حين يوليكَ أحدُهم اهتمامَهُ وحبَّهُ.. ويَهَبُك نفسَهُ وكيانَهُ وقلبَهُ.. يعني هذا أنَّه خصَّك بولائِهِ المطلقِ مدى الحياة حسبَ نيَّتِه ونبضِ حسِّه، إلا إذا تغيَّرتِ الأحوالُ حسبَ المكتوبِ وقضاءِ الله.. إذ يصبح مجبولاً على الوفاءِ والولاءِ لك، ولم يعُدْ بحاجةٍ لأنْ يقاومَ أيَّ إغراءٍ لتركِك أو خيانتِك أوِ التخلي عنكَ، وبذلك قد تصبحُ كلُّ حياتِه رهينةً بين يديكَ سواء كانَ موظفا عندك بالعمل قد تفانى في عملِه معك، أو خادما قد نذرَ نفسَه لخدمتِك طولَ حياتِه ليتبَعَك، أو زوجةً مطيعةً أحبَّتك فجعلتْ حياتَك جنةً ببلسمِ الصبر والمداراة لتزهرَ مترَعَك، أو أيّاً كان قد خصَّك بهذا الولاءِ الزاخرِ بالإصرار على البقاء والتفاني لك.. وبالتالي إذا أيّاً منهم لم يلاقِ منك جزاءً ولا شكورا فهذا ظلمٌ وقسوةٌ ونسفٌ لنبضِ الإنسانيةِ وحقوقِها.. ونبذٌ كذلك للعرفانِ بالجميل..
وحين تكونُ لطيفا ومؤدبا مع من يفتقرون إلى معنى الحشمةِ والإحترامِ، أو مع من تعجْرفَتْ طباعُهُم بالغرور أوغيرِه، وتكون ردَّةُ فعلِكَ عند الأذى أوِ الإهانةِ راكنةً ساكنة.. فهذا قطعا ليس ضعفاً منك، وإنَّما هو إعلانٌ عن حسنِ أخلاقِك، وقوَّةِ إيمانِك، وتحكُّمِك في ثوراتِ نفسِكِ عند الغضبِ، قطعا سوف تُتممُ صمتَك، لأن صمتَك هنا سحرٌ يطلسِمُ أنفاسَ المتمرِّدين والطغاة، يحلِّلُ جَبَروتَهم، فتتركُهُمْ في صمتِكَ يتفَكَّرون، يحتارون حينَ يتأثرون، قد يتراجعون، فالزمان كفيلٌ بأنْ يغَيِّرَ من أطباعِ نفوسٍ مُنْهَكَة، ويُنَحِّيَهمْ عن طريقِ الفُحْش والسَّفاهةِ والبغيِ والتَّطاولِ أيضا والإنحراف وعُقُمِ الضياع -أصلحَهُمُ اللهُ وهداهُمْ في يوم معلومٍ كان مجهولا..
أما حين نصمتُ عند ثورةِ الغضب، ويظلُّ لسانُنا مُلجَماً متحفِّظا متحصِّنا بذكرِ الله، فهذا لا يُعتَبَرُ ضعفاً منا أبدا، وإنما هو قوةٌ صارخةٌ ترقِّينا يَرفعُ قيمَتَنا ويُحَلَّينا، إن كان مع السفيهِ فهو قهرٌ ناسف له، وإن كان عند سوءِ الظنِّ فهو عقابٌ أليمٌ لشخصهِ حين تنيرُ الحقيقةُ معقلَه، وإن كان في المجالسِ التي يكْثرُ فيها اللغوُ والضجيجُ فهو قيمةٌ ووسامٌ وميزةٌ لا يحسنُها إلا مَن تأهَّلَت نفسُه إلى مرتبةِ الرُّقيّ فيُدعى له، وإنْ كان أمامَ الوالدين فهو برٌّ وثوابٌ ونيلُ رضى اللهِ ورضى الضَّميرِ وقد يَحْتَدي به كلُّ مَن حولَه..
وحين نُخَصِّصُ الصَّمْتَ للتَّأملِ في أحوالِ الدُّنيا والآخرة، ونَرْصُدُهُ للنَّظَرِ العميقِ في استخراجِ حلولٍ نُنْقِذُ بها البشريةَ، عن طريقِ موعظةٍ أو نظريةٍ، كانت كتابةً أو تطبيقا في رحابِ الصمتِ من أجلِ التركيزِ والتدقيقِ قَصْدَ التَّنْوير، نكون بذلك قد سمَونا بأَهدافِنا إلى ما يُحبُّه اللهُ ويرضاه، فتتضاعفُ حسناتُنا، وبثواب أعمالِنا نكونُ منَ الفائزين بإذن الله بسمُوِّ تفكيرِنا وتدبيرِنا وعلمِنا النافعِ..
لذلك لابُدَّ أنْ نُعِزَّ ونحترمَ أهلَ الولاءِ وأهلَ الإحترامِ وأهلَ الصمتِ المحمود، وأن نُباركَ روحَهمْ ومسارَهُم ونجزيَهُمْ أحسنَ الجزاءِ، ولابُد لنا أن نحترمَ بعضَنا، وأن نتَفهَّم غيرَنا، وأولادَنا وأهلَنا وأصدقاءَنا وَمَن حولنا ونعزَّهُمْ ونُبارِكَهُمْ، أن نُعطيَ لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه منَ الحبِّ والجزاء والتقدير وحقِّ التعبيرِ ككيانٍ إنساني متواجدٍ يحقُّ له أن يعيشَ ويسعدَ ويعَبِّرَ عن مبْتَغَياتِهِ بالمطلق، فقط أن لا يتحدَّى حُدودَ الله، وأن ندعُوَ لغيرنا في ظهرِ الغيب، ونتفانى في محبَّةِ واحترام وتعزيزِ كلِّ من يستحقُّ ذلك حسب الواجب والموجب.. حتى تستقيمَ أمورُنا وتنتعِشَ حَياتُنا..
فالله يعلمُ ما ظهرَ من أعمالِنا وما بطن، ويُثَبِّتُ ذلك ملائكتُهُ والقلمُ.. وما نأتي به من خيرٍ وإحسانٍ مُعْلَنٌ عند الله سبحانه وتعالى، فلنعمل ليوم لا تنفعُ فيه الحسرةُ ولا الندم..
أدامكمُ الله وأسعد قلوبَكم بكلِّ خير يا أروعَ خلقِ الله..
والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه..