نهضة النثر في عصر الأيوبيين:
لا نكاد نتقدم في النصف الثاني من القرن السادس الهجري، حتى يقوم الخلاف العنيف بين شاور وضرغام وزيري العاضد، وسرعان ما تتأجج نيران الحروب بينهما، فيستعين شاور بنور الدين صاحب حلب، وهو أكبر شخصية حينئذ كانت تعني بحرب الصليبيين، ودفع موجاتهم إلى البحر المتوسط وما وراءه، وحدث أن ضرغامًا استعان بهم ضد خصمه، فخشي نور الدين أن يستولي الصليبيون على مصر، وأن يندفعوا منها إلى الاستيلاء على العالم العربي، لذلك أرسل إلى شاور بنجدة كبيرة، على رأسها أحد قواده، وهو أسد الدين شيركوه، وجاء أسد الدين إلى مصر، ومعه ابن أخيه صلاح الدين، فهزم الصليبيين، ورد الأمر إلى شاور إلا أنه قتل، فحل محله أسد الدين في وزارة العاضد، ولكن الموت عاجله، حينئذ نرى صلاح الدين يتولى الوزارة مكان عمه، وينبهم الموقف فالخليفة شيعي، ووزيرها سني، وهو يتبعه من جهة، كما يتبع نور الدين من جهة أخرى، ويرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن ينقل الخطبة في المسجد الجامع إلى الخليفة العباسي، ويقضي على نظام الحكم الشيعي، فيصدع صلاح الدين بالأمر، وينفذ مشيئة نور الدين، ثم تخدم الظروف صلاح الدين، فإذا نور الدين يتوفى بعد قليل، فيستقل هو بمصر، بل نراه يذهب إلى الشام، فيستولي على ممتلكات نور الدين، حتى يوحد العالم الإسلامي أمام الصليبيين، ويستمر فيستولي على أجزاء من الموصل، كما يستولي على بلاد العرب، ويؤسس في مصر دولة عظيمة هي الدولة الأيوبية، التي كان أصحابها يلقبون أنفسهم بالملوك. كانت الدولة الأيوبية دولة سنية، لذلك أخذت تناهض التشيع الفاطمي، ومظاهره في مصر، واتخذت لذلك طريقة منظمة هي إنشاء المدارس، والمعاهد السنية، وقد بدأ صلاح الدين هذه الحركة، فأنشأ طائفة من المدارس كي يدعم الدعوة السنية، يقول ابن خلكان: "لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية، لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية، كان مذهبها مذهب الإمامية، فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمل في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبنى مدرسة بالقاهرة في جوار المشهد المنسوب إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، وجعل عليها وقفًا كبيرًا، وجعل دار سعيد السعداء خادم الفاطميين خانقاه، ووقف عليها وقفًا طويلًا، وجعل دار عباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي، والعادل ابن السلار مدرسة للحنفية، وعليها وقف جيد كبير أيضًا، والمدرسة التي بمصر المعروفة بزين التجار وقفًا على الشافعية، وقفها جيد أيضًا"1، وكما عني صلاح الدين بمحاربة التشيع في مصر، عني أيضًا بمحاربة التفلسف عناية شديدة، يقول القاضي ابن شداد في سيرته: "كان مبغضًا لكتب الفلاسفة أرباب المنطق ومن يعاند الشريعة، ولما بلغه عن السهروردي ما بلغه أمر ولده الملك الظاهر بقتله"1، وأكبر الظن أن لصلاح الدين يدًا في ضعف الحركة الفلسفية بمصر منذ عصره، فقد تبعه العلماء يعنون بالدراسات الدينية، والتاريخية واللغوية، مهملين للدرسات الفلسفية، واستمر ذلك طوال العصر الأيوبي وعصر المماليك أيضًا، يقول بهاء الدين السبكي، وهو من علماء عصر المماليك: "إن أهل مصر صرفوا همهم إلى علوم اللغة، والنحو والفقه، والحديث وتفسير القرآن بخلاف أهل المشرق، الذين استوفوا هممهم الشامخة في تحصيل العلوم العقيلة والمنطق"2، ومعنى ذلك أن مصر استمرت مطبوعة بالطابع، الذي كان أراده لها صلاح الدين، حتى عصر المماليك وبعد عصرهم أيضا، وكأنما إعجاب المصريين بصلاح الدين، وحروبه الصليبية جعلهم يقتدون بسيرته في حياته العقلية. ومن يرجع إلى سيرة مدلوك الدولة الأيوبية بعد صلاح الدين، يجدهم يهتمون اهتمامًا بالغًا بالدراسات السنية، وخاصة دراسة الحديث، ومما يروى بصدد ذلك أن ابنه العزيز الذي خلفه على مصر، سمع الحديث من الحافظ السلفي، والفقيه أبي طاهر بن عوف الزهري، وأبي محمد بن بري النحوي وغيرهم3، وكان عمه العادل الذي ولي مصر بعده معنيًا بأرباب السنة، صنف له فخر لدين الرازي كتاب تأسيس التقديس، وذكر اسمه في خطبته، وسيره إليه من بلاد خراسان4، وكان الكامل ابنه يحب العلماء، والأماثل ويلقي عليهم المشكلات5، وكان محبًا للحديث وأهله، حريصًا على حفظه ونقله، وللعلم عنده شرف، خرج له أبو القاسم بن الصفراوي أربعين حديثًا، وسمعها جماعة ويقولون: إن ابن بري وغيره أجازوا له رواية الحديث6، وقد بنى مدرسة عرفت باسم دار الحديث الكاملية، وهي ثاني دارع عملت للحديث، أما أول
دار فهي الدار التي أسسها نور الدين بدمشق1، نستمر حتى نلتقي بالملك الصالح، نجم الدين أيوب فنراه يبني المدرسة الصالحية، وكانت تدرس فيها المذاهب الأربعة2، وما من ريب أن في ذلك كله يدل عن أن الأيوبيين بعثوا في مصر اهتمامًا واسعًا بالدراسات الدينية. وإذ تركنا الدرسات الدينية إلى الكتابة الأدبية، وجدنا الأيوبيين يجنون في عصرهم ثمار النهضة الفنية، التي رأيناها في العصر الفاطمي، وقد ظفروا فيما ظفروا من هذه الثمار بالقاضي الفاضل، أحد كتاب دواوين العصر الفاطمي، وقربه منه صلاح الدين، واتخذه وزيره وكاتبه، وكنا أبلغ كتاب عصره، فدفع الصعر الأيوبي كله من ورائه في دوائر نماذجه، وما أتاحه لهذه النماذج من صفات أدبيه، وأعانته في ذلك شخصية كبيرة أتت من المشرق، هي شخصية عماد الدين الأصبهاني، الذي نشأ بأصبهان، ثم قدم بغداد وتخرج في المدرسة النظامية، ولما تخرج فيها خدم الوزير، يحيى بن هبيرة ببغداد، ثم انتقل إلى دمشق وسلطانها يومئذ نور الدين، فألحقه بديوان الإنشاء، وتعرف أثناء ذلك بصلاح الدين، وقامت بينهما مودة وثيقة، ولما أنشأ نور الدين المدرسة النورية في دمشق أسندها إليه، واستمر في هذا العمل حتى توفي نور الدين، فانتقل إلى صلاح الدين وتعلق به، ومدحه كثيرًا كما مدح القاضي الفاضل، رجاء أن ينظمه في سلك سلطانه، وعمل القاضي الفاضل على ذلك، فقربه من صلاح الدين، وأصبح الكاتب الثاني في الدولة الصلاحية بعد القاضي الفاضل، وكان العماد أديبًا كبيرًا، وله ديوان شعر ورسائل كثيرة، كما أن له الكتاب المشهور: "الفيح القسي في الفتح القدسي"، يصف فيه فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين، وأيضًا له الخريدة، وهو ينهج في كتاباته نهج أصحاب التصنع في عصره، وقد كان القاضي الفاضل يذهب غالبًا هذا المذهب مستنا في ذلك بكتاب العصر الفاطمي، وعلى رأسهم ابن الشخباء، فتآلف الكاتبان فنيًا كما تآلفا اجتماعيًا، ولعل مما يثبت عناية بالتصنيع ما يروى من أن العماد لقي القاضي الفاضل يومًا وهو راكب على فرس، فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له القاضي الفاضل توًّا: دام علا العماد1، وأكبر الظن أن القارئ لا يزال يذكر ما مر بنا عند الحريري، مما كان يسميه "ما لا يستحيل بالانعكاس"، وكان الحريري يأتي به ليدل على مقدرته البالغة، وها نحن الآن في مصر بعد الحريري بنحو نصف قرن، نقرأ في آثار مشاهير الكتاب، فإذا هم يتجهون نفس الوجهة من الإطراف بغرائب العبارات، وهو إطراف لا يأتي من المعنى، وإنما يأتي من الشكل الخارجي، إذ يستطيع الأديب أن يستخدم عقدة من عقد التعبير، وهو غالبًا لا يأتي بعقد جديدة، وإنما يستخدم بعض العقد السابقة، فإذا القاضي والعماد جميعًا يعمدان في جملتين إلى استخدام "ما لا يستحيل بالانكاس"، فيهما حتى يدلًا على مقدرتهما وبراعتهما، وأنهما يستطيعان أن يأتيا بعبارات تقرأ طردًا وعكسًا، والغريب أن العماد مع أنه جاء من المشرق موطن التصنع، لم يستطع أن يتفوق على القاضي الفاضل، الذي تخرج في ديوان الفاطميين، وهذا نفسه دليل واضح على أن هذا الديوان ارتقت فيه الكتابة في العصر المتأخر رقيًا، لا يقل عن رقيها في المشرق. ومهما يكن فإن القاضي الفاضل كان أستاذ عصره غير منازع، وشهد له ابن خلكان بذلك، إذ وازن بين كتبه في فتح بيت المقدس وما كتبه العماد وغيره، فقال: "إنه رئيس هذا الفن، وإذا شرع في شيء من هذا الباب، لا يستطيع أحد أن يجاريه ولا يباريه"2، ومن أجل ذلك سنقف عنده لنتبين نهضة الكتابة الفنية في العصر الأيوبي، وما امتازت به من خصائص أدبية، وهي خصائص استمرت تخضع لها الأجيال التالية خضوعًا شديدًا.


المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)