الحالة الثقافية والأدبية في مصر في العصر العثماني
كانت القرون الثلاثة التي سيطر فيها الحكم التركي على مصر، قد عملت عملها في إغماض العيون، وتكبيل العقول، وعقل الإرادات، وعقد الألسنة. فقد فرض الأتراك على البلاد نوعا من الاحتلال هو في حقيقته محاولة لقتل البلاد ماديًا وأدبيًا، وذلك أن احتلالهم قد عمل على امتصاص كل خيرات الشعب، ومصادرة جميع موارده، وسجن أروع قدراته، وتعويق أعظم ملكاته. وفي سبيل تنفيذ ذلك قد نقل الأتراك من مصر -أول احتلالهم- كثيرًا من العلماء والفنانين، وعديدًا من الكتب والنفائس ( بدائع الزهور لابن إياس، وتاريخ الحركة القومية لعبد الرحمن الرافعي جـ1 ص42-43.) ، ثم تركوا الدواوين، وجعلوا أهم الرياسات والأعمال الإدارية في أيدي الأتراك، وأذنابهم من المماليك، ثم أكثروا من فرض الضرائب، وأهملوا كل إصلاح، ولم يوجهوا أية رعاية إلى التعليم، حتى لقد أغلقت المدارس بل هدمت وانتبهت ،( تاريخ الحركة القومية للرافعي جـ1، والخطط التوفيقية لعلي مبارك جـ1 ص87.) ، وكانت النتيجة أن انطفأت شعلة الحياة العلمية في البلاد، إلا وميضًا ينبعث من الأزهر، الذي ظل الملاذ لما بقي من علوم الدين واللغة، وإن كان يعاني في تلك الآونة كثيرًا من الجمود، ككل مظاهر الحية في ذلك العهد المظلم ، وكانت قد نسيت العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية، بل أهمل كل تطوير أو ابتكار في الدراسات اللغوية والشرعية، وأصبح كل النشاط ترديدًا للقديم البالي، ومحاولة من البعض لعلم حواشي وتقريرات، كما فعل الصبان في حاشيته على الأشموني، والزبيدي في تاج العروس... كذلك تعطلت الحركة الأدبية بل تحجرت، وانحرفت اللغة العربية بل فسدت، فكثر فيها التركي والعامي، وحادت عن قواعد الإعراب، وابتعدت عن سلامة التركيب العربي الأصيل ، ومن يقرأ على سبيل المثال: بدائع الزهور وعجائب الدهور لابن إياس، وعجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي يدرك ذلك ، فالأول يمثل صدر العصر التركي، والثاني يمثل آخره، وكلاهما يكتب بلغة تبعد كثيرًا عن الاستقامة، مما يصور فساد اللغة طيلة هذا العهد المظلم. ومن هنا أصبح الأدب في حالة من السقم تقارب الموت ... فكانت تمثله نماذج نثرية وشعرية هزلية، ليس من وراءها أي صدق إحساس أو فنية تعبير، بل ليس من وراءها حتى تقليد لتلك النماذج الرائعة، من أدبنا في عصور الازدهار، وإنما هي نماذج شاحبة مفتعلة غالبًا، تغطي ركاكتها في أكثر الأحيان ألوان من البديع، كثيرًا ما تبدو كأكفان ذات ألوان وتطاريز، تلف أجداثًا وعظامًا نخرة. وقد كان أغلب النتاج الأدبي لتلك الفترة، يدور حول الأمداح النبوية، والأمور الإخوانية، والمراثي الباردة، والمواعظ المباشرة، وتسجيل بعض الأحداث في لغة سقيمة، على أن الروح المصرية وبعض ومضاتها الفنية كانت تلوح في بعض النماذج الفصحى حينا، وتنفس عن نفسها عن طريق الأدب الشعبي أحيانًا. وكان هذا الأدب الشعبي ممثلًا في الموال، والأغنية. والسيرة الشعبية، التي كان منها الديني كسيرة السيد البدوي، أو سيرة سيدي إبراهيم الدسوقي أو قصة سيدنا علي ورأس