الخطابة وانتعاشها في العهد العثماني

أ-توضيح:
الخطابة فن قديم حديث استخدام من قبل الادباء لأغراض اجتماعية وسياسية ودينية عصر صدر الإسلام والعهد الراشدي والأموي لأن معظم الخطباء في هذه العصور كانوا من ذوي البلاغة والفصاحة ولكنها في العصور اللاحقة بدأت بالتراجع لأسباب عدة وهي في عصر الانحدار والدول المتتابعة أضحت فناً ادبيا تحضر له ويكتب ويستنظره الخطباء وكذلك في العصر العثماني.
ب-أنواع الخطب في هذا العصر:
تنوعت الخطابة في العصر العثماني وتلونت بحسب المعاش في ذلك لعصر وإن نما بعضها واضمحل الآخر ومهد هذه الأنواع:
اولاً: الخطابة الدينية بأشكالها المختلفة :(خطب الجمعات –الأعياد-المناسبات الدينية) والتي كانت ترتجل أحياناً فوق المنابر مع وضوح في ضعف قدرة الخطباء على الارتجال مما دعا الكثير منهم إلى كتابة خطبة وحفظها مسبقاً ثم تلاوتها على المنبر، وقد تجد الخطيب يقرأ خطبة مكتوبة على الورق حتى أن بعض الخطباء حفظ هذه الخطب في دواوين خاصة بعدد أسابيع السنة حيث تتناول كل خطبة الموضوع المناسب والموافق للجمعة المخطوب فيها
ثانياً: وقد تميزت الخطابة في هذا العصر العثماني:
أ-جمود الخطابة عند شكل محدد وثابت
ب-عدم اللجوء إلى الارتجال في الغالب
ج-عدم الحديث عن مشاكل العصر
د-خوف الخطباء من الزلل في خطبهم
ه-متابعة سابقيهم في خطبهم
و-توفير عناء البحث عن خطب جديدة الموضوع
ثالثاً: خطة الخطبة الدينية في هذا العصر: اتبعت الخطبة في هذا العصر المنهج التالي
1-مقدمة: حمد الله تعالى
2-الصلاة على رسول الله صلى الله علية وسلم
3-عرض موضوع الخطبة
4-الدعاء في الختام
رابعاً: سلوك الخطبة الفني:
سلكت الخطبة في هذا العصر السلوك التالي:
1-استخدام الأسلوب المصطنع في تأدية الخطبة
2-استخدام الجمل القصيرة المصطنعة
3-توظيف السجع في نهاية الجمل
4-البساطة والوضوح في معاني الخطبة
5-عدم الاسهاب في استخدام فنون البديع
ثانيا: خطب الكتب: وهي المقدمات التي يكتبها مؤلفو الكتب في بداية كتبهم التي توضح
*أ. دوافع وضع الكتاب
*ب. طريقة بناء الكتاب
*ج. غاية الكتاب
وقد اتبع الخطباء في مقدمات كتبهم طريقة ترغِّب في قراءة هذه الكتب من خلال
*أ. استخدام مختلف فنون القول
*ب. إثبات علو باعهم في العلم والأدب
*ج. الاهتمام بصيغة هذه المقدمات
فالقارئ اول ما يستقبل من الكتاب مقدمته ومن واجب صاحب الكتاب أن يشد القارئ لهذا الكتاب ليغريه بقراءته من هذا اختلفت أساليب الكتاب خطب كتبهم ومقدماتها
*أ. إطالة بعض خطب المقدمة بحسب شخصية المؤلف
*ب. إيجاز بعض خطب المقدمة بحسب شخصية المؤلف
*ج. تنوع أسلوب الأدباء
*د. الميل إلى الجزالة والفخامة
ج-تراجع الخطابة في هذا العصر
تراجعت الخطابة في العصر العثماني تراجعا كبيرا لأسباب عدة
1- بعد الخطباء عن الارتجال
2- ضعف السليقة اللغوية
3- كون الحاكم (الخليفة –الوالي) ليس من العرب
4- وضعها في قوالب جاهزة
5- الانكفاء عن إبداع الخطب
6- تدني أسلوب أداء الخطبة
أما هذا اللون من ألوان النثر، فقد كان من أهم وسائل تنمية الوعي وإنضاجه، كما كان من أهم وسائل التعبير عن الدعوات الإصلاحية في السياسة والاجتماع، ثم كان قبل ذلك كله من أبرز الفنون الأدبية التي تأثرت بالوعي، وبحركة الإصلاح في شتى نواحيه. فالخطابة قد وجدت دواعيها، وكثرت ميادينها في تلك الفترة، بعد أن كانت في عهود التخلف قد انحصرت -أو كادت- في الميدان الديني، وفي أضيق مجالاته، وهو خطبة الجمعة وما ماثلها من خطب العيدين، على أن تلك الخطابة الدينية المحصورة في هذا النطاق ضيق، كانت قد تجمدت -غالبًا-، وأصبح أغلب الخطباء يقرءون الخطبة من كتب معدة في عصور سابقة، وكثيرًا ما لا يتناسب موضوع الخطبة، ولا أسلوبها مع الموقف أو حال المستمعين، فلما كانت فترة الوعي وجدت دواع مختلفة أفسحت الطريق أمام الخطابة لتأخذ طريقها إلى أفق رحب مضيء. ففي ميدان السياسة، وجد -إلى جانب الجمعيات السياسية التي كانت مدارس الخطابة - "مجلس شورى النواب" الذي نما فيه الوعي بعد فترة من إنشائه، وأصبح بعد نحو عشر سنوات مجالًا للخطابة السياسية، التي تعارض الحكومة وتنتقد تصرفات المسئولين، وتندد بالخديوي نفسه، وتشن حملات شديدة على التدخل الأجنبي، والحكم الاستبدادي، وتطالب بألوان من الإصلاح في السياسة والحكم والاقتصاد.. كذلك وجدت الحركة العرابية، فكانت مجالًا من أهم المجالات لإنعاش الخطابة السياسة ومدها بأخصب زاد. وكانت أحداث سنة 1881 بخاصة، وقودًا غذى الخطابة السياسية في مجال الثورة العرابية، وأمدها بفيض من الحياة؛ فحادث قصر النيل وما صاحبه وأعقبه من مؤتمرات واجتماعات، وحادث عابدين وما مهد له وقيل فيه، ثم يوم سفر عبد العال حلمي وقواته إلى دمياط، وسفر عرابي وجنده إلى رأس الوادي، ثم ما كان بعد ذلك من حشد الشعب للوقوف في وجه العدوان الإنجليزي، والتآمر الخديوي، كل ذلك كانت الخطابة إحدى وسائله -بل أهم وسائله- في الإقناع والتحميس والتجميع والعمل.. وهكذا كانت الخطابة السياسية منتعشة في تلك الفترة من جديد، بعد أن ظلت قرونًا ذابلة، أو خامدة لا تكاد يحس لها وجود أو تدرك له حياة. وفي ميدان الاجتماع وجد عدد من الجمعيات الخيرية والاجتماعية التي اتخذت الخطابة وسيلة لبث أفكار الإصلاح، والدعوة إلى حياة أفضل، في الثقافة، والتعليم، والاقتصاد، وما إلى ذلك. وهكذا كانت الخطابة الاجتماعية -هي الآخر- إحدى وسائل الاستمالة والإقناع والعمل على الإصلاح الاجتماعي في شتى مظاهره، ومن هنا انتعشت الخطابة الاجتماعية، بل وجدت أشبه بالجديدة في الأدب المصري، الذي عرفها مع هذه المظاهر الحضارية، التي لم تكن من موضوعات الخطابة إلا في العصر الحديث. وطبيعي ألا تكون الخطابة بألوانها المختلفة ذات أسلوب واحد في تلك الفترة، وإن كانت كل الألوان تخلصت -إلى حد كبير- من الجمود والتفاهة، وعدم مراعاة الحال، التي كانت تسيطر على الخطابة الدينية المتخلفة في العصر التركي وما تلاه.. وطبيعي أن تختلف أساليب الخطابة باختلاف ألوانها، فالخطابة السياسية تعمد كثيرًا إلى الإثارة ومخاطبة المشاعر، وتتزين بألوان من المؤثرات العاطفية كالشعر الحماسي، والقصص الديني ونحو ذلك مما يشد مشاعر الجماهير، ثم تتحلى ببعض المحسنات كالسجع والتقسيم الذي يبعث في الكلام موسيقى، ويزيد به التأثير.. أما الخطابة الاجتماعية، فتعمد