الأدب وحركة الإحياء في الشعر في العهد العثماني
ليس من شك في أن العوامل المختلفة التي نمت الوعي وأنضجته، كانت ذات آثار واضحة في أدب تلك الفترة، كما كان للوعي نفسه أعظم الأثر في خروج الأدب من طور إلى طور، وانتقاله إلى مرحلة جديدة ذات سمات واضحة، فالوسائل السالفة الذكر، قد طوعت اللغة وقومتها إلى حد كبير، ففتحت لها ميادين كانت مغلقة أو مجهولة من قبل، وغذتها بموضوعات وأفكار وقضايا، ووهبتها حياة ومرونة، ومنحتها قابلية للتعبير عن كثير من النواحي الفكرية والوجدانية، كما أن الوعي نفسه قد نفر الواعين من المستوى الذي كان قد وصل إليه الأدب في العصر التركي، وامتد ظله الكئيب إلى الفترة التي تلته، كذلك حمل الواعي على البحث عن التراث، ونفض الغبار عن روائعه، وكان لإحياء التراث على هذا النحو، أثر كبير في إخراج الأدب من عصور الظلمات إلى عصور النور، وسوف يتضح ذلك بتفصيل القول في كل نوع أدبي على حدة.
1- الاتجاه التقليدي، وبعض لمحات التجديد:
لم يكن من الممكن أن يتخلى كل الشعراء عن الطريقة التقليدية، التي غلبت في الفترة السابقة، فقد وجد في هذه الفترة كثير من الشعراء، ممن عاشوا على تراث الفترة السابقة، وتتلمذوا على بقايا العصر التركي، لهذا نجد طائفة منهم لم يؤثر وعي الفترة كثيرًا عليهم، ولم يخرجهم تمامًا عن تقليديتهم فظلوا ينظمون الشعر على تلك الطريقة التقليدية، السائرة في اتجاه الضحالة، والتستر بالمحسنات والألاعيب كثيرًا، والآخذة بشيء من روح الشعر قليلًا.. وقد كان أكثر هؤلاء يتخذون الشعر وسيلة لكسب العيش، ومن هنا التصقوا بالولاة والحكم والرؤساء، مداحين ومجاملين، فكثر في شعرهم المدح الفاتر، وتسجيل المناسبات التافهة، التي تصل إلى التهنئة بمولود أو ختان غلام، ولم يحققوا تطويرًا يذكر في ميدان الشعر، وهكذا جاء شعرهم مترددًا بين جانبي التقليدية. اللذين شهدتهما الفترة السابقة، ممثلين في الشيخ الدرويش والشيخ العطار، أي أن هؤلاء التقليديين من شعراء فترة الوعي، لم يكونوا واقفين شعرهم على المحسنات، والألاعيب الساترة للتهافت، كما لم يكونوا صارفين له إلى محاكاة القديم الجيد، بل كان شعرهم مزيجًا من هذا وذاك على تفاوات في الدرجة بين شاعر وآخر، بل على تفاوات في الدرجة بين قصيدة وأخرى من قصائد الشاعر الواحد. ومن هذه الطائفة من الشعراء التقليديين الخالصين، الشيخ علي أبو النصر، والشيخ علي الليثي. فالشيخ علي أبو النصر مثلًا. ينظم أبياتًا على شكل لغز حول حرف التعريف "أل"، فيقول في بعد تام عن الشعر وحقيقته:
إذا كنت في الآداب سيد من درى ... وفي محكم الألغاز أحسن من يدري
فما كلمة فيها كلام وإنها ... لفي غاية الإشكال يا غرة الدهر
هي الحرف من حرفين واسم بمدة ... كذا الفعل منها لا يغيب عن الفكر
وفي قلبها في الأصل بعض فوائد ... ولكنه لا زال في حيز الهجر
وغايتها بدء لها عند ذي النهى ... وجملتها تأتيك في النظم والنثر
وهو كذلك يتحدث عن مجلس النواب وأعضائه، فلا يشغل نفسه إلا بالتاريخ لدورة من دورات انعقاده، وهو يغالي في إظهار مهارته في هذا التاريخ، فيجعل الشطرة الأولى من كل بيت ترمز بحروفها إلى التاريخ الإفرنجي، وهو سنة 1879، والشطرة الثانية من كل بيت ترمز إلى التاريخ العربي، وهو سنة 1296، وفي ذلك يقول في ركاكة، وتهافت لا تغني عنهما حلية التأريخ:
أعد لي ذكر من وعت الإمارة ... لأجمعهم، وما احتاجت أمارة
منار الفضل إن دعت الدواعي ... سراة الملك أركان الإدارة
لهم في كل ناشئة ثبات ... وتدبير به ازدهت الوزارة
هم البصراء حيث تكون شورى ... لأنواع لهم فيها استشارة
وهو أيضًا يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، فيثقل القصيدة بألوان من الجناس توشك أن تقحم هذه الحلية البديعية بين كل كلمتين، وهذا في تكلف وتعسف يتنافى مع روح الشعر، وفي ذلك يقول:
حادى العيس نحو سربى سربى ... عل يوما ينال فيه العلاء
واحدها وحدها ودعني ووجدي ... إذ لأشجانها يهبج الحداء
وتمسك بطيب طيبة وانزل ... بحمىً تحتمي به الأنبياء
يا حياة النفوس حبك حسبي ... ولدائي العضال نعم الدواء
أولني ما به تلافي تلافي ... أنا ممن له إليك التجاء
إنّ في الظن أن يقيني يقيني ... من لظى، حيث في غد بي يجاء
ثم هو بعد ذلك يقول بعض النماذج القليلة التي لا تعتمد على الألغاز، ولا التأريخ ولا المحسنات مع اشتمالها على روح الشعر، ومن هذه النماذج القليلة قوله يصف كأسًا أهديت إليه:
أهدى الحبيب لمن أحب ... قدحًا تحلى بالذهب
لو أفرغت فيه الطلا ... لأطل ينظره الحبب
قد راق منظر حسنه ... ودعا له داعي الطرب
لما نظرت لشكله ... في رسم تيجان العرب
قبلته وقبلته ... ووعدته بنت العنب
ويمكن أن نرى شبيهًا بكل ذلك، في شعر الشيخ علي الليثي، ومن سار في نفس الطريق من الشعراء التقليديين الخالصين. على أن بعض التجديد قد ظهر كومضات مضيئة خلال أشعار بعض التقليديين، فجاء شعرهم -في جملته- تقليديًّا كسابقيهم، غير أنه امتاز عن شعر أولئك الشيوخ، بأنه لم يكن تقليديا خالصًا، وهذه الطائفة الثانية كانت تتألف من نفر ممن أتيح له قدر من الثقافة الجديدة، أو أتيح لهم حظ من الاتصال بحياة أكثر رحابة وأعظم انفساحًا، ويأتي في طليعة هؤلاء صالح مجدي، الذي عرفناه في أواخر الفترة السابقة يجاري أستاذه رفاعة في نظم القصائد الوطنية، وأولى محاولات الأناشيد الحماسية ؛ فنحن نراه في هذه الفترة -فترة الوعي- يلتفت إلى بعض الموضوعات السياسية والاجتماعية، فيقول فيها شعرًا ناقدًا، يدل على وعي وصدق حس، ومن ذلك حديثه عن تغلغل الأجانب في البلاد واستئثارهم بعديد من مناصبها، واستنزافهم لكثير من مواردها، الأمر الذي تفاقم على عهد إسماعيل، وكان صالح مجدي في مثل هذا الشعر، يعبر عن روح كل مصري وثورته، حيث يقول:
إذ ما زماني بالقنا والقواضب ... علي سطا في مصر سطوة غاضب
حملت على إبطاله ببسالة ... وبددتهم في شرقها والمغارب
ولي معه منذ الفطام وقائع ... بأيسرها تبيض سود الذوائب
ومن عجب في السلم أني بموطني ... أكون أسيرًا في وثاق الأجانب
