المقالة ونشأتها في العهد الهثماني
لم يعرف أدبنا القديم هذا القالب الفني للكتابة النثرية، وهو قالب "المقالة"، وإن كان عرف شيئًا قريبًا منه، وهو "الرسالة" التي نراها في بعض كتابات علم مثل الجاحظ، حيث تناول موضوعات محددة في صورة مركزة، تشبه -إلى حد كبير- شكل المقالة، وإن لم تكن هي تماماً. فالمقالة تتناول موضوعًا أكثر تحديدًا، وتعرضه بصورة أشد تركيزًا، وهذا الموضوع يتصل بقضية حية، ويتجه فيه الحديث إلى الجماعة، ويخضع آخر الأمر في أسلوبه لمقتضيات الصحافة، التي نشأ معها هذا الفن( أدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ1. ) . وهكذا جاء فن المقالة -في الأدب المصري- استجابة لضرورات سياسية واجتماعية، ثم تطور نتيجة لهذا الوعي الذي كان ينمو وينضج في تلك السنين، من النصف الثاني من القرن الماضي، فقد وعي المصريون واقعهم بكل ما فيه من حاجات إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي والديني، واتجه فريق من مثقفيهم إلى الكتابة في تلك الجوانب الإصلاحية العديدة، متخذين من الصحافة -تلك الوسيلة الجديدة- أداة لتوصيل آرائهم، وأفكارهم إلى مواطنيهم، وبدؤوا يكتبون بأسلوب قريب من الأسلوب التقليدي المزركش، ثم أخذوا تدريجيًّا يتخلصون من ذلك الترسل (أدب المقالة الصحفية للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ-1 جـ2. ) ، فلم يكن من الممكن أن يتجهوا إلى جمهور المواطنين عن طريق الصحف، بتلك اللغة المتكلفة المتلاعبة الملتوية الثقيلة، لأنها عاجزة عن علاج المشكلات أولًا ثم؛ لأنها لن تفهم من جمهور القراء ثانيًا. وكان الوعي قد لفت الأنظار إلى التراث العربي النثري المشرق، وأدرك الوراد من الكتاب1 ما فيه هذا النثر من ترسل، وبساطة، وحرية، وقوة، وكان قد أذيع -ضمن ما أذيع من تراث- آثار نثرية جيدة، يمكن أن تكون أنماطًا للكتابة التي يجب أن توجه الجماهير عن طريق الصحف، كبعض كتب ابن المقفع، وكبعض آثار ابن خلدون، فأخذ الرواد من المثقفين المصريين يكتبون موضوعات في السياسة، والاجتماع والدين، بهذه اللغة الجانحة إلى الموضوعية والوضوح والترسل، وهم في ذلك مراعون لمقتضيات الصحافة وتحديد أنهرها، ومستوى قرائها، ووسائل تأتيها، فكانت من هذه الكتابات المقالات الحقيقية الأولى في الأدب الحديث في مقدمة هؤلاء الشيخ محمد عبده. وقد كان يؤازر المصريين ويشاركهم تلك الحركة، إخوانهم من مهاجري الشام المسيحيين، كما كان يرودهم ويوجههم، ذلك المصلح الغيور السيد جمال الدين الأفغاني، ومن كل تلك الظروف ولدت المقالة في ألوانها السياسية والاجتماعية والدينية، حيث وجدت موضوعات عامة تدعو إلى الكتابة، ووجد جمهور كبير يتجه إليه الكتاب، كما وجدت صحف تنقل هذه الكتابات إلى أكبر عدد من المتلقين، وفيهم العاديون من المتعلمين، بل وفيهم المستمعون للقراء من الأميين، وأخيرًا حيث وجد في التراث العربي -الذي بدأ الاهتمام به- نمط أسلوبي يمكن أن يحتذى في الجانب التعبيري على الأقل. وكان لهذا التحول من الموضوعات التقليدية الضيقة فيما يكتب أولًا، ثم من الفرد إلى الجماعة فيمن يكتب إليه ثانيًا، أكبر الآثار في أن اتخذت المقالة لغة تنأى عن فردية الموضع وعن استقراطية التعبير، وتميل إلى الموضوعية في الأغراض، والديمقراطية في الأسلوب. وليس من شأنك في أن حركة الترجمة، وانتشار الصحافة، وإسهام المهاجرين الشوام، وتوجيهات الأفغاني؛ قد ساعدت الرواد الأول من كتاب المقالة في الأدب المصري الحديث على أن يرسوا دعائم هذا الفن النثري. ولقد كان من أوائل هؤلاء الرواد، الشيخ محمد عبده الذي ولد بمحلة نصر إحدى قرى البحيرة سنة 1849، وحفظ القرآن بالقرية، ثم التحق بالمسجد الأحمدي بطنطا، وفيه تلقى بعض علوم اللغة العربية والشريعة، ثم عاد إلى بلده بعد حين وقد يئس من مواصلة الدرس لما وجد من تعقيدات تملأ الكتب المقررة، ثم قدم على الأزهر سنة 1866 بعد أن اتصل ببعض الشيوخ الذين شجعوه وشحذوا عزيمته، وفي الأزهر أكب على الدراسة على كبار الشيوخ، وحين قدم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر للمرة الأولى سنة 1869، اتصل به محمد عبده، وحين عاد للمرة الثانية سنة 1871 بادر محمد عبده إلى لقائه، وتعلم على يديه الكثير في الأدب والفلسفة والتاريخ، والسياسة والاجتماع، وقد قرب الأفغاني الشاب المصري من نفسه، وأحله منزلة المريد. وفي سنة 1876 بدأ محمد عبده يكتب في الصحف فصولا في موضوعات ثقافية مختلفة، فاشتهر بين أقرانه، وبدأ يعرف بحسن الفهم وجمال البيان، وجرأة القلب، وقد أوغر هذا صدور بعض المتخلفين والحاقدين، وبدأ خصومه يظهرون، وحين أتم محمد عبده دراسته في الأزهر وعرض نفسه على لجنة امتحان العالمية سنة 1877 اجتاز الامتحان بعد صدام مع بعض الشيوخ، وكانت النتيجة أننال العالمية من الدرجة الثانية، وتولى التدريس بعد ذلك في الأزهر، ثم عين مدرسًا للتاريخ في دار العلوم سنة 1878. ثم حالت السياسة بينه وبين التعليم، حين أمر الخديو توفيق بإخراج الأفغاني من البلاد، وتحديد إقامة محمد عبده في محلة نصر، ثم استدعي للإشراف على الوقائع المصرية سنة 1780. وحين بدأت بوادر الثورة العرابية لم يكن الشيخ مؤيدًا لها، ثم انضم إليها بعد ذلك، وبعد فشل الثورة قبض على محمد عبده وحوكم، وظل رهن المحاكمة ثلاثة شهور بالسجن، ثم حكم عليه بالنفي ثلاث سنوات في سوريا، فلجأ إلى بيروت، وبعد أن أقام في الشام نحو عام كتب إليه السيد جمال الدين الأفغاني من فرنسا ليلتحق به، فذهب إلى باريس عام 1884، واتصل بأستاذه الذي كان قد عاد من الهند، وأقام بالعاصمة الفرنسية، وفي باريس أصدر مع أستاذه جريدة العروة الوثقى، وقد أتيح للشيخ أن يزور لندن بدعوة من بعض أصدقائه الإنجليز، ثم عاد إلى باريس ... ورجع إلى بيروت سنة 1885، للتدريس في المدرسة السلطانية. فهو صاحب أثر كبير في تخليص لغة النثر عمومًا من التفاهة وأثقال المحسنات، وذلك بعد أن تطور هذا الشيخ ، وآمن بوجوب التخلص من تلك الآفات المعوقة، وكان قد استجاب لتوجيهات الأفغاني في وجوب الترسل، كما كان قد قرأ بعض التراث العربي البعيد عن الزخرف، كمقدمة ابن خلدون، وفتن بأسلوبها المرسل القوي المعبر، فلما أسند إليه تحرير "الوقائع المصرية" في عهد توفيق، عمل على تخليص كتاباتها من أوضار التقليدية المتخلفة، فكان يكتب كتابة موضوعية حية مرسلة، تعد نماذج رائدة إلى حد كبير، كما كان يحث الآخرين من كتاب "الوقائع" وغيرها على الأخذ بهذا الأسلوب الحي المرسل فيما يكتبون، ومن هذه الناحية يعتبر الشيخ محمد عبده ذا دور في إحياء النثر يشبه -إلى حد ما- دور البارودي في إحياء الشعر . ويلاحظ أن أسلوب المقالة -في تلك الفترة- لم يتخذ شكلًا واحدًا بطبيعة ثم صدر عفو عن الشيخ وعاد إلى وطنه، وعين قاضيًا في المحاكم الأهلية سنة 1888، حيث عمل في محكمة بنها، ثم في محكمة الزقازيق، ثم في محكمة عابدين، ثم عين مستشارًا في محكمة الاستئناف، وسافر بعد ذلك مرات إلى فرنسا وسويسرا، وكان يحضر في جامعة جنيف أثناء العطلة الصيفية دروسًا في الآداب والحضارة، وكان قد أتقن الفرنسية، وعين سنة 1899 مفتيًا للديار المصرية، كذلك عين عضوًا في مجلس شورى القوانين، وبذل جهدًا كبيرًا في إصلاح الأزهر، وإصلاح الفكر الديني على وجه العموم، وتوفي سنة 1905. (تاريخ الشيخ محمد عبده لمحمد رشيد رضا، وفي: أدب المقالة الصحفية لعبد اللطيف حمزة جـ2، وفي: محمد عبده للدكتور عثمان أمين.) الحال؛ فقد اختلفت أشكاله بعض الاختلافات نظرًا لاختلاف الكتاب وطبيعتهم وثقافتهم أولًا، ثم نظرًا لاختلاف الموضوع المعالج ثانيًا، فحين يكون الكاتب ذا ثقافة فكرية يغلب على أسلوبه الجانب الذهني، والقرب من القضايا المنطقية، وما فيها من استدلال واحتجاج؛ وحين يكون الكاتب ذا ثقافة فنية يغلب على أسلوبه طابع التصوير والخيال، والشاعرية أحيانًا، وخاصة إذا كان الموضوع على حظ من العاطفية يحتمل ذلك، ومن هنا لم تختف كل أنواع المحسنات تمامًا، بل ظل بعضها يأتي بين الحين والحين، وخاصة السجع والتقسيم اللذان يكسبان الكالم موسيقى ويزيدانه تأثيرًا، وذلك حين يأتيان مطبوعين، وفي مواقف تتحملهما.
وهذا نموذج من مقالات الشيخ محمد عبده في الوقائع بعد أن انتقل أسلوبه إلى المرحلة الثانية مرحلة الترسل والموضوعية والبساطة، وعنوانه "خطأ العقلاء"، يقول الشيخ في هذا المقال: "إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة، إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية، ومطالعة أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة، تتولد في عقولهم أفكار جليلة، وتنبعث في نفوسهم همم رفيعة، تندفع إلى قول الحق، وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها، ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار، وحصلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار، ومعاشرة أرباب المعارف ونحو ذلك، تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه، وساير العالم بأسره، أو الأمة التي هم فيها بتمامها -على مقتضى ما علموه- هو أمر سهل، مثل سهولة فهم العبارة عليهم، وقريب الوقوع، مثل قرب الكتب من أيديهم، والألفاظ في أسماعهم، فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا، أن يكونوا على مشاربهم، ويرغبون في أن يكون نظام الأمة، وناموسها العام على طبق أفكارهم، وإن كانت الأمة عدة ملايين، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر، ووضعت أصولًا وقواعد لسير الأمة بتمامها، ينقلب بها حال الامة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السيادة، وتتبدل
العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال، إلا أن ينادي على الناس باتباع آرائهم، تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته، وارتفاع الهمة وانبعاث الغيرة، لكنهم أخطأوا خطأ عظيمًا، من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه، وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها. ولم يختبر قابلية الأذهان، واستعدادات الطبائع للانقياد إلى نصائحهم، واقتفاء آثارها" ( أدب المقالة الصحفية، للدكتور عبد اللطيف حمزة جـ2 ص83، وما بعدها.) ولقد أثمرت تلك الجهود التي بذلها محمد عبده، وأنصاره منذ الفترة السابقة1، حتى تبلور الاتجاه الذي راده في طرقة فنية للمقالة، تعتبر الطريقة النثرية الأولى -من الناحية الزمنية- في الأدب الحديث، وقد كان مصطفى لطفي المنفلوطي1، وهو العلم البارز في تلك الطريقة، التي يمكن أن تحمل اسمه، فيقال لها: "طريقة المنفلوطي". وطريقة المنفلوطي لها سمات أسلوبية واضحة، أهمها: البعد عن التكلف، والنأي عن التقليد، والقصد إلى الصدق، والاهتمام بحسن الصياغة، وجمال الإيقاع ورعاية الجانب العاطفي، ثم الميل إلى السهولة والترسل، وترك التعقيد والمحسنات، فيما عدا بعض السجع المطبوع، الذي يأتي بين الحين والحين للإسهام في موسيقى الصياغة . وقد كان المثل الأعلى لتلك الطريقة، ذلك النثر المرسل الجيد الذي خلفته عصور الازدهار العربية، لكن لم تكن كتابات المنفلوطي مع ذلك محاكاة لتلك النماذج التي يمثلها نثر تلك العصور القديمة، وإنما كانت كتابات -برغم محافظتها- فيها كثير من الإبداع والأصالة، وعليها طابع الكاتب وفيها ملامح شخصيته، والطريقة التي أوضح معالمها المنفلوطي، طريقة محافظة بيانية، أشبه بطريقة شوقي في الشعر، وقد كان المنفلوطي قمة من كتبوا بها منذ رادها محمد عبده في الفترة السابقة، كما كان شوقي قمة من نظموا بالأسلوب المحافظ البياني، منذ اتجه إليه البارودي في الفترة السابقة أيضًا، كذلك كانت تلك الطريقة النثرية تسهم في النضال بكل ميادينه السياسية، والاجتماعية والإصلاحية، تمامًا كما كان الشعر المحافظ يفعل. وأهم ما يمثل تلك الطريقة مقالات المنفلوطي، التي كان ينشرها في المؤيد ، وكان يصدر المؤيد الشيخ علي يوسف، وقد بدأ المنفلوطي كتابته لنظرات سنة 1908، ونشر أول جزء منها في مجلد سنة 1909.( المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243.) ، والتي جمعها بعد ذلك في ثلاثة مجلدات باسم "النظرات"، وهي مقالات في الأدب والأخلاق والاجتماع، تتسم بهذه الخصائص الأسلوبية التي أشير إليها من قبل، والتي من أهمها: رعاية جمال الأسلوب دون اعتماد على المحسنات، باستثناء القليل من السجع المطبوع، ثم الاهتمام بتحريك العاطفة، وهزها بمختلف الوسائل. وقد سيطرت تلك الطريقة، وغلبت نزعتها على الكتابة خلال تلك الفترة وبعدها بسنوات، حتى لقد طبعت النظرات إلى الآن ست عشرة مرة ، نظرًا لأسلوبها الذي يجذب القراء، وخاصة الشادين في الأدب، والناشئة في صناعة القلم، فبقيت حية مقروءة على حين اختفت معظم الكتابات التي كانت تهاجم صاحبها، وذلك؛ لأنها كانت أكثر تمثيلًا لروح العصر. هذا لم تكن "طريقة المنفلوطي" هي المثل الأعلى لكتابة المقالة، فقد عيب عليها: الاهتمام البالغ بالأسلوب، وفقر الجانب الفكري، والمبالغة في اصطناع الأسى وإثارة العاطفة، ثم عدم الدقة في الاستعمال اللغوي أحيانًا، والميل إلى حشد الألفاظ المترادفة، والعبارات المكملة، والكلمات المؤكدة، دون حاجة إلى ذلك يقتضيها الموقف، أو تحتاجها الفكرة (الديوان جـ2 ص7 وما بعدها، والأدب العربي المعاصر في مصر ص233.) ، وبرغم ذلك وغيره مما أخذ على المنفلوطي وأسلوبه، قد كانت المقالات التي خلفها هذا الكاتب أول نماذج فنية للمقالة، يمكن أن تقرأ وتستعاد، فتمتع وتعجب، ويمكن لهذا أن تعتبر -بحق- قطعًا من الأدب، لا مجرد كتابات في الأدب، أو الأخلاق أو الاجتماع ككتابات كثيرين غيره. وهذا نموذج من النظرات، عنوانه: "أيها المحزون" يقول فيه المنفلوطي: "إن كنت تعلم أنك قد أخذت على الدهر عهدًا أن يكون لك كما تريد في جميع شئونك وأطوارك، وألا يعطيك ولا يمنعك إلا كما تحب وتشتهي، فجدير بك أن تطلق لنفسك في سبيل الحزن عنانها كلما فاتك مأرب، أو استعصى عليك مطالب، وإن كنت تعلم أخلاق الأيام في أخذها وردها، وعطائها ومنحها،، وأنها لا تنام عن منحة تمنحها، حتى تكر عليها راجعة فتستردها، وأن هذه سنتها وتلك خلتها في جميع أبناء آدم، سواء في ذلك ساكن القصر وساكن الكوخ، ومن يطأ بنعله هام الجوزاء، ومن ينام على بساط الغبراء؛ فخفض من حزنك، وكفكف من دمعك، فما أنت أول غرض أصابه سهم الزمان، وما مصابك بأول بدعة طريفة في جريدة المصائب والأحزان". "أنت حزين؛ لأن نجمًا زاهرًا من الأمل كان يتراءى لك في سماء حياتك، فيملأ عينيك نورًا، وقلبك سرورًا، وما هي إلا كرة الطرف أن افتقدته فما وجدته. ولو أنك أجملت في أملك، لما غلوت في حزنك، ولو أنك أنعمت نظرك فيما تراءى لك، لرأيت برقًا خاطفًا، ما تظنه نجمًا زاهرًا، وهناك لا يبهرك طلوعه، فلا يفجعك أفوله". "أسعد الناس في هذه الحياة، من إذا وافته النعمة تنكر لها، ونظر إليها نظر المستريب بها، وترقب في كل ساعة زوالها وفناءها، فإن بقيت في يده فذاك، وغلا فقد أعد لفراقها عدته من قبل". "لولا السرور في ساعة الميلاد، ما كان البكاء في ساعة الموت، ولولا الوثوق بدوام الغنى، ما كان الجزع من الفقر، ولولا فرحة التلاق، ما كانت ترحة الفراق" (النظرات للمنفلوطي جـ1 ص61.) . على أن طريقة المنفلوطي -أو الاتجاه المحافظ البياني- في النثر، لم تكن الطريقة الوحيدة لكتابة المقالة في تلك الفترة؛ فالحق أن تلك الطريقة كانت الطريقة الوسط، التي تأتي بين اتجاهين آخرين، لم يكونا من الوضوح والقوة حينذاك، بحيث يعتبران طريقتين مميزتين أخريين. أما أحد هذين الاتجاهين، فقد كان أكثر تشبثًا بالتراث، وأقوى تعلقًا ببعض مخلفاته، حيث اصطنع السجع على طريقة أسلوب المقامات، وكانت كتابات أصحاب هذا الاتجاه، مقالات في موضوعات أشبه بموضوعات طريقة المنفلوطي، فبعضها أدبي، وبعضها أخلاقي، وبعضها اجتماعي، ومع ذلك لم يتخذ أسلوبًا فيه كثير من طابع الكتابة التنليدية التي عرفت في الفترة السابقة2، والتي كانت تتناول في أكثر الأحايين موضوعات ليس لها صفة العموم، وأغلب الظن أن امتداد تأثير هؤلاء السجاعين الشكليين من جانب، والتشبث الشديد بالتراث، وبفن المقامات من جانب آخر؛ ثم محاولة بعض الشعراء كتابة نثر فيه بعض خصائص الشعر من جانب ثالث؛ كل هذا قد أوجد هذا الاتجاه في كتابة المقالة المسجوعة، رغم انطلاق لغة المقالة وتحررها، وميلها إلى طبيعة الفن النثري الحي. ومن أبرز ما يمثل هذا الاتجاه من اتجاهات الكتابة، كتاب "أسواق الذهب" للشاعر أحمد شوقي، وكتاب "صهاريج اللؤلؤ" للسيد توفيق وقد ظهر سنة 1916، ( المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر لأنور الجندي ص243 ، ونشأة النثر الحديث، وتطوره لعمر الدسوقي جـ1 ص127. الأعلام الزركلي جـ6 ص291، وفي الأدب الحديث لعمر الدسوقي جـ2 ص421 وما بعدها ) ، وقد ظهر صهاريج اللؤلؤ قبل سنة 1912، التي نقل فيها المؤلف إلى لبنان للعلاج. ، إذا استثنينا منه قصائده المستقلة، فكل من الكتابين يحوي مقالات في موضوعات مختلفة، وإن غلب عليها طابع التأملات، والانطباعات والوصف، وما إلى ذلك من الموضوعات القريبة من ميدان الشعر، وكل مقالة تعتمد أساسًا في أسلوبها على السجع، وحشد المترادفات، وإيراد الإشارات التاريخية، وبث الحكم والأمثال، ويزيد "صهاريج اللؤلؤ" على ذلك، تضمين المقالات بعض ما يناسب المقام من الشعر، إما للمؤلف، وإما من التراث. كما يزيد "صهاريج اللؤلؤ" أيضًا اشتماله على بعض قصائد شعرية للمؤلف لا تتخلل النثر، وإنما ترد مستقلة. وليس من شك في أن هذا الاتجاه -برغم جودة بعض نماذجه- كان صحوة الموت بالنسبة للنثر البديعي المتكلف، الذي لفظ آخر أنفاسه بعد سيطرة الاتجاه المرسل، وتطور طرقه وتنوعها، منذ الفترة التالية. وهذا نموذج من "أسواق الذهب" لشوقي، يقول فيه تحت عنوان المال: "يا مال الدنيا أنت، والناس حيث كنت، سحرت القرون، وسخرت من قارون، وسعرت النار يا نيرون. تعود الحقد أن يحالفك، وكتب على الشر أن يخالطك ويؤالفك، الفتنة إن حركتها اتقدت، وإن تركتها رقدت، والحرب وهي الحرب، تبعثها ذات لهب، منك الرياح ومنك الحطب، تزري بالكرام، وتغري بالحرام، وتضري بالإجرام، فقدانك العر والضر، ونكد الدنيا على الحر، حالك وحال الناس عجب، تملكهم من المهد، ويقولون: أصبنا وملكنا، وترثهم عند اللحد، ويقولون، ورثنا وتركنا، من عاش قوموه بما ملك، ومن هلك، تساءلوا: كم ترك؟ المحروم من أوثقك، والضائع من أطلقك، وهما فقيران، من جمعك ومن فرقك، كثير هم، وقليلك غم، ومع التوسط الخوف والطمع، والحرص والجشع؛ حذر النفاد، ورغبة في الازدياد. الملك سوقة إذا نزل إليك، والسوقة ملك إذا علا عليك. أرخصت الجمال، ونقصت الكمال، وخطبت لهجن الرجال ربات الحجال، صويحباتك هن المفضلات، وغيرهن المتروكات المعطلات. العريان من ليس له منك سترة، والمستضعف من ليس له منك قدرة، فسبحان من قهر بك الخلق، وقهرك برجال الخلق"( أسواق الذهب ص67.) . وهذا نموذج من "صهاريج اللؤلؤ" للبكري، يقول فيها تحت عنوان "العزلة" متحدثًا عن عوامل هجرة للحياة الاجتماعية الحضرية، وما فيها من مفاسد: " ... وأما الأخلاء، والصحب والسجراء( الأصدقاء الأوفياء ) ، فحسبك من رجل غون في كل أمر لم ترده، ونصير في كل مطلب لم تقصده، فإن عرض لك بعض الحاج، فالعلوي يسترفد الحجاج. ماء يتلون بلون الإناء، ونيلوفر يدور مع الشمس في الإصباح والإمساء، إن جددت فإليك، أو شقيت فعليك، مدحٌ مع المادح، وقدح مع القادح.