أكثر إلى مخاطبة العقل واستخدام المنطق، وقد تتعرض لذكر الأرقام والحقائق المحسوسة، في لغة أشبه بلغة العلم، ومع ذلك لا تترك فرصة يمكن فيها التأثير، وجذب القلوب حتى تنتهزها بأسلوب عاطفي، قد يعتمد على الخيال، ويتحلى ببعض المحسنات ... وهذا نموذج من خطب عبد الله النديم، خطيب الثورة العرابية ، والنموذج من خطبة هذا الثائر، في مظاهرة توديع أحد زعماء الثورة -عبد العال حلمي-المبعد بقواته إلى دمياط، بعد الحركة العسكرية في عابدين والمطالبة بمطالب الشعب ... وكانت المظاهرة في محطة العاصة قبيل تحرك القطار بالقائد وجنوده.. وفي هذه الخطبة يقول النديم: "حماة البلاد وفرسانها.. من قرأ التاريخ، وعلم ما توالى على مصر من الحوادث والنوازل، عرف مقدار ما وصلتم إليه من الشرف، وما كتب لكم في صفحات التاريخ من الحسنات؛ فقد ارتقيتم ذروة ما سبقكم إليها سابق، ولا يلحقكم في إدراكها لاحق، ألا وهي حماية البلاد، وحفظ العباد وكف يد الاستبداد عنهما. فلكم الذكر الجيمل، والمجد المخلد، يباهي بكم الحاضر من أهلنا، ويفاخر بمآثركم الآتي من أبنائنا، فقد حيي الوطن حياة طيبة بعد أن بلغت التراقي، فإن الأمة جسد والجند روحه، ولا حياة للجسد بلا روح، وهذا وطنكم العزيز أصبح يناديكم ويناجيكم، ويقول:
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي للديار نعيم
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحب وحميم
فردوا عنان الخيل نحو مخيم ... يقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة ... فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم تكن سيفًا فكن أرض وطأة ... فليس لمغلول اليدين حريم
وإن لم تكن للعائذين حماية ... فأنت ومخضوب البنان قسيم
ولقد ذكرت باتحادكم وحسن تعاهدكم ما كان من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم- عند تغييب سيدنا عثمان في أهل مكة، من مبايعة أهل الشجرة على حفظه، وصيانته -صلى الله عليه وسلم-، فصاروا يعنون بالعشرة المبشرين بالجنة" (مذكرات الثورة العرابية لأحمد عرابي جـ1 ص259، وما بعدها.) وفي السنوات العشر الأولى للاحتلال. خفت صوت الخطابة، الذي كان قد بدأ يعلو منتعشًا في الفترة السابقة، وخاصة مع الثورة العرابية1، وحين بدأت الحركة الوطنية تعود إلى اليقظة، وتتخذ سبيل النضال كانت الخطابة من أهم أسلحتها في هذه السبيل، وقد تعددت المجالات وتنوعت الميادين التي منحت الخطابة الانتعاش ثم النشاط؛ حتى شهدت تلك الفترة طائفة كانوا من أعظم من عرف تاريخ الأدب الحديث من خطباء، كما حظي التراث الأدبي بجمهرة من أروع ما ضم هذا التراث من خطب (الخطابة السياسية، لعبد الصبور مرزوق "رسالة ماجستير").. وكان من أهم مجالات الخطابة المجال السياسي، والمجال الاجتماعي، والمجال الفضائي، أما المجال السياسي، فكان له ميدانان: ميدان رسمي يتمثل في الجمعية العمومية، ومجلس شورى القوانين ثم في الجمعية التشريعية بعد ذلك، وميدان غير رسمي يتمثل في الأحزاب، والهيئات السياسية التي كانت تناضل لتحقيق ما ترى أنه الخير للبلاد، وقد كان أهم هذه الهيئات السياسية غير الرسمية الحزب الوطني، وحزب الأمة. وعلى الرغم من أن المؤسسات الرسمية السالفة الذكر قد أقامها الاحتلال أول الأمر للتمويه بأن الأمة تشارك في حكم نفسها؛ قد استطاع المخلصون من الوطنيين أن يتخذوا منها منبرًا لنقد الحكومة، وفضح ألاعيب الاحتلال، كما استطاعوا أن يكونوا معارضة قوية تقف في وجه كل ما يرونه ضارًّا بمصلحة البلاد من مشروعات، فقد تصدوا لمشروع مد امتياز شركة قناة السويس، وهاجموا قانون المطبوعات، الذي كان الهدف منه كبت الحريات، وحملوا الحكومة على إعادة اللغة العربية لغة للتعليم في المدارس، إلى غير ذلك من الوقفات الجريئة التي كانت الخطابة لسانها الناطق، وسلاحها الباتر ( ص292، وما بعدها مصطفى كامل)، الذي يعد علمًا من أعلام الخطابة السياسية في التاريخ الأدبي. فقد كان ذا موهبة خطابية مبكرة، من أهم مظاهرها: التحمس الشديد، والتدفق المنساب، والقدرة البالغة على تحريك مشاعر الجماهير، وإلهاب عواطف المستعمين، ثم المهارة في تفنيد حجج الخصوم، وتدعيم الرأي الذي يدعو إليه، بمزيج من الحجج العقلية، والمؤثرات العاطفية. وقد كان مصطفى كامل لا يدع فرصة إلا انتهزها، للتشهير بالاحتلال وجرائمه، ثم للمطالبة الحارة بالجلاء والدستور، وتحقيق آمال البلاد2. وطبيعي أن أعضاء تلك المؤسسات السياسية رسمية، لم يكونوا جميعًا من المعارضين بل كان فيهم -بحكم التنظيم الديمقراطي في ذلك الحين- ممثلون للحكومة يدافعون عن مشروعاتها أمام المعارضين، ومن هنا ظهر من الطرفين خطباء مفوهون، وكان من ألمع الخطباء الحكوميين سعد زغلول، وفتحي زغلول2. هذا في المجال الرسمي، أما في المجال الشعبي، فقد كان الميدان أرحب؛ إذا رأينا زعماء الحزبين الكبيرين يخوضون معركة النضال أكثر جرأة، وأعظم انطلاقًا؛ لأنهم لم يكونوا مقيدين برسوم ومواضعات، ولوائح تحد من نشاطهم، وتلجم بعض الشيء ألسنتهم، فهم لا يتحرجون تحرج الخطباء الرسميين من التنديد بالاحتلال والهجوم على المحتلين، وإنما يوجهون جل نشاطهم إلى هذا الميدان من ميادين النضال، وليس من شك في أن زعماء الحزب الوطني قد كانوا في تلك الفترة أكثر جنود هذا اللون ممن ألوان النضال حماسة، وأقواهم شكيمة، ويأتي في مقدمة هؤلاء جميعًا وقد كانت الخطابة من أهم عوامل نجاح مصطفى كامل، بل أصبحت تشكل جزءًا من شخصيته كزعيم، ومن يومها ارتبط النجاح السياسي بالنجاح في الخطابة والقدرة عليها، وأصبحنا نرى جل الزعماء الكبار يهتمون بالخطابة ويتخذون منها وسيلة فعالة من وسائل النجاح. هذا في المجال السياسي، أما المجال الاجتماعي؛ فقد كان نشاط الخطابة فيه لا يقل عن نشاطها في المجال السياسي، لما عرفنا من أن السياسيين كانوا أيضًا أصحاب دعوات إصلاحية اجتماعية، بل كثيرًا ما كان الخطيب السياسي الناجح هو نفسه الخطيب، والمصلح الاجتماعي الناجح؛ لأن هذا الجيل كان يخوض معركة نضال في عدد من الميادين، وإن كان أهمها الميدان السياسي بطبيعة الحال، ومن هنا جال الخطباء في ميادين الدعوة وبقي مجال ثالث قد نشطت فيه الخطابة أيضًا في تلك الفترة، وهو المجال القضائي، وقد أدى إلى نشاط الخطابة في هذا المجال، ما كان من إنشاء المحاكم الأهلية في تلك