أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 14

الموضوع: صوت اللسان

  1. #1
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي صوت اللسان

    صوت اللسان

    يتشبّث بجذع نخلة، عشقها منذ زمن طويل، كلّ صباح يخرج محتمياً بالولاء، يتردّد إلى دكان له في السوق، بقالاً يبيع التمر فيه، يولّي بصره نحوها، يشير إليها، يكاد لا يبصر سواها، يسقيها، يطوف حولها، يصلّي عندها، يفتضّ سرّه وسرّها، يحدّثها:
    - بوركت من نخلة، لك خُلقتُ، ولي غُذِّيتِ.
    يهزّ جذعها؛ لعلّها تساقط موته الجميل الذي ينتظره، مذ بشر به صاحبه الأمين:
    - ستصلب على جذع هذه النخلة، ولن تموت حتى يُقطع لسانك.
    يحمل خشبته على ظهره، وكفن مكتظّ برائحة النخيل، وبالحنين لرفاق الأمس؛ وجوه تستظلّ بعتمة الليل، تطارد خطاه، تراود رأسه، تبغي لسانه، تطلق صيحة استنكار كلّما مرّ بهم:
    - هذا هو الكذّاب، مدّعي الغيب.
    يخرج صوته المخبوء تحت طي لسانه، تستيقظ النهايات على جبين الناظرين إليه، يفرّ الآخرون خوفاً من لسانه، يطارد خيولهم الهزيلة:
    - انتظروا كي لا تموتوا، لا تهجروا مقام الراحلين، ستضيق بكم الأمكنة إذا ما انفصل رأسي.
    يمعن في الظلمة، يعاود صورة موته، يشعل قنديله، يرسم ما بين الحرائق والخرائب أطياف العاشقين، يتسلّق سلالم الاستغراب:
    - كيف تمدّ المدينة جسراً نحو الجوع والخوف، نحو الجحيم؟!
    يمازحه صوت في السوق، يقطع حبل خلوته:
    - أيّها التمّار، أ لم تهيّء رأسك؟ لقد طال الانتظار.
    يدلق شهقة، يلتفت نحو النخلة، تبتسم المسافة الممتدّة بينهما، تفوح برائحة نشيج بقّعهُ الأنين، يثمله شوق اللقاء، يتلمّس رقبته:
    - سيطرقون الباب.
    في الصباح يقف على دكة السوق، يلوي عنان الخوف، يصدح بالسرّ:
    - ألم تزكم أنوفكم رائحة الجثث المتعفنة، رائحة القمامة التي ملأت أرجاء السوق؟ أتخشون رجالاً ممتلئين شبقاً وشهوة؟ سأريح ضميري، افتحوا كتابكم ولا تبارحوا نوره.
    يتحصّن بحجته:
    - ستعرفون الطريق حين أُصلَب على تلك النخلة، حين يقطع رأسي ولساني.
    جدران القصر، أبوابه، يصفعها الصوت، تهتزّ؛ سدنة الليل المخمورون بالترف، يستعينون بمخاوفهم:
    - مولاي، لسان التمّار اعتقل الجميع، يجلدهم بسوط نبوءاته الكاذبة.
    - اسجنوه.
    أسوار السجن تضيق ذعراً به، يخنقها صوته المجلجل بين السجناء، يشحذ هممهم، ينبثق من لسانه ضوء يلهج بالحياة، يعشق إشراقة الصباح:
    - أنت ، وأنت، وأنت, و... ستلحقون بنا؛ أما أنت ستنجو، وتدرك ثأرنا، أمّا أنا سأرتدي ثوب الحكاية.
    عند سعال الليل يطلق سراحه، يمشي حافياً، السوق خالٍ من الباعة، الطرقات مكتظّة بالوحشة، تتراص على أطرافها مخالب تقطر دماً، رغبة جامحة تكبح خطواته، يختلس النظر إلى نخلته، يمرّ بها سريعاً، يمسح ما تيسر من كربها، يتدلّى السعف، يدنو منه، يتساقط، تصفق الحمائم بأجنحتها حائرة، تلوذ فاختة بالفرار، يتلوّى الجذع حوله عارياً، الصورة تقترب من الاكتمال.
    عند الفجر يعتقل مرة أخرى، لم يكن بوسعه غير أن يجدل ضفائر اللقاء، الحضور يتجدّد، يهتك ستر الخوف، يفقؤ عين العتمة:
    - اقتربوا منّي أكثر، ها أنا رجعت إليكم ثانية، لكنّي مفارقكم؛ فاجعلوا من غيبتي جسراً يمتدّ إلى القادمين من مساكن النور, ولا تخبّئوا رؤوسكم في الطمي.
    جذع النخلة يتشكّل خشبة، يُرفع عليها عند باب جار النخلة، يلتفت إليه باسماً:
    - لماذا تبسّمَ في وجهك؟ قال أحدهم.
    - كان والله يقول لي إنّي مجاورك، فاحسن جواري.
    تُقطع يداه ورجلاه، وقبل أن يقطعوا رأسه تركوه جانباً؛ ليحتفلوا بزهوهم، بانكساره، ينادي خلفهم:
    - مهلاً، ألا تقطعون لساني؟.
    ابتسامة خبيثة ترتسم على شفتي السيّاف:
    - حتى يعرف الحاضرون، من الكذّاب.
    تخزه العبارة، تدمع عيناه، يطلق في الحضور صوته:
    - من أراد الحديث المكتوم، فليستمع لآخر كلماتي.
    اللسان يلهث بين الفكين، تفتح الشفتان، يفرّ الصوت، يفتح نافذة للطرقات، يكشف الستر، يلهج بفضائل صاحبه الأمين... ينتصب اللسان جيشاً، المكان يتّسع، الحضور يتناسلون خوفاً، يغتنمون ودّ اللحظة، لحظة ضجيج الحرف " الشهداء يتجددون، الشهداء قادمون..."؛ فيفرون إلى أنفسهم، تاركين ظلّهم غارقاً بالدموع.
    - أيّها الأمير، لقد فضحكم هذا العبد.
    يقطب جبينه، يعبس، يرتعد غيظاً:
    - وماذا تنتظرون؟ الجموه.
    ينخره الوجع، يتلظّى بنار الانتظار، ضباب كثيف يغشى عينيه، لا يكاد يرى سوى رجلٍ مهتاج، أكثر الطعن فيه:
    - افتح فمك.
    - عجيب أمركم! تطلبون أمراً لم ترجوه بالأمس.
    - سنقطع لسانك؛ كي تسكت إلى الأبد.
    يبتسم على رغم الجراح:
    - آن لي أن أرحل، لقد صدقت النبوءة.