وأن زعيم القوم يحسب أنني ... إذا أمكنتني فرصة لم أحارب
وأني أغضي عن مساو عديدة ... له بعضها يقضي بخلع المناكب
وهل يجعل الأعمى رئيسًا وناظرًا ... على كل حربي لنا في المكاتب
ومن أرضه يأتي بكل ملوث ... جهول بتلقين الدروس لطالب
ويغتنم الأموال لا المنافع ... تعود على أبنائنا والأقارب
ولا ينثني عن مصر في أي حالة ... إلى أهله إلا بملء الحقائب
فبينوا عن الأوطان فهي غنية ... بأبنائها عن كل لاه ولاعب
بل إننا نرى صالح مجدي في بعض قصائده يهاجم إسماعيل هجومًا عنيفًا، ويذكر استهتاره، وتبديده لأموال الدولة على فجوره ولذائذه الرخيصة، ثم يدعو الشاعر المصريين إلى التنبه واليقظة، بل يحثهم على الثورة، وفي ذلك يقول:
رمى بلادكم في قعر هاوية ... من الديون على مرغوب جوسيار
وأنفق المال لا بخلا ولا كرمًا ... على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة ... من النساء ولم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد وله ... تسعون قصرًا بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم ... من غفلة ألبستكم ملبس العار
كذلك نرى صالح مجدي كأستاذه رفاعة، يتناول بالوصف بعض المخترعات الحديثة التي عرفتها تلك الفترة، ومن ذلك قصيدة في الباخرة، التي سماها "الوابور"، وأغلب الظن أن افتتاح قناة السويس، وما سار بها من بواخر، كان من أسباب الالتفات إلى مثل هذا الموضوع من مثل هذا الشاعر المستنير ذي الومضات التجديدية. ويمكن أن يعد كذلك محمود صفوت الساعاتي، من هؤلاء الشعراء المستنيرين ذوي التقليدية غير الخالصة؛ وذلك أنه بالإضافة إلى شعره الكثير الذي يتحرك في نطاق التقليدية بجانبيها، من ضحل يستخدم كثيرًا من ألوان البديع والألاعيب، إلى جزل يحوي كثيرًا من روح الشعر -نقول: إنه بالإضافة إلى هذا الشعر، التقليدي بجانبيه، له بعض النماذج ذات الومضات، الفنية الذكية، ولعل أهم هذه الومضات، روح الدعابة والفكاهة المصرية، التي تصل أحيانًا إلى ما يشبه الرسم "الكاريكاتوري"، وببعض النماذج التي قدمها صفوت الساعاتي من هذا الشعر، يمكن أن يعد مؤسسا للشعر الفكاهي في الأدب الحديث، ومن تلك النماذج قصيدته التي يداعب فيها بعض الشيوخ النحاة، الذين كانوا في نظره يعيشون على مضغ المصطلحات، ولوكها دون جدوى. وفي القصيدة يعرض الشاعر باستخدام مصطلحات النحاة، ويقدم بعض التراكيب والصور الضاحكة، التي ترد هنا على مسئولية صاحبها، وناقل الكفر ليس بكافر.. يقول الساعاتي:
إذا ارتفعت بالنحو أعلام علمنا ... جعلنا جواب الشرط حذف العمائم
ليعلم من بالنصب يرفع نفسه ... بأن حروف الخفض غير الجوازم
ويعلم من أعياه تصريف اسمه ... بأنا صرفناه كصرف الدراهم
نصبنا على حال من العلم والعلا ... وكنا على التمييز أهل المكارم
لأنا رأينا كل ثور معمم ... يكلف قرنيه بنطح النعائم
يجر من الإدلال فضل كسائه ... كأن الكسائي عهده عنده غير عالم
إذا نظر الكراس حرك رأسه ... وصاح: أزيد قام أم غير قائم؟
وقال: المنادي اسم شرط مضارع ... وظرف زمان، نحو جاء ابن آدم
وجمعك للتكسير اسم إشارة ... كقولك: نام الشيخ فوق السلالم
2- ظهور الاتجاه المحافظ البياني:
وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الطائفة من الشعراء ترتبط بالاتجاه التقليدي على اختلاف بينهم في نسبة هذا الارتباط، ومع اتضاح لبعض ملامح التجديد عند البعض، مما جعل التقليدية خالصة عند أمثال الشيخ علي أبي النصر، والشيخ علي الليثي، وغير خالصة عند أمثال صالح مجدي، وصفوت الساعاتي، نقول: في هذا الوقت كانت طائفة أخرى من الشعراء، قد نما وعيها أكثر، وصارت نفرتها من الاتجاه التقليدي أشد، ورأت هذه الطائفة أن المثل الشعري، ليس ما خلفته عصور التخلف، وأن التشبث بالألاعيب اللغوية والمحسنات البديعية، يجعل حقيقة الشعر تفلت من قبضة الشاعر. وقد كانت هذه الطائفة الثانية تجمع -غالبًا- بين شيئين، لم يتهيأ للطائفة الأولى، وأول هذين الشيئين هو عدم إلحاح الحاجة عليها للتكسب بالشعر، تلك الآفاة التي من شأنها أن تشد الشاعر إلى حاكم أو غنى، وتجعله يقول: لا ما يرضي الشاعر نفسه، بل ما يرضي الحاكم أو ولي النعمة. ومن هنا يكون الإكثار من شعر المدح الملق، والمناسابت التافهة، وما إلى ذلك مما لا يمس شعور الشاعر، أو يصدر عن إحساسه الصادق، أما الشيء الثاني الذي كان -غالبًا- يجمع بين هذه الطائفة الثانية من الشعراء؛ فهو البعد شبه الكامل عن الثقافة التقليدية، والقرب الشديد من الثقافة الحديثة، هذا بالإضافة إلى الاتصال القوي بألوان من الحياة الحضرية. هذان العاملان، بالإضافة إلى عامل تقدم الوعي والنفرة من الأنماط التقليدية؛ جعل هذه الطائفة من الشعراء تبحث عن مثل للشعر غير المثل المتخلف، الذي غلب على نتاج التقليديين، ولم يكن من المستطاع أن يكون المثل الأعلى هو الشعر الأوروبي، وذلك؛ لأنه لم يكن قد ترجم منه إلى العربية حتى ذاك الوقت ما يمكن أن يلفت النظر، هذا بالإضافة إلى ما كان من توجس -في تلك الفترة- من هذه الوافدات الأجنبية، التي ترتبط بهؤلاء الأجانب الممثلين للعدوان في كثير من مظاهر الحياة المصرية. وهكذا لم يكن أمام تلك الطائفة من الشعراء الواعين الموفورين ذوي الثقافة والحياة العصرية، إلا الشعر العرب القديم، في صورته البيانية الجديدة، التي خلفتها عصور الازدهار في المشرق والأندلس.. وكان ذلك متفقًا تمامًا مع روح الفترة، تلك الروح الواعية، الباحثة عن أمجاد الماضي العربي المشرق، لتتكئ عليها الأمة في كفاحها، ولتجمع بها شملها، وتقوى من عزيمتها، وتواجه بذلك كله مزاعم من ينكرون أصالتها وقوتها، ويريدون أن يسلبوا كل مقدراتها، وقد تجلت هذه الروح بشكل آخر في حركة إحياء التراث، التي قامت بها جمعية كجمعية المعارف . هذا، وقد كان في طليعة هذه الطائفة من الشعراء: البارودي الذي ولد بمصر سنة 1838، وكان أبوه من أمراء المدفعية في عهد محمد علي، ثم كان مديرًا لبربر ودنقله في السودان، وقد توفي الوالد ومحمود في الثانية عشرة من عمره، ولكن أهله قاموا بعد أبيه بواجب تربيته، فألحق بالمدرسة الحربية، وحين تخرج لم يجد عملًا عسكريًّا؛ لأن البلاد كانت تجتاز محنة عباس وسعيد اللذين رجعا بالبلاد إلى الخلف، وقد انتهز محمود الفرصة فأكب على قراءة الأدب والشعر، ثم سافر إلى الآستانة وعمل بها في وزارة الخارجية، وحين زار إسماعيل تركيا سنة 1863 اختار البارودي في حاشيته، فعاد معه إلى مصر، ثم عين في سلاح الفرسان، وسافر إلى فرنسا مع بعض الضباط ليشاهدوا استعراض الجيش الفرنسي السنوي، وانتهز الفرصة فسافر إلى إنجلترا، وحين شبت ثورة ضد تركيا في جزيرة كريت سنة 1866، رأى إسماعيل أن يساعد تركيا بفرقة مصرية، وسافر البارودي ضمن ضباط هذه الفرقة، وحين أعلنت روسيا الحرب على تركيا سنة 1877، أمدت مصر دولة الخلافة بعون عسكري، كان البارودي ضمن قواده، وحين رجع إلى مصر عين مديرًا للشرقية، ثم محافظة للعاصمة، وفي عهد توفيق عين البارودي وزيرًا للأوقاف، ثم وزيرًا للحربية، ولكن البارودي ما لبث أن استقال، ثم عاد وزيرًا، بل أسندت إليه رئاسة الوزراء. وحين شبت ثورة عرابي، انضم إليها، ولما أخفقت نتيجة للخيانات من خصومها وللغدر من الخديو والإنجليز؛ قدم إلى المحاكمة، ثم نفي إلى سرنديب، وظل بها سبعة عشر عاما وبضعة أشهر، وأخيرًا صدر العفو عنه سنة 1900، فرجع إلى مصر، وتوفي سنة 1904، وقد خلف ديوانًا طبعته من بعده أرملته. كما خلف مختارات من الشعر العربي لثلاثين شاعرًا، وقد طبعتها كذلك أرملته بعد وفاته. ( مقدمة ديوانه طبعة دار الكتاب، بقلم الدكتور محمد حسين هيكل، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي للعقاد، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي، والبارودي لعمر الدسوقي، والأدب العربي المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف، ومهرجان البارودي، وهو مجموع الأبحاث والدراسات التي ألقيت في المهرجان الذي أقامه مجلس رعاية الفنون والآداب.) واسماعيل صبري الذي ولد بالقاهرة سنة 1854 لإحدى الأسر المتوسطة، وتعلم بمدرسة المبتديان، ثم بمدرسة الإدارة ثم أرسل في بعثة إلى فرنسا حيث نال ليسانس الحقوق من كلية إكس سنة 1878، وتنقل بعد عودته في مناصب القضاء، ثم عين محافظاً للإسكندرية، ثم رقي وكيلًا لوزارة العدل بعد ثلاث سنوات، وظل بهذا المنصب حتى أحيل إلى المعاش سنة 1907، وكان منذ حداثته مولعًا بالأدب والشعر، فلما أتيحت له فرصة الفراغ من المناصب الرسمية خلص لشعره، وفنه حتى توفي سنة 1923، وقد خلف ديوانًا.( شعراء مصر، وبيئاتهم للعقاد، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي، والأدب المعاصر في مصر للدكتور شوقي ضيف.) ، وعائشة التيمورية التي ولدت بالقاهرة سنة 1840 في بيت الأسرة التيمورية، ووالدها إسماعيل تيمور باشا، كان يرأس القلم الأوروبي في ديوان الخديوي، ثم كان رئيسًا للديوان الخديوي كله، وتلقت مختلف العلوم العربية في بيت الأسرة على كبار الأساتذة، كما تعلمت الفارسية والتركية، وقد اتجهت إلى الأدب والشعر في سن مبكرة، ولكن الحياة الزوجية ومسؤولية الأمومة