الفترة1، بعد أن أنشئت المحاكم المختلفة في الفترة السابقة، وبعد أن بدأت مدرسة الحقوق تؤتي ثمارها، وتقدم للأمة رجالًا يعتبر اللسن من أدوات صناعتهم في تلك الأحايين، وهكذا ظهر جيل من الخطاء القضائيين الرائدين، الذين درسوا القانون، واحترفوا العمل القضائي الذي كانت الخطابة من أهم وسائله، حيث عمل البعض مدعين عموميين، وعمل آخرون محامين، وهؤلاء وأولئك كانوا يعتمدون على المقدرة في الخطابة القضائية، وكانت مقوماتها تزيد على مقومات الخطابة الأخرى: المقدرة على تفسير القانون، وفهم نصوصه لصالح من يمثله الخطيب، ثم القدرة على الجدل، وإبطال أدلة الخصم، وتدعيم موقف الطرف الذي يقابله، فهي تجمع إلى مقومات الخطابة كثيرًا من مقومات المناظرة، وتضم إلى ثقافة الخطيب العامة وقدراته الخاصة، ثقافات وقدرات منطقية. وقد كان من عوامل نشاط هذا اللون من الخطابة، أن كثيرين من رجالها كانوا في الوقت نفسه خطباء سياسيين، وربما خطباء اجتماعيين أيضًا؛ من أمثال سعد زغلول وغيره من رجال هذا الجيل، الذي عمل في المجال القضائي والميدان السياسي، والإصلاح الاجتماعي في كثير من الأحايين. وهكذا نشطت الخطابة في تلك الفترة، وإن خمدت في السنوات الأولى منها. وقد تعددت مع هذا النشاط ميادينها، وكثر النابعون فيها ، ولم تكن المسألة متعلقة بالكم فحسب، بل قد شملت الكيف أيضًا، حيث لم تعد الخطابة في هذه الفترة في نفس المستوى الفني الذي كانت عليه في الفترة السابقة، والذي يتمثل في خطب رجل كعبد الله النديم، لقد عرفت الخطابة في هذه الفترة -زيادة على ما عرفته في الفترة السابقة- ثقافة أعمق وفكرًا أنضج، واتصالًا بالمعارف السياسية والمباحث الاجتماعية، والمواد الدستورية والقانونية. وقد أمدها كل ذلك بحيوية أكثر وفاعلية أقوى، ومنحها قيمة فنية أعلى. وبالإضافة إلى ذلك كله، قد زاد بعد الخطابة عن المحسنات والزخرف، وقوى اتصالها بالأصالة والإبداع والموضوعية، ومن هنا يعتبر كثير من خطب تلك الفترة، التي خلفها مصطفى كامل، وسعد زغلول وغيرهما نماذج أدبية ممتازة للخطابة. وغني عن الإيضاح أن نقول: إن الخطابة قد اختلفت أساليبها -بعد ذلك- باختلاف ميادينها أولًا، ثم باختلاف الخطباء وطبيعتهم وثقافتهم ثانيًا. فعلى حين كان رجل مصطفى كامل يميل في خطبه إلى العاطفية والمصارحة والعنف. كان أخر كسعد زغلول يميل إلى الذكاء والمراوغة واللباقة، هذا في الوقت الذي يجنح ثالث كلطفي السيد إلى الموضوعية، والمنطقية والعمق. على أن التعرف الكامل على خصائص كل يحتاج إلى دراسة مستقلة1، وحسبنا هنا معرفة الخصائص المشتركة التي تمس الخطابة بوجه عام، والتي سبق إيضاحها بما سمح به المقام في هذه السطور، ويمكن أن يقرب خصائص الخطابة السياسية هذا النموذج من خطب مصطفى كامل. قال في حفل وطني بالإسكندرية سنة 1900: "سادتي وأبناء وطني الأعزاء، كلما جئت إلى الإسكندرية، ورأيت هذه الحياة الحقيقية التي جعلت لكم مقامًا محمودًا بين بني مصر، أعود شاعرًا بان في هذه المدينة الزاهرة أساتذة في الوطنية، عنهم تؤخذ دروس محبة الأوطان، ومنهم تعرف الأمة حقوقها وواجباتها، وهذا ما أخرني في السنين الأخيرة عن الوقوف أمامكم هذا الموقف، ومناجاتكم في شئون الوطن العزيز. ولكني أشعر بأن تبادل الميول، وانتقال العواطف الطاهرة من فؤاد إلى فؤاد، واجتماع القلوب في وقت واحد حول آمال واحدة، وسريان روح مشتركة في المجموع العظيم، مما يزيدنا اعتقادًا على اعتقاد، وحبًّا للديار على حب، ويخفف حب، ويخفف عن الوطن المقدس آلام مصائبه العظام. ".. إني أشد الناس أملا في مستقبل أمتي وبلادي، وأرى الشعب الذي أنا منه جديرًا بالرفعة والسمو، حقيقا بالمجد والحرية والاستقلال. ولولا هذا الأمل وهذا الاعتقاد، لكنت فارقت الحياة، وتركت الدنيا غير آسف على أحد، وكيف لا أكون ذا أمل، وهذه أمتي أجد فيها روحًا جديدة، وحياة صادقة، ووطنية ناشئة قوية؟ ومن منكم لا يرى ما أرى؟ هل ينكر أحد شعور الأمة بحالها وانتباهها من رقدتها، وقيامها من وهدتها وعملها لخيرها، وسعادتها؟! " ... قد يظن بعض الناس أن الدين ينافي الوطنية، أو أن الدعوة إلى الدين ليست من الوطنية في شيء؟ ولكني أرى أن الدين والوطنية توأمان متلازمان، وأن الرجل الذي يتمكن الدين من فؤاده، يحب وطنه حبًّا صادقًا، ويفديه بروحه وما تملك يداه، وليست فيما أقول معتمدًا على أقوال السالفين، الذين ربما اتهمهم أبناء العصر الحديث بالتعصب والجهالة، ولكني أستشهد على صحة هذا المبدأ بكلمة "بسمارك" أكبر ساسة هذا العصر، وهو خير رجل خدم بلاده ورفع شأنها، فقد قال هذا الرجل العظيم بأعلى صوته: "لو نزعتم العقيدة من فؤادي لنزعتم محبة الوطن معها (مصطفى كامل لعبد الرحمن الرافعي ص146-147. ) ... ". ولعل مما يزيد الأمر إيضاحًا هذين النموذجين الآخرين للخطابة القضائية في تلك الفترة, وأولهما جزء من مرافعة ثروت حين كان ممثلًا للنيابة في قضية اغتيال بطرس غالي، وفيه يقول عن الورداني المتهم: ".. إن الوطنية التي يدعي الدفاع عنها بهذا السلاح المسموم لبراء من هذا المنكر، إن الوطنية الصحيحة لا تحل في قلب ملأته مبادئ تستحل اغتيال النفس. إن مثل هذه المبادئ مقوضة لكل اجتماع". "وماذا يكون حال أمة إذا كان حياة أولي الأمر فيها رهينة حكم متهوس، يبيت ليلة فيضطرب نومه وتكثر هواجسه، فيصبح صباحه ويحمل سلاحه، يغشاهم في دار أعمالهم، فيسقيهم كأس المنون؟ ثم إذا سئل في ذلك تبجح وقال: إنما أخدم وطني! لأن أعتقد أن مثلهم خائنون للبلاد ضارون بها". "تبًّا لتلك المبادئ وسحقًا لها، كيف تقوم لنظام قائمة مع تلك المبادئ الفاسدة؟ إن مبادئ كل اجتماع، ألا ينال إنسان جزاء على عمل مهما كان هذا الجزاء صغيرًا، إلا على يد قضاة اشترطت فيهم ضمانات قوية، وبعد أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، حتى ينتج الجزاء النتيجة الصالحة التي وضع لها من حماية الاجتماع، فإذا كان هذا هو الشأن في أقل جزاء يلحق بالنفس أو بالمال، فما بالك بجزاء هو إزهاق الروح والحرمان من الحياة؟ "تلك مبادئ لا وجود المجتمع إلا بها، ولا سعادة له بدونها؛ فالطمأنينة على المال والنفس هي أساس العمران، ومن الدعائم التي بني عليها في كل زمان ومكان، ولكن الورداني له مذهب آخر في الاجتماع، فهو يضع نفسه موضع الحكم على أعمال الرجال، فما ارتضاه فيها كان هو النافع، وما لم يرتضه كان هو الضار، ويريد أيضًا أن يكون القاضي الذي يقدر الجزاء، ثم يقضي به عن غير معقب ولا راد. " ... إن مثل هذا الحق لا يمكن أن يكون إلا الله سبحانه وتعالى، المطلع على السرائر، العليم بالنيات، ومع ذلك فإنه جل شأنه شرع الحساب قبل العقاب، ثم إن هذا الحق لم يتطلع إليه أحد من العالمين حتى الأنبياء أنفسهم؛ وقد أجمعت الشرائع على عصمتهم من الزلل والخطأ. ولكن الورداني يريد أن يضع نفسه فوق كل الدرجات المتصورة، فحاكم وحكم، وقتل: "إني لترتعد فرائصي إذا تصورت منظر البلاد، وقد فشا فيها البلاء الأكبر بفشو تلك المبادئ القاضية"( هذه المرافعة في: الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية "عن الخطابة للدكتور أحمد الحوفي ص97-98".) ، والنموذج الثاني جزء من مرافعة أحمد لطفي حين كان مدافعًا في القضية نفسها، وفيه يقول مخاطبًا الورداني ... " " ... أما أنت أيها المتهم، فقد همت بحب بلادك حتى أنساك هذا الهيام كل شيء حولك؛ أنساك واجبًا مقدسًا هو الرأفة بأختك الصغيرة، وأمك الحزينة، فتركتها تبكيان هذا الشباب الغض، تركتهما تتقلبان على جمر الغضا، تركتهما تقلبان الطرف حولهما، فلا تجدان غير منزل مقفر غاب عنه عائله، تركتهما على ألا تعود إليهما، وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبرًا على فراقك لحظة واحدة؛ فأنت أملهما ورجاؤهما. "دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب، وحجب عنك كل شيء غير وطنك، فلم تعد تفكر في تلك الوالدة البائسة، وهذه الزهرة اليانعة، ولا فيما ينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه، ونسيت كل أملك في هذه الحياة، وقلت: إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت أن الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك، أي أعز شيء لديك ولدي أختك ووالدتك؛ فأقدمت على ما أقدمت راضيًا بالموت لا مكرهًا، ولا حبًّا في الظهور، أقدمت وأنت تعلم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك، ففي سبيل أمتك بعت حريتك بثمن غال.
"فاعلم أيها الشاب أنه إذا اشتد معك قضاتك -ولا إخالهم إلا راحميك -فذلك؛ لأنهم حذقة القانون، وهذا هو السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية، وإذا لم ينصفوك -ولا أظنهم إلا منصفيك- فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الإجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك، وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أم خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها. "وإن هناك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرمًا سفاكًا للدماء، ولا فوضويًّا من مبادئه الفتك ببني جنسه، ولا متعصبًا دينيًّا؛ وإنما أنت مغرم بحب بلادك هائم بوطنك. "فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد والقرب مرسومة على قلوب أهلك وأصدقائك، وتقبل حكم قضاتك باطمئنان، واذهب إلى مقرك بأمان" ("عن الخطابة للدكتور الحوفي ص105-106".)



المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)