  2. #2
    قاصة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 1,224
    المواضيع : 115
    الردود : 1224
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    أناقة الحرف و فخامة اللغة والسرد..

    منتهى الابداع سلم القلم
    البحر ...رغم امتلائه بالماء..
    دائما يستقبل المطر

  3. #3
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    القاصة الفاضلة سعاد محمود الامين
    امتناني وتقديري لجمال حضورك

  4. #4
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,101
    المواضيع : 317
    الردود : 21101
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    تألقت حروفك فكرة وتعبيرا ، وتلمست الفلسفة تتجلى في غمدها
    مهارة في رسم المشهد وشحنه بالشعور بلغة فاخرة
    وحروف ثرة وأداء بديع.
    بوركت ـ وبورك قلمك المبدع الجميل. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    الصورة الرمزية عبدالكريم الساعدي أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2015
    المشاركات : 247
    المواضيع : 48
    الردود : 247
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    الفاضلة نادية محمد الجابي
    امتناني وتقديري لك

  6. #6

  7. #7

  8. #8
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    تميّز في الأسلوب واللّغة والسّرد!
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  9. #9

  10. #10
    الصورة الرمزية عباس العكري مشرف قسم القصة
    أديب

    تاريخ التسجيل : Jul 2016
    الدولة : البحرين
    المشاركات : 588
    المواضيع : 34
    الردود : 588
    المعدل اليومي : 0.21

    افتراضي

    النص السردي: (صوت اللسان) للروائي العراقي: (عبدالكريم الساعدي) نص يمسك فيه خيوط السرد، ومن خلال رموز عديدة ودلالات كبيرة، وبطريقة ذكية ليخدم النص، بطريقة جديدة، ليكون النص أكثر تشويقا ومتعة، من خلال الثيمة البطولية المحورية للشخصية الرئيسة: (ميثم التمار) مما يجعلنا في غاية الدهشة، مما يدلنا على أن (الساعدي) يملك فن صناعة الرواية والقصة، حيث هيئنا لنبحر معه في الأحداث، دون أن تضطرب أمواج نصه السردي، بجهد مضني ونمط تجديدي، بلغة منسابة مبهرة، ليسيطر على الحواس، وينقلنا إلى فضاء الولاء والحنين والتسليم بالقضاء والقدر حيث أنّ الثبات على اليقين يقتضي التضحية، والولاء والثبات هو العامل الرئيس لكل ذلك. فثيمة النص القطع بالتسليم لمن يتولاه ومن ينتهج بنهجه دون أن يحيد عنه ليستشهد كل بطل دفاعا عن عقيدته ويضحي دون تردد.