عوقتها حينًا، ثم ما لبثت أن انصرفت إلى هوايتها بعد وفاة زوجها، واضطلاع ابنتها بشئون البيت، وقد ظلت تكتب الشعر بالعربية والفارسية، حتى توفيت سنة 1902، وقد خلفت ديوانًا في كل من اللغتين. ( الترجمة التي كتبها لها حفيدها أحمد كمال زاده في صدر ديوانها، وما كتبته عنها الدكتورة بنت الشاطئ )، وإن كان البارودي أوضح الجميع أخذًا بهذا الاتجاه الجديد؛ فهو أقواهم شاعرية، وأعلاهم قامة، وأغزرهم نتاجًا، وأبعدهم عن التقليدية التي غلبت على كثير من شعراء تلك الفترة، ومن هنا يعتبر البارودي -بجدارة- رائد هذا الاتجاه الذي اتجه بأسلوب الشعر، إلى الأسلوب القديم المشرق الحي، البعيد عن التهافت والتستر بالمحسنات، فهو مؤسس الاتجاه المحافظ البياني في الشعر الحديث، وليس المراد بالمحافظة أي لون من التقليدية أو المحاكاة بمعناها الرديء، الذي تلغى معه الشخصية أو تغلق العيون، والمشاعر عما يحيط بالشاعر ويمس نفسه، وإنما المراد بالمحافظة اتخاذ النمط العربي المشرق مثلًا أعلى في الأسلوب الشعري، وهذا النمط تمثله تلك النماذج الرائعة من الشعر، التي خلفها قمم الشعراء في عصور الازدهار في المشرق والأندلس، من أمثال أبي تمام والبحتري، والمتنبي من المشارقة، وابن زيدون وابن خفاجة من الأندلسيين، والمراد بالبيانية، إبراز الجانب البياني في الشعر بشكل واضح، والاعتماد عليه أساسًا كعنصر من أهم عناصر الجمال فيه؛ حتى ليقدم الجانب البياني على الجوانب المتعددة الأخرى، التي يمكن أن يتألف منها نسيج الشعر، كالجانب الذهني ، وهذا الجانب يغلب على نسيج الشعر الذي يمثله شكري، والمازني والعقاد، وهو الاتجاه الذي يسمى "بمدرسة الديوان".، والجانب العاطفي هذا الجانب يغلب على نسيج الشعر الذي يمثله أبو شادي، وعلي طه وناجي والهمشري، وهو الاتجاه الذي يسمى باسم "مدرسة أبوللو" ، وما إليهما. وقد كان هذا الأسلوب المحافظ البياني بعد ذلك وسيلة تعبير عن حياة الشاعر الخاصة وأحاسيسه الذاتية، ثم عن قضايا بلده ومشكلاته القومية، وأخيرًا كان وسيلة لتسجيل بعض أحداث العصر، الخارجة عن نطاق الذات والوطن. وهكذا لم يكن استخدام الأسلوب المحافظ البياني، حاملًا للشعراء من أصحاب هذا الاتجاه على حصر أنفسهم في أغراضهم الأقدمين أصحاب هذا الأسلوب في الأصل، وإنما كان أسلوبًا حيًّا مشرقًا، قد اختير للتعبير عن أغراض تشبه أغراض الأقدمين حينًا، وتختلف عنها في كثير من الأحايين، على أن الشاعر من أصحاب هذا الاتجاه كان يتخذ من العالم العربي القديم عالمًا مثاليًا، يخفق له قلبه، ويهيم به خياله، ويشد إليه وجدانه؛ لأنه عالم الآباء الأماجد والتاريخ العريق، والدولة العربية الإسلامية الغالية، ومن هنا كان يستمد الشاعر كثيرًا من صوره من هذا العالم، بل يجمع بعض الألوان والخطوط من الصحراء، فيرسم خيامها وكثبانها وبانها، ويتغنى بهند وأسماء وسعاد والرباب، ويبكي الرسوم والأطلال، ويذكر أماكن تعود ذكرها الشاعر القديم كالعقيق ونجد، ويشبه الحبيبة بنفس طريقة ذاك الشاعر القديم، فيجعل قوامها غصنًا، وإشراقها بدرًا ونفرتها ظبيًّا، ويتخذ الشاعر من أصحاب الاتجاه المحافظ ذلك كله، رمزًا إلى صور جديدة وتعبيرًا عن معان حديثة، وهو في ذلك صادق غالبًا، إذا استثنينا ما يكون من رياضة القول في أول عهود التأدب، نعم هو صادق مع نفسه، ومع فنه ومع طبيعة عصره. ذلك العصر الذي عرفنا أنه كان مشدود الوجدان إلى الماضي العربي العظيم، وإلى تراثه الجيد المشرق. ومهما يكن من أمر، فقد استطاع هذا الأسلوب أن يعبر -في تلك الفترة- عن الشاعر وحياته وتجاربه، وعن وطن الشاعر ومشكلاته وقضاياه، بل استطاع أن يسجل بعض الأحداث الكبيرة التي وقعت خارج الشاعر وبعيدًا عن وطنه، وقد أدى هذا الاتجاه الشعري كل ذلك بتوفيق، وصل أحيانًا إلى حد الروعة، ونقل الشعر العربي الحديث معه إلى النور والحياة ( شعراء مصر وبيئاتهم للعقاد، في حديثه عن البارودي، واقرأ مقدمة ديوان البارودي بقلم الدكتور محمد حسين هيكل.). فالبارودي مثلًا يعبر عن تجربة البعد عن الوطن، والحنين إلى الأهل والأحباب، أيام كان بعيدًا عن مصر ليشارك في حرب البلقان، فيقول:
هو البين حتى لا سلام ولا رد ... ولا نظرة يقضي بها حقه الوجد
ولكن إخوانا بمصر ورفقة ... نسوا عهدنا حتى كأن لم يكن عهد
أحن لهم شوقًا على أن دوننا ... مهامه تعيا دون أقربها الربد
أفي الحق أنا ذاكرون لعهدكم ... وأنتم علينا ليس يعطفكم ود
فلا تحسبوني غافلًا عن ودادكم ... رويدًا فما في مهجتي حجر صلد
هو الحب لا يثنيه نأي وربما ... تأرج من مسر الضرام له النّد
وهو يصور حال مصر قبل الثورة العرابية، وما ضاقت به من تأزم
وفساد أرق المواطنين، وفزعهم، ويتوقع الفرج وانكشاف الغمة، لكن بحد السيف، فيقول:
تنكرت مصر بعد العرف واضطربت ... قواعد الملك حتى ريع طائره
فأهمل الأرض جرًا الظلم حارثها ... واسترجع المال خوف العدم تاجره
واستحكم الهول حتى ما يبيت فتى ... في جوشن الليل إلا وهو ساهره
يا نفس لا تجزعي فالخير منتظر ... وصاحب الصبر لا تبلى مرائره
لعل بلجة نور يستضاء بها ... بعد الظلام الذي عمت دياجره
إني أرى أنفسًا بما حملت ... وسوف يشهر حد السيف شاهره
بل إنه يحرض فعلا على الثورة والحرب، وانتهاز الفرصة لحصد رءوس الحكم الدخلاء الظالمين، فيقول:
فيا قوم هبوا إنما لعمر فرصة ... وفي الدهر طرق جمة ومنافع
أصبرًا على مس الهوان وأنتم ... عديد الحصى؟ إني إلى الله راجع
وكيف ترون الذل دار إقامة ... وذلك فضل الله في الأرض واسع
أرى أرؤساً قد أينعت لحصادها ... فأين ولا أين السيوف القواطع
فكونوا حصيدًا خامدين أو افزعوا ... إلى الحرب حتى يدفع الضيم دافع
أهبت فعاد الصوت لم يقض حاجة ... إلي، ولباني الصدى وهو طائع
فلم أدر أن الله صور قبلكم ... تماثيل لم تخلف لهن مسامع
فلا تدعوا هذي القلوب فإنها ... قوارير محني عليها الأضالع
وهو بعد ذلك يتجاوز تجاربه النفسية الذاتية، وقضايا وطنه القومية، ليحدثنا عن تلك الأرض النائية ببلاد البلقان، وما جرى عليها من حرب بين الروس والأتراك، فيقول:
وأصبحت في أرض يحار بها القطا ... وترهبها الجنان وهي سوارح
بعيدة أقطار الدياميم لو عدا ... سليك بها شأوًا قضى وهو رازح
تصيح بها الأصداء في غسق الدجى ... صياح الثكالى هيجتها النوائح
تردت بسمور الغمام جبالها ... وماجت بتيار السيول الأباطح
فأنجادها للكاسرات معاقل ... وأغوارها للعاسلات مسارح
مهالك ينسي المرء فيها خليله ... ويندر عن سوم العلا من ينافح
فلا جو إلا سمهري وقاضب ... ولا أرض إلا شمري وسابح
ترانا بها كالأسد نرصد غارة ... يطير بها فتق من الصبح لامح
مدافعنا نصب العدا ومشاتنا ... قيام تايها الصافنات القوارح
ثلاثة أصناف تقيهن ساقة ... حيال العدا إن صاح بالشر صائح
فلست ترى إلا كماة بواسلا ... وجردًا تخوض الموت وهي ضوابح
وبمثل تلك النماذج، عبر الاتجاه المحافظ البياني في توفيق واضح، عن أغراض أرحب من تلك الأغراض التي عبر عنها الشعراء الأقدمون، وانفسح لتسجيل نبضات الشاعر الحديث، وقضايا وطنه وكبريات أحداث عصره. ولم يستلزم هذا الأسلوب المحافظ البياني، حصر الشاعر في نطاق الأغراض التي كان يعبر عنها هذا الأسلوب في العصور القديمة، بل إن التزام منهج القصيدة العربية، واستخدام بعض الصور القديمة، والألوان البدوية الصحراوية نفسها، وما فيها من أماكن ونباتات وحيوانات -كالعقيق ونجد، وكالخزامى والبهار، وكالرئم والمها- لم تحل بين هذا الأسلوب، ونقل كل ما أراد الشاعر المحافظ أن يعبر عنه من تجاربه الذاتية، أو قضايا وطنه القومية، أو الأحداث الإنسانية الخارجة عن ذات الشاعر وقضايا وطنه، وهذا إذا أخذنا هذه الصور والألوان العربية القديمة على أنها رموز للتعبير عن معالم نفسية ومادية جديدة، فالشاعر حين يقول متشوفًا إلى مسارح شبابه، وأنسه بمصر:
أين ليالينا بوادي الغضا ... ذلك عهد ليته ما انقضى
كنت به من عيشتي راضيًا ... حتى إذا ولى عدمت الرضا
أيام لهو وصباً كلما ... ذكرتها ضاق علي الفضا
إنما يتخذ "وادي الغضا" رمزًا لأعز الأماكن على نفسه في مصر.
وبديهي أنه لا يريد وادي الغضا بمعناه الحرفي، هذا المكان المعروف بشبه الجزيرة العربية، وإنما يريد باستخدام هذا الاسم بالذات، استغلال ما فيه من ظلال نفسية وشحنات عاطفية، خلعها عليه الشعر القديم، والاستخدام العربي السالف، وقد لاءم ذلك ما كان من الشعور المسيطر في تلك الفترة، وهو شعور الالتفات الوجداني إلى ماضي العرب ومجدهم، والتعلق بكل ما يتصل بهم، ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال فيما يستخدم الشاعر المحافظ البياني -في ذاك الجيل- من أسماء أشخاص وأشياء، وأماكن ونباتات وحيوانات، قد كثر ورودها في الشعر العربي القديم. وشعراء هذا الاتجاه لم يتخلصوا تخلصًا كاملًا من كل عيوب التقليديين؛ فقد تورطوا أحيانًا -بنسب متفاوتة- في المحسنات والتأريخ، وبعض المجاملات البعيدة عن الصدق، ولكن ذلك كان شيئًا ضئيلًا بجانب الطابع العام لاتجاههم، الذي كان شيئًا آخر غير اتجاه التقليديين.
.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)