والقوم من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل
أجسام متدانية، وقلوب متنائية، وإنكان خبر سوء فحماد الراوية.
حدث عن البحر ولا حرج، مئذنة في ظاهر مستقيم وباطن معوج.
له لطف قول دونه كل رقية ... ولكنه في فعله حية تسعى
وأما أبناء السامة3، فإن أحدهم غادة ينقصها الحجاب، ينظر في المرأة ولا ينظر في كتاب، إنما هو لباس على غير ناس، كما تضع الباعة مبهرج الثياب على الأخشاب.
وهل ينفع الوشي السحيب مضللا ... وإن ذكوت في القوم قيمته خزي
رماد تخلف عن نار، وحوض شرب أوله، ولم يبق منه غير أكدار. آباء وأحساب، وحال كشجر السلجم4 أحسن ما فيه ما كان تحت التراب "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل" إلى رطانة بالعجمية بين الأعراب "أبرد من استعمال النحو في الحساب"، "لو كان ذا حلية لتحول"، "وهل عند رسم دارس من معول".
وقح تواصوا بترك البر بينهم ... نقول: ذا شرهم بل ذاك بل هذا
ميسر يلعب، ومال يسلب. وخدن يخدع، وكلب يتبع، وعطر ينفح، وفرس يضبح.
أبا جعفر ليس فضل الفتى ... إذا راح في فضل عجابه
ولا في فراهة برذونه ... ولا في نظافة أثوابه
دنيا موجودة، ونفس مفقودة. وعقل أسير، وهو أمير. "اليوم خمر، وغدًا أمر". فبيناه غني يتملك، إذ هو فقير يتصعلك. قوت، كيلا تموت. ومن إيوان كسرى إلى بيت العنكبوت ... "( صهاريج اللؤلؤ ص142 وما بعدها.) . وأما الاتجاه الآخر، فقد كان كرد فعل للاتجاهين السابقين، فهو لم يكن شديد الكلف بتجويد الصياغة، ورعاية جانب البيان، كما لم يكن -من باب أولى- متكلفًا للسجع مصطنعًا لغة المقامات، وذلك؛ لأن السائرين في هذا الاتجاه، لم يكونوا من المتعلقين بالتراث، ولا من المؤمنين بفكرة الجامعة الإسلامية التي تشد إليه، وإنما كانوا من المولين وجوههم شطر الغرب، ومن المؤمنين بالحضارة الأوروبية أشد الإيمان، ومن هنا لم يشغلوا أنفسهم بتجويد الأسلوب تجويدًا بيانيًا كما فعل المنفلوطي، كما لم يرهقوا أقلامهم بتحميلها أعباء البديع كما فعل البكري، وإنما اهتموا أعظم الاهتمام بالجانب الفكري، فمالوا إلى الموضوعية، واصطناع المنطق، وجنحوا إلى الوضوح والدقة، والترسل الكامل. هذا إلى تحميل الكلام شحنة من الثقافة والفكر الغربي، وخير من يمثل هذا الاتجاه في تلك الفترة أحمد لطفي السيد المولود بقريق برقين من أعمال السنبلاوين سنة 1872، وتعلم في كتاب القرية ، ومن أمثلة مقالاته ما كتبه تحت عنوان: "غرض الأمة هو الاستقلال"، (الأدب العربي المعاصر في مصر ص257-258.) حيث يقول: "استقلال الأمة في الحياة الاجتماعية، كالخبز في الحياة الفردية، لا غنى عنه؛ لأنه لا وجود إلا به، وكل وجود غير الاستقلال مرض يجب التداوي منه، وضعف يجب إزالته، بل عار يجب نفيه.. استقلال الأمة عمن عداها، أو حريتها السياسية حق لها بالفطرة، لا ينبغي لها أن تتسامح فيه، أو أن تني في العمل للحصول عليه، بل ليس لها حق التنازل عنه لغيرها، لا بكله ولا بجزئه؛ لأن الحرية لا تقبل القسمة، ولا تقبل التنازل، فكل تنازل من الأمة عن حريتها -كلها أو بعضها- باطل بطلانًا أصليًّا، لا تلحقه الصحة بأي حال من الأحوال، فلا جرم مع هذا المبدأ المسلم به عند علماء السياسة أن قلت: إنه يجب على الأمة أن توجه كل قواها -بغير استثناء- للحصول على وجودها، أي الحصول على الاستقلال..". هذا، وقد كانت تلك الاتجاهات الأسلوبية الثلاثة، تتقاسم أقلام الناثرين عمومًا في تلك السنين، على اختلاف الميادين التي فيها يكتبون؛ فقد كانوا يسيرون في تلك الاتجاهات الثلاثة، ولكن مع غلبة الاتجاه المحافظ البياني، أو سيطرة الأسلوب المرسل الجانح إلى جمال العبارة وجودة الصياغة، حتى فيما سوى المقالة من فنون النثر الفني، ولذا يمكن أن يقال: إن تلك الفترة قد شهدت -بظهور أول طريقة فنية للمقالة- ظهور أول طريقة فنية للنثر الحديث، وهي طريقة المنفلوطي.




المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
دراسات جامعية-في الأدب العربي
صاحب الموسوعة الأدبية (المرصد الأدبي )
حجم الموسوعة( خمس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا- hoshn55@gmail.com
السيرة الذاتية للمستشار الأدبي(حسين علي الهنداوي)
أ- أديب و شاعر وقاص ومسرحي و ناقد و صحفي
ب- له العديد من الدراسات الأدبية و الفكرية
ج-نشر في العديد من الصحف العربية
د- مدرس في جامعة دمشق - كلية التربية - فرع درعا
ه- ولد الأديب في سوريا – درعا عام 1955 م
و- تلقى تعليمه الابتدائي و الإعدادي و الثانوي في مدينة درعا
ح- انتقل إلى جامعة دمشق كلية الآداب – قسم اللغة العربية و تخرج فيها عام 1983
ك- حائز على إجازة في اللغة العربية
ص-حائز على دبلوم تأهيل تربوي جامعة دمشق
ع- عمل محاضراً لمادة اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين - قسم اللغة العربية في مدينة درعا
ف- انتقل إلى التدريس في المملكة العربية الســـعودية عام (1994 /2000 ) في مدينتـــي عنيزة و تبوك 0
1- عضو اتحاد الصحفيين العرب
2- عضو اتحاد كتاب الانترنت العرب
3- عضو تجمع القصة السورية
4- عضو النادي الأدبي بتبوك
مؤلفاته :
أ*- الشعر :
1- هنا كان صوتي و عيناك يلتقيان/1990
2- هل كان علينا أن تشرق شمس ثبير/1994
3- أغنيات على أطلال الزمن المقهور /1994
4- سأغسل روحي بنفط الخليج /1996
5- المنشّى يسلم مفاتيح إيلياء/1996
6- هذه الشام لا تقولي كفانا / مخطوط
ب*- القصة القصيرة :
شجرة التوت /1995
ج – المسرح :
1- محاكمة طيار /1996
2- درس في اللغة العربية /1997
3- عودة المتنبي / مخطوط
4- أمام المؤسسة الاستهلاكية / مخطوط
د – النقد الأدبي :
1- محاور الدراسة الأدبية 1993
2- النقد و الأدب /1994
3- مقدمتان لنظريتي النقد و الشعر / مخطوط
4- أسلمة النقد الأدب
هـ - الدراسات الدينية :
1- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الأول
2- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثاني
3- الإسلام منهج و خلاص ـ الجزء الثالث
4- فتاوى و اجتهادات / جمع و تبويب
5- هل أنجز الله وعده !!!!!!
و- موسوعة (المرصد الأدبي) :
1-تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية ( معاني الأدب وعلاقاته)
2 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية قبل الإسلام (العصر الجاهلي )
3 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر صدر الإسلام )
4 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الراشدين )
5 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية (عصر الخلفاء الأمويين)
6 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العباسيين )
7 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء الأندلسيين )
8 - تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الدول المتتابعة )
9- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية(عصر الخلفاء العثمانيين )
10- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العصر الحديث)
11- تاريخ الأدب والنقد والحكمة العـربية والإسلامية في (العهد المعاصر)