لا ينبغي لنا قراءة التجربة الإبداعية التي يخوضها شاعر المقاومة الأستاذ أشرف حشيش دون الانتباه إلى الوشائج التي تربطها بالتاريخ الإبداعي لشعراء المقاومة الفلسطينية . فالإرث الثقافي الضخم الذي خلفه شعراء المقاومة الداخلية على مدى نصف قرن ونيف، يمتلك من الهيمنة والتأثير ما سيمكنه على الدوام من التدخل المبكر في صقل مواهب الشعراء الجدد والتدخل في تشكيل الأرضية التي سينشئون عليها تجاربهم الإبداعية الجديدة . وهو ما يقلص فرصهم في امتلاك الخيارات اﻹبداعية التي تتجاوز ذلك الإرث.
ويجمع النقاد على أن ثلاثي المقاومة الفلسطينية الداخلية المكون من محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم قد أصلوا مضامين شعر المقاومة ووسموها بسماتها التي ما انفكت عنها بعد ذلك . ومن أهم هذه السمات التحدي و والتشبث بالأرض واليقين بأن البقاء فيها والحفاظ على ذاكرتها يمثل جزءا من الانتصار.
على أن الانتباه للوشائج الممتدة من ستينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا لا يلغي ملاحظة ما يحاول كل شاعر أن يضيفه من مميزات إبداعية خاصة بشخصيته الشعرية .
والشاعر أشرف حشيش يعد اليوم من الأسماء البارزة في مجال السبق الإبداعي للشعر الفلسطيني المقاوم . وهو وإن كان لم يطبع بعد أعماله الإبداعية ورقيا إلا إن حضوره الإبداعي المميز في المواقع والمنتديات الثقافية والأدبية غير خاف . ولعله بدأ بنشر أولى قصائده في عام 2007، ثم إنه شق طريقا إبداعيا بدأت تتضح معالمه الشخصية تدريجيا ليصل إلى تلك الدرجة التي تمكن قارئه من تمييز نصه حتى دون أن يقرأ اسمه.
وفي هذه القراءة للخصائص الفنية في شعره نحاول استكشاف الخيارات الإبداعية التي امتلكها الشاعر حقا، والتي فارق بها موروثه الثقافي من شعر المقاومة .
والمقصود هنا بالخيارات الإبداعية تلك الخصائص التي ميز بها شعره مخالفا من سبقه من شعراء المقاومة ومتملصا من بعض تعاليمهم .
ويمكننا تقسيم هذه الخيارات الإبداعية بردها إلى مستويين اثنين:
أولهما مستوى الشكل الإيقاعي ، وثانيهما المستوى الأيديولوجي.
أولا: مستوى الشكل الإيقاعي.
اعتمد شعراء المقاومة جميعا ،مع استثناءات ضعيفة، على شعر التفعيلة أساسا وفي الأعم الأغلب. كما لجؤوا إلى (الشعر المنثور)ثانويا.
ويشمل ذلك محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وعز الدين المناصرة وأحمد دحبور ومريد البرغوثي وسواهم .
وفارقهم الشاعر أشرف حشيش باعتماده الشعر العمودي أساسا مع بعض القصائد المبكرة التي اعتمد فيها إيقاع التفعيلة .
ونستطيع تبرير الاعتماد على شعر التفعيلة عند شعراء المقاومة السابقين،بحكم المرحلة التاريخية التي نمت فيها جذور شعر المقاومة والتي شهدت ظهور وسيطرة تيارات الحداثة في الأدب عموما والشعر العربي خصوصا. ومنها تيارات الشعر الحداثي بشكليه التفعيلي و(المنثور).
وقد أثرت الحداثة في جميع المعايير الفنية للشعر (شكلا ومضمونا ). وساهمت إلى حد كبير في الوصول إلى المستوى الرفيع من الشاعرية والموسيقية والبساطة التعبيرية ، هذه الخصائص التي مكنت شعراء المقاومة الفلسطينية من حفر تأثيرهم في وجدان المتلقي العربي وذائقته.
وفي محاولة تبرير خيار الشاعر أشرف حشيش في تبني الشكل الإيقاعي القديم لقصيدته المقاومة، متجاهلا الشكل الإيقاعي الضارب عميقا في البنية الفنية لهذه القصيدة والذي كان أحد أسباب نجاحها ، يمكننا القول إن المخالفة بحد ذاتها هنا تمثل تحديا ذاتيا يتحدى به الشاعر نفسه. بحيث أنه يقيد نفسه بالمزيد من الشروط التي اعتبرها سابقوه معيقة للتعبير ، ثم يدفع بعد ذلك بتجربته الإبداعية إلى مضمار السباق الإبداعي.
ومع تمكن الشاعر من الشكل التفعيلي ،قد يكمن السر في الرغبة الحقيقية لدى الشاعر بمخالفة سابقيه، فضلا عن قناعته بأصالة الشكل العمودي ،وضرورة تمسكه بهذه الأصالة التي يحترمها ويتمسك بها ليكون أقرب إلى الذائقة العامة التي يعول عليها في خطابه الشعري المباشر.
ولا شك أن الشكل التاريخي الأقدم أقوى من الناحية الخطابية وأجدر بأن يتفاعل مع القضية تفاعلا أصاليا يتصل مع القيم والعقائد الثابتة غير المهتزة التي حمل مضمونها في عهود القوة .لا تفاعلا رجراجا مختلطا بهزالة القيم وضياع الثوابت العقدية كما هو الحال في خلفيات الشعر الحداثي .
نحن هنا نكاد نربط بين الخبار الإبداعي للشكل الإيقاعي و الخيار الأيديولوجي عند الشاعر. والأمر كذلك حقا - كما أراه - في بعض جوانبه. وليس هذا تحليلا كاملا لجميع أسباب الشاعر. ولكنه يبقى مجرد استناج محتمل . إذ لا يمكننا إثباته وتأكيده بالاستقراء المباشر للنصوص ،ولكنه يبدو من التوجه العام للشاعر في المضامين الفكرية لنصوصه.
والأفضل لنا توجيه الدعوة للشاعر نفسه ليجيب بنفسه عن السؤال المتعلق بخيار الشكل الإيقاعي العمودي لشعره إجابة دقيقة .
ونعود نحن إلى تحليل خياره الإبداعي على المستوى الأيديولوجي انطلاقا من شعره المتسم بالوضوح والمباشرة في استعراض مضمونه .
ثانيا: المستوى الأيديولوجي
علينا أن نلاحظ أولا أن شاعرنا قد أظهر في شعره تمسكه بالعقيدة الإسلامية إظهارا قويا.
بحيث أنه جعله أحد مفاخره الشخصية .
وبمقارنة هذه السمة مع ما هي عليه عند شعراء المقاومة الأوائل سنكتشف ضعفها وهزالتها عندهم ومعظمهم منتمون إلى الحزب الشيوعي الملحد. ولقد كان تنصلهم من العقيدة وضعفهم فيها كفيلا بإضعاف التفاف الجماهير المسلمة حولهم.
لولا طاقاتهم الإبداعية العبقرية العالية التي قدموا فيها بدائلهم الأيديولوجية المبهرة النابعة من روح المقاومة والتي التصقت بضمير الإنسان الفلسطيني ومعاناته في الداخل والخارج.والتي فجروها في الوجدان العربي اليائس على المستوى النفسي الجماعي، فأثمر ذلك في دفع الجماهير المتعطشة للأمل لقراءة أشعارهم السياسية بوصفها الخيار الوحيد لإنعاش الروح المعنوية المنهارة لدى للمتلقي العربي ،في وقت خلت فيه الساحة الأدبية إلا من البكاء والعويل واليأس منذ ما أعقب النكبة الفلسطينية عام 1948 وحتى الظهور الساطع والمتألق ﻷدب المقاومة الفلسطينية الحداثي خلال فترة الستينيات من القرن العشرين.وخاصة ما بعد النكسة عام 1967.
فهم من أحيا الأمل وهم من عالج جراح الكرامة العربية بالتحدي والصمود وإيقاد جذوة المقاومة وهم من عبر عن معاناة المنكوبين الذين تجاهلتهم البشرية وحكامها.
وقد فعلوا كل ذلك بلغة شاعرية شفافة بسيطة فهمها كل من سمعها فامتلكت وجدانه.
ولا شك أن سمات البساطة التعبيرية والسلاسة الإيقاعية والالتصاق بمعاناة الإنسان الفلسطيني وبالأحداث الميدانية على الأرض هي من أهم وأبرز ما اعتنى به الشاعر أشرف حشيش وحافظ عليه من زخم الإرث الشعري الذي حصل عليه من شعراء المقاومة.
وسنحاول في هذه القراءة استكشاف خياراته الإبداعية التي تبرز من خلال الخصائص الفنية والأيديولوجية الأبرز في قصائده .
ولا شك أن هذه الخصائص هي ما دعت بعض المعجبين بشعره لتلقيبه (بالشاعر النهر )، هذا اللقب الذي يعكس السلاسة الإيقاعية والتدفق العاطفي الصادق المشبع بالتحدي والانتماء والولاء.
غير أن الخصوصية في أسلوبه تتبدى في التفاصيل الجمالبة الناعمة التي تترتب على خياراته الإبداعية.
1- تأكيد الشخصية القوية للشاعر :
معظم نصوص الشاعر أشرف حشيش تؤكد حضور الشخصية القوية للشاعر الإنسان صاحب النص من خلال ولائه للأرض وتفاعله مع الحدث الحي المقاوم فوقها.
2-العتاب:
يتلازم استخدام الضمير الشخصي ( أنا) عند الشاعر مع استخدامه ضمير المخاطبة المؤنثة (أنت ،أو كاف المخاطبة) ولكن هذه ال(أنت )ليست امرأة . بل هي الأرض المعشوقة. هي (فلسطين ) التي يلح الشاعر في تأكيد انتمائه إليها بتكرار مخاطبتها وتكراره في معظم نصوصه بلهجة قوية ممزوجة بعتاب مستمر . وبهذا العتاب المسكون بالولاء والانتماء يتمكن الشاعر من فصم تلك الشخصية المخاطبة (المزدوجة) إلى شخصيتين، تمثل إحداهما الأرض المعشوقة بينما تمثل الأخرى شخصية أنثوية مستبدة غيرمعينة تحاول تجاهل حضور الشاعر وطمس تأثيره.
في قصيدته( أنا موطني لغةٌ وأمّي ثورةٌ )
يقول الشاعر :
