرث والخيل والانعام والخول «101»
فاسأل لنا الله نصرا قاهرا لهم ... مثبتا لقلوب شفّها الوجل
ومن الاشياء البارزة التي يلاحظها القارىء في بعض المدائح النبوية، ولا سيما في البيئات الصوفية، فكرة الحقيقة المحمدية او النور المحمدي، اذ جعل كثير من هؤلاء الصوفية «مخبة الرسول جزءا من محبة الذات الالهية، بل ان محبتهما واحدة، وحقيقتهما واحدة، فلا فريق بين الحقيقة المحمدية والحقيقة الالهية التي تمثلت في الانبياء وتتمثل في اقطاب الصوفية من بعدهم، ولعل متصوفا لم يتغنّى بأزلية الوجود المحمدي كما تغنى ابن عربي الصوفي المشهور» ( فصول في الشعر ونقده ص 232. ) ، وكذلك جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري، مثل قوله في احدى نبوياته :
لما بنى الله السماوات العلى ... سبعا تعالى الله أكرم باني
فسمت وزانتها بحكمة صنعه ... ز هو النجوم وزانها القمران
والارض سبعا مدّها فتذللت ... وتزيّنت ببدائع الالوان
ورست عليها الشامخات بإذنه ... فحمت جوانبها من الميدان
وأتمّ خلق العرش خلقا باهرا ... فغدا من الاجلال ذا رجحان
كتب الاله اسم النبي محمد ... فوق القوائم منه والاركان
فسرى السكون به وقد كتب اسمه ... في جنّة المأوى على الاغصان
وخيامها وقبابها وعلى مصا ... ريع القصور تفضّل المنان
فلذاك آدم حين تاب دعا به ... متوسلا فأجيب بالغفران
لولاه لم يخلق أبونا آدم ... وجحيم نار او نعيم جنان
قد كان آدم طينة ومحمد ... يدعى نبيا عند ذي الاحسان
لقد اسرت الحقيقة المحمدية او النور المحمدي قلوب كثير من الشعراء المتصوفة وجعلتهم يذكرونها في قصائدهم التي نظموها في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم، منهم جمال الدين محمد بن ابي بكر بن رشيد البغدادي الوتري (ت 662 هـ) الذي خصص جلّ شعره لبيان عظمة خاتم الانبياء والمرسلين وفضله على البشرية في انقاذهم من الضلالة والاوهام وجعلهم خير أمة أخرجت للناس. وابراهيم بن أبي المجد الهاشمي المعروف بسيدي ابراهيم الدسوقي (ت 676 هـ) ، واحمد بن علي المشهور بالسيد البدوي (ت 675 هـ) ، وضياء الدين علي بن محمد بن يوسف الخزرجي (ت 686 هـ) ... وقد بالغ بعض الشعراء في الحقيقة المحمدية ونسجوا حولها كثيرا من التهويلات، مثل قولهم: لولاه ما ظهر شمس ولا قمر ولا نجوم ولا أنهار ولا ثمار ولا بدر ولا جبال وغير ذلك ... مثل قول ابن نباتة المصري :
لولاه ما كان أرض لا ولا أفق ... ولا زمان ولا خلق ولا جيل
ولا مناسك فيها للهدى شهب ... ولا ديار بها للوحي تنزيل
ومثل قول ابن الساعاتي (ت 606 هـ) من قصيدة له في مدح
الرسول صلّى الله عليه وسلّم :
لولاه لم تك شمس لا، ولا قمر ... ولا الفرات وجاراها ولا النيل
ولم يجب آدم في حال دعوته ... نعم ولم يك قابيل وهابيل
ويرى شرف الدين البوصيري ان محمدا صلّى الله عليه وسلّم دان الانبياء قبل ان يخلق ( تنظر تفاصيل ذلك في (التصوف الاسلامي) لزكي مبارك 1/ 268. ) :
وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم
فإنه شمس فضل هم كواكبها ... يطهرن أنوارها للناس في الظلم
فهذا الغلو لا يفهم الا اذا عرفنا انه يرجع الى اصل من أصول التصوف، وهو القول ب «الحقيقة المحمدية» ، اذ كان تمجيد عدد من المتصوفة البالغ للرسول اساسا في تمجيدهم وفنائهم في الخالق الاعظم ( وفيات الاعيان 1/ 169.) . إن حب الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والهيام بذكره، وزيارة ضريحه، والتعطر بأريجه، والتعبد في جواره، والتهجد في ظلاله، كانت الامنية الكبرى لكل مسلم مؤمن، وقد احسن ابو العباس احمد بن محمد المعروف بابن العريف (ت 536 هـ) وصف اولئك الذين شدوا الرحال وازجوا المطي وتوجهوا في سفرهم الى زيارة نبيهم وحبيبهم محمد صلّى الله عليه وسلّم:
شدّوا المطيّ وقد نالوا المنى بمنى ... وكلّهم بأليم الشوق قد باحا
سارت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا
نسيم قبر النبيّ المصطفى لهم ... روح اذا شربوا من ذكره راحا
يا واصلين الى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا
وقفنا من خلال عرضنا السابق على المضامين والمعاني التي احتوتها القصائد، وننتقل الان الى خواتيمها وابرز ما حفلت بها من المعاني.