    يحيلنا النص إلى: (ميثم بن يحيى التمّار الأسديّ الكوفيّ) وكان يبيع التمر في الكوفة؛ لذا لقّب بـالتمّار.استشهد بعد أن قطعت يداه ورجلاه ولسانه.

    النص يهطل غزارة شعرية وتأملية ويحافظ على تطور الحدث وتناميه من خلال فكرة رصينةـ فاهتم القاص: (الساعدي) بالشخصية المحورية: (ميثم التمار) ورسم لنا بقلمه صورة الشخصية النموذج للثبات والتسليم، ويتحرك النص مع حركة أحداث القصة مرورا بخلجات الشخصية من وجدان وفكر وعمل وقول، فبدأ بالحدث السردي من بؤرة النص النخلة وجذعا الثابت الذي يشمخ للعلو، وينقل لنا صورة مقربة للمشهد العام من الأعلى ثم يتطور الحدث من العام إلى الخاص مرورا بالتفاصيل الجزئية دون أن يكشف الأحداث فجأة.

    صوت اللسان، أي لسان الحق: (ميثم) فاللسان آلة لا تعبر عن الحق إلا بإرادة صاحبها، كما المزمار لايعزف ألحانا إلا من خلال النفخ فيه، فروح الإنسان هي من تنطق لا اللسان، ولذا فالأحداث التاريخية الغزيرة التي هطلت علينا من يراع القاص والاحداث المتسابقة المتشابكة من خلال الأفعال المضارعة المتزايدة والجمل القصيرة الدالة على التسارع ميزة امتاز بها الساعدي وتألق من خلالها، حتى أوصل القراء نحو الذروة لتحتدم الأحداث، ولذا فهو قد أمسك بزمام الحركة السردية ولم تنفلت منه، ليكشف لنا عن رمز العنوان: (صوت اللسان) والذي اتضح من خلال قطعه، ليصحبنا نحو تاريخ العراق وماضيه الأحمر، لذا فالنص يحوي طابعا روائيا وسردا انتقاليا وبناء وثيمة واختزالا وحذفا وغاية متوخاة ولغة شعورية تحتدم فيها صراعات داخلية وخارجية للمحيط وللفضاء التاريخي السالف من كتم وقمع روحي ونفسي لقيم دينية واجتماعية بين صراع حق وباطل وهكذا تنتهي المسيرة السردية البطولية.

    أحداث واسعة تتداخل فيها الحواس ولمسات مؤثرة ماتعة شيقة ومن خلال حدث سردي يجعل التاريخ مرئيا والإحساس معايشا بوعي عال من القاص يستحق عليها الثناء دون ترهل أو ملل مؤرخا لحقبة تاريخية مهمة في الشأن الاسلامي والعراقي. وكأنها وثيقة إدانة تاريخية للأنظمة السابقة. فهذه الأحداث الواقعية للعملية السردية تسبب صدمة شديدة لوعي المتلقي ليصطبغ بشعور الحدث الصادم ومن بعد ذلك يتأثر فيتغير شعورا وفكر وسلوكا، لصدمة روحية عنيفة ومن هنا فاللوحة الكبيرة تتضح من خلال: (ميثم) وقلما نجد من يدافع ويثبت، فترى الدمع ينهمر على الراحلين في زمن مخيف ابتلع الباطل الحق، لولا أن تداركه (ميثم) لما بقي شيء

    دمت
    التعديل الأخير تم بواسطة عباس العكري ; 14-01-2017 الساعة 07:02 PM

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. (صوت أزيز المرجل) : مجاراة لقصيدة (صوت صفير البلبل)
    بواسطة عادل عبدالوهاب ابوالمقداد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 10-08-2023, 07:05 PM
  2. تقويم اللسان
    بواسطة بابيه أمال في المنتدى المَكْتَبَةُ الأَدَبِيَّةُ واللغَوِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 22-09-2008, 12:19 AM
  3. أدب المجالسة وحمد اللسان وفضل البيان وذم العي وتعليم الإعراب وغير ذلك..
    بواسطة بابيه أمال في المنتدى المَكْتَبَةُ الأَدَبِيَّةُ واللغَوِيَّةُ
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 07-04-2008, 08:27 PM
  4. عجز اللسان عن الكلام
    بواسطة سنام الجهاد في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 03-08-2004, 11:20 AM
  5. شلَّ اللسانُ
    بواسطة بندر الصاعدي في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 19
    آخر مشاركة: 08-10-2003, 04:06 PM