الغول، كما كان منها التاريخي البطولي مثل أبي زيد الهلالي، وعنترة والظاهر بيبرس، وسيف بن ذي يزن. بل غلب هذا الاتجاه حتى أصبح لقب الشاعر يطلق عادة على شاعر الربابة، الذي قص تلك الأشعار على الناس في المقاهي والمحافل، وهذا يؤكد أن الروح الفنية عاشت كامنة في ضمير الشعب، تنتظر الجو الملائم للانطلاق الرائع. ويكفي لتصور المستوى العلمي، وما بلغه من تخلف حينذاك، أن نقرأ ما حكاه الجبرتي عن دهشته البالغة هو وبعض إخوانه، خلال زيارتهم لمعمل علمي من معامل الفرنسيين، وحضورهم بعض التجارب هناك، فقد تحدث الجبرتي عن ذلك كله، وكأنه يتحدث عن عمل من أعمال السحر.. يقول الجبرتي في حديثه عن المعمل، وبعض التجارب العلمية التي كان يجريها الفرنسيون: ... وأفردوا مكانًا في بيت حسن كاشف جركس لصناعة الحكمة والطب الكيماوي، ومن غريب ما رأيته في ذلك المكان أن بعض المتقيدين لذلك، أخذ زجاجة من الزجاجات الموضوعة فيها بعض المياه المستخرجة، فصب منها شيئًا في كأس، ثم صب عليها شيئًا من زجاجة أخرى، فعلا الماء، وصعد منه دخان ملون حتى انقطع وجف ما في الكأس، وصار حجرًا أصفر، فقلبه على البرجات حجرًا يابسًا أخذناه بأيدينا ونظرناه، ثم فعل كذلك بمياه أخرى فجمد حجرًا ياقوتيا، ثم أخذ مرة شيئًا قليلًا جدًّا من غبار أبيض، ووضعه على السندال، وضربه بالمطرقة بلطف، فخرج له صوت هائل كصوت القرابانة، انزعجنا منه فضحكوا منا ... ولهم فيه أمور وأحوال، وتراكيب غريبة، ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا (عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص35-36.) ، كذلك يكفي لتصور المستوى اللغوي أن نقرأ بعض ما كتبه ابن إياس ولابن إياس كتابة تقرب من العامية أحيانًا، مثل قوله عن ثورة بعض الجند : ( فصاروا يسبوا ملك الأمراء سبا فاحشًا، وكان سبب ذلك أنه كان لهم ثلاثة أشهر جامكية منكسرة، فنفق عليهم شهرين وتأخر لهم شهرًا واحدًا، فقالوا: ما نسافر حتى ينفق علينا الشهر )، أو الجبرتي، وإن كان الجبرتي يمتاز بكثير من الروح المصرية ذات الومضات الفنية، التي تلوح أحيانًا من خلال التهافت اللغوي، ومن ذلك قوله متحدثأ عن بعض الولاة: ومما اتفق له أن بعض التجار أراد الحج، فجمع ما عنده من الذهبيات والفضيات، واللؤلؤ والجوهر ومصاغ حريمه، ووضعه في صندوق وأودعه عند صاحب له بسوق مرجوش، يسمى الخواجا علي الفيومي، بموجب قائمة أخذها مع مفتاح الصندوق، وسافر إلى الحجاز، وجاور هناك سنة، ورجح مع الحجاج، وحضر إليه أحبابه وأصحابه للسلام عليه، وانتظر صاحبه الحج علي الفيومي فلم يأته، فسأل عنه فقيل له: إنه طيب بخير، فأخذ شيئا من التمر واللبان والليف ووضعه في منديلِ، وذهب إليه ودخل عليه، ووضع بين يديه ذلك المنديل، فقال له: من أنت، فإني لا أعرفك قبل اليوم حتى تهاديني؟ فقال: أنا فلان صاحب الصندوق الأمانة، فجحد معرفته وأنكر ذلك بالكلية، ولم يكن بينه وبين بينة تشهد بذلك، فصار عقل الجوهري، وتحير في أمره، وضاق صدره، فأخبر بعض أصحابه، فقال له: اذهب إلى كجك محمد أوده باشه، فذهب إليه وأخبره بالقصة، فأمره أن يدخل إلى المكان الداخل، ولا يأتي حتى يطلبه، وأرسل إلى الفيوم، فلما حضر إليه بش في وجهه ورحب به وآنسه بالكلام الحلو، ورأى في يده سبحة مرجان فأخذها من يده يقلبها، ويلعب بها ثم قام كأنه يزيل ضرورة، وأعطاها لخادمه وقال له: خذ خادم الخواجا صحبتك، واترك دابته هنا عند بعض الخدم، وذاهب صحبة الخادم إلى بيته، وقف عند باب الحريم وأعطهم السحبة أمارة، وقل لهم: إنه اعترف بالصندوق الأمانة، فلما رأوا الأمارة والخادم، لم يشكوا في صحة ذلك، وعندما رجع كجك محمد إلى مجلسه، قال للخواجا: بلغني أن رجلا جواهرجي أودع عندك صندوقًا أمانة ثم طلبه فأنكرته، فقال: لا وحياة رأسك، ليس له أصل، وكأني اشتبهت عليه، أو أنه خرفان وذهلان، ولا أعرفه قبل ذلك ولا يعرفني، ثم سكتوا، وإذا بتابع الأوده باشه والخادم داخلين بالصندوق على حمار، فوضعوه بين أيديهما، فانتفع وجه الفيومي واصفر لونه، فطلب الأوده باشه صاحب الصندوق، فحضر فقال له: هذا صندوقك؟ قال: نعم، قال له: عندك قائمة بما فيه؟ قال: معي، وأخرجها من جيبه مع المفتاح، فتناولها الكاتب وفتحوا الصندوق، وقابلوا ما فيه على موجب القائمة، فوجدت بالتمام، فقال له: خذ متاعك واذهب، ثم التفت إلى الخواجا الفيومي -وهو ميت في جلده ينتظر ما يفعل به- فقال له: صاحب الأمانة أخذها، إيش جلوسك؟ فقام، ينفض غبار الموت وذهب ( عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص97.) . وأخيرًا يكفي لتصور حال الشعر، وما مني به -في الأعم الأغلب- من هزال وتستر وراء بعض المحسنات، أن نقرأ مثل هذين البيتين لبعض الشعراء في وفاء النيل:
النيل في مصر أوفى ... في توت حادي وعاشر
والناس قد أرخوه ... لله جبر الخواطر
(كما ورد في عجائب الآثار للجبرتي جـ1 ص30.) ، فالشاعر ليس عنده شيء يقوله إلا التاريخ للعام الذي أوفى فيه النيل، وكان عام 1117هـ، وهو ما أجهد الشاعر نفسه -وأجهدنا معه- ليرمز إليه بحروف الشطر الأخير من البيتين ، ولكل حرف من الحروف الهجائية رقم يقابله؛ فالشاعر يأتي بكلمات ذات حروف يؤدي حاصل جمعها إلى الرقم المطلوب، والحروف الهجائية تقابل بالأرقام هكذا:
أب جـ د هـ وز ح ط ي ك ل م ن س ع
ا 2 3 4 5 6 7 8 9 10 20 30 40 50 60 70
ف ص ق ر ش ت ث خ ذ ض ظ غ
80 90 100 200 300 400 500 600 700 800 900 1000
وعلى هذا تكون حروف كلمات الشطر الأخير مقابلة بـ65 + 205+ 847 والمجموع هو 1117. على أن بعض نماذج الشعر كانت تخلو من المحسنات التي في مقدمتها التاريخ، وتأتي مجرد سرد مجانب لأبسط مقومات الشعر، بل غير سالم من الانحراف اللغوي، وإن اشتمل أحيانًا على الروح المصري اللطيف، ومن ذلك قول الشيخ حسن البدوي:
كن جار كلب، وجار الشرة اجتنب ... ولو أخا لك من أمٍ يرى وأبِ
ما جار كلب شكا يومًا بوائقه ... إذا شكا غيره من مصمة الوصب
وجانب الدار إن ضاقت مرافقها ... والمرأة السوء، لو معروفة النسب
ومركبًا شر الأخلاق لا سيما ... إن كان ذا قصر أو أبتر الذنب
أو كان ذا بطء سير، والعمائم ما ... تفاحشت كبرًا تبدو كما القبب
(ما ورد في كعجائب الآثار جـ1 ص75.)



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)