بعد ان رانت الاحزان والآلام في عصر الحروب الصليبية، وثقلت وطأتها، على القلوب، وعجز المسلمون في كثير من الاحيان دفع الضر الذي أناخ بكلكله عليهم، التجأوا الى رسولهم وملاذهم محمد صلّى الله عليه وسلّم، متضرعين ان يزيل هذا الضر، ويعمهم برحمته، وينزل عليهم صيبا من نعمائه، ويغفر عن ذنوبهم وزلاتهم وما اقترفت السنتهم من سوء وما قدمت ايديهم من قبيح الاعمال وشائن الافعال.. فها هو ذا جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري يتوجه الى نبيه ان يكون شفيعا له عند الله في رفع الخطب الثقيل الموجع عنه وان يجعله واهله واولاده وقرابته في أمن وايمان وعافية ويجنبهم من كل سوء وأذى :
يا سيدي يا رسول الله يا سندي ... في كلّ خطب ثقيل موجع الالم
أنا المقرّ بذنبي قد قصدتك كي ... تستوهب الله لي ذنبي ومجترمي
فاستغفر الله لي يا من اذا نزلت ... بي شدّة فيه أنجو من النّقم
واقبل تضرّع عبد واثق بك في ... دفع الخطوب العوادي عنه معتصم
واسأل لأهلي وأولادي وذي سبب ... به وصلت واخواني وذي رحم
أمنا وصونا وإيمانا وعافية ... من كلّ سوء وبشرى عند مختتم
عليك من صلوات الله أطيبها ... تبقى بقاء نعيم غير منصرم
ويستغيث شمس الدين محمد بن عفيف الدين سليمان المعروف بالشاب الظريف بشفيع الورى محمد صلّى الله عليه وسلّم ان يخلصه من ذنوبه التي تعاظمت (السمو الروحي في الادب الصوفي ص 336.) :
فيا خاتم الرّسل الكرام ومن به ... لنا من مهولات الذنوب تخلّص
أغثنا، أجرنا من ذنوب تعاظمت ... فأنت شفيع للورى ومخلّص
ويتأمل ابو محمد فتيان بن علي الاسدي الشاغوري (ت 615 هـ) من خير الانام شفاعة يكسب بها نعيم الخلد وظله الوارف :
أؤمّل من خير الانام شفاعة ... بها في نعيم بالجنان أخلّد
فأنت رسول الله وهي شهادة ... أقرّ بها حتى المعاد وأشهدوقصد كمال الدين ابن الزملكاني (ت 727 هـ) الرسول صلّى الله عليه وسلّم كي يخفف عن نفسه هم الذنوب التي اصبحت لا تفارقه، ويسأله العصمة فيما بقي من عمره، ونعمة كافية تقيه ذلّ السؤال ( فوات الوفيات 4/ 9.) :
يا أفضل الرّسل يا مولى الانام ويا ... خير الخلائق من انس وأملاك
ها قد قصدتك أشكو بعض ما صنعت ... بي الذنوب وهذا ملجأ الشاكي
قد قيّدتني ذنوب عن بلوغ مدى ... قصدي الى الفوز منها فهي أشراكي
فاستغفر الله لي واسأله عصمته ... فيما بقي وغنى من غير امساك
عليك من ربك الله الصلاة كما ... منا عليك السلام الطيب الزاكي
وغلب على شعر المتصوفة الذين كثر عددهم في عصر الحروب الصليبية وازدحمت بهم التكايا والزوايا هذا الطابع، وهو البكاء من ثقل الخطايا والاوزار وطلب الصفح والعفو والمغفرة، كما يلاحظ في شعر احد الصوفية الكبار، الشيخ الفقيه ابي الحسن علي بن عبد الله الششتري (ت 668 هـ) الذي تميز بالسهولة والليونة والانحدار أحيانا نحو العامية ولا سيما أراجيزه وأزجاله التي غطت على جزء كبير من ديوانه، مثل قوله في القطعة الآتية وقد جاءت في مقدمتها : «الابيات الثلاثة الاولى معروفة في التاريخ الاسلامي، أنشدها الانصار في حضرة النور الاعظم محمد بن عبد الله حين اشرف على المدينة يوم الهجرة الاولى، واستعارها الششتري هنا واضاف اليها، ويتوارثها شاذلية دمياط حتى الان ينشدونها في حضرتهم:
أقبل البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع
أيّها المبعوث فينا ... جئت بالامر المطاع
أقبل البدر علينا ... واختفت منه البدور
مثل حسنك ما رأينا ... قطّ يا وجه السرور
أنت شمس انت بدر ... انت نور فوق نور
أنت إكسير وغالي ... أنت مفتاح الصدور
ما رأينا النوق حنّت ... في الدّجى الا اليك
والغمامة قد اظلت ... والقمر سلم عليك
وأتاك الجذع يبكي ... وتذلل بين يديك
واستجار يا حبيبي ... عندك الظبي النفوز
ومما يلاحظ في خواتيم كثير من القصائد ابيات مخصصة للصلاة والتسليم على النبي الهادي البشير صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله واصحابه الغر الميامين، مثل قول جلال الدين محمد بن احمد بن عبد الرحمن الكندي (ت 711 هـ) في خاتمة قصيدة له في المديح النبوي ( الطالع السعيد ص 493. ) :
فبمن عليك صلاته وسلامه ... ولديك منه الرّوح والريحان
لا تنسنا من فضل جاهك عندما ... تطوى السماء وينشر الديوان
صلى عليك الله ما هطل الحيا ... وسرى النسيم ومالت الاغصان
وعلى صحابتك الذين أتاهم ... من ذي الجلال النصر والرضوان
وقول تاج الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب المعروف بابن بنت الاعز (ت 695 هـ) في خاتمة قصيدة نظمها بعد ان قضى فريضة الحج وزار مدينة النبي صلّى الله عليه وسلّم وانشدها بها ( فوات الوفيات 2/ 281. ) :
صلوات ربك والسلام عليك ما ... حييت من متوجه متعبد
وعلى صحابتك الكرام وآلك ال ... برءاء من قول الجهول المفسد
وعلى ضجيعيك اللذين تشرفا ... بالقرب منك بمقعد وبمرقد
لقد وقف كثير من الشعراء ( ينظر: السمو الروحي في الادب الصوفي 278، 283، 284، 286، 287، 298، 302، 347.) ، وبقلوب خاشعة، ونفوس هائمة، بباب رسولهم مصلين عليه، ومسترحمين وطالبين ان يفرج عنهم، كما يقول محمد بن محمد بن عيسى الشيباني (ت 707 هـ) في خاتمة قصيدة طويلة ( الطالع السعيد ص 618. ) :
وقفنا ببابك نشكو إليك ... من الكرب والكرب قد عمّ كلّا
وأنّى نظرت لنا نظرة ... تلاشى بها كربنا واضمحلا
فلا تتخلّ عن المذنبين ... اذا المرء عن والديه تخلّى
وصلّى عليك الغفور الرحيم ... وسلّم ما صام عبد وصلّى
وهكذا حظيت المدائح النبوية في عصر الحروب الصليبية باهتمام كبير من عامة المسلمين، وعدّوها احدى الوسائل التي تنجيهم من المصائب والويلات والكروب، وتدفع عنهم أذى الجائرين وسطوتهم، وتخلصهم من نكد الدنيا، وتوسع لهم في الرزق والمعاش، وتغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وآثامهم وما تأخر، وتجلب لهم رضى الله ورحمته، وتدخلهم فسيح جنته.. وقد تميزت هذه المدائح بحرارة العاطفة، وصدق التعبير، وعذوبة الالفاظ، والبعد عن التعقيد والاغراب.. وتجدر الاشارة الى ان المدائح النبوية كانت تقرأ في حلقات الذكر عند المتصوفة ويغلب على اسلوبها البساطة واليسر، والتجاوز احيانا عن الفصاحة والجزالة كما يلاحظ في شعر الصوفي الكبير ابي الحسن الششتري، أو الالتجاء الى لغة دارجة او متحررة من قواعد الاعراب وقوانين الشعر كما قال ابن حجر العسقلاني في احد الشعراء: «كان ابن البصيص- توفي سنة 716- ينظم نظما عاريا من الاعراب على طريقة الصوفية» ( الدرر الكامنة 4/ 377، الادب في العصر المملوكي 1/ 232) . وهكذا ........تمتد جذور المديح النبوي الى عصر خاتم الانبياء محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم، حيث وقف عدد من الشعراء الى جانبه مادحين ومدافعين وذاكرين فضله وعظمة الرسالة الاسلامية التي بعثه الله بها هداية للعالمين، ولما انتقل الى الرفيق الاعلى بقي ذكره يتردد دوما على السنة عامة المسلمين في عباداتهم وصلواتهم وايام اعيادهم الدينية ومناسبات افراحهم وأحزانهم.. مسترحمين ومتوسلين ان يكون شفيعا لهم عند الله، فاتحا لهم سبحانه وتعالى أبواب رحمته الواسعة في الدنيا والآخرة. وكان المسلمون مطمئنين على انفسهم ودينهم وديارهم؛ لانهم كانوا في حرز وتحت حماية قوية من أولي الامر والحاكمين المقتدرين.. ولكن الحالة تغيرت بعد ان دب الضعف في مكانة هؤلاء الحاكمين وقلت هيبتهم، اذ بدأت قوى البغي والعدوان تتحرك ولا سيما في القرنين السادس والسابع الهجريان، وأخذت أسرابهم تتوالى من الغرب والشرق في اجتياح الديار الاسلامية، وقتل الناس الامنين، او سلب اموالهم وطردهم من بيوتهم، وإهانة دينهم ومعتقداتهم ... وما كان للمسلمين ملاذ
إلا الله والرسول صلّى الله عليه وسلّم ليحميهم من البلاء ويقيم شرّ الباغين الدخلاء الذين داهموا الناس وارعبوهم وهددوا كيانهم ووجودهم، ولا عجب في قول عمارة بن عقيل اليمني (569 هـ) حين ارجف الناس بقصد الفرنج ارض المسلمين ( كتاب النكت العصرية ص 189. ) :
يا ربّ اني أرى مصرا قد انتبهت ... لها عيون الاعادي بعد رقدتها
فاجعل بها ملة الاسلام باقية ... واحرص عقود الهدى من حلّ عقدتها
وهب لنا منك عونا نستجير به ... من فتنة يتلظى جمر وقدتها
وقول جمال الدين يحيى بن يوسف الصّرصري من قصيدة في مدح الرسول الأمين صلّى الله عليه وسلّم :
في كلّ عام لنا خوف يقلّقنا ... من خصم سوء كستنا رعبه كمدا
وما لنا ملجأ مما نحاذره ... ولا نصيب لنا في الروع ملتحدا
الا الى جاهك المبسوط لاعدمت ... أتباعك الغرّ منه النصر والمددا
فأنت أعظم كل الناس منزلة ... ولم يخب من على إحسانك اعتمدا
ان فقدان الامان، وزيادة الرعب من الطامعين الطارئين، وكثرة الخوف على المقدسات، والخشية من الفقر والعوز، كلها اسباب في الوقوف بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم والتوسل به في الخلاص من القلق الذي انتاب المسلمين آنذاك وتطمين ما تحمله نفوسهم المكدودة من آلام وآمال.. وثمة شعراء نظموا قصائد في مدح الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبينين فيها ندمهم على ما اقترفوا من ذنوب وآثام، وعلى ما فرطوا في حق انفسهم ودينهم، ضارعين وطالبين ان يكون رسولهم شفيعا لهم عند ربهم من عقابه وغضبه..





المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)[/align][/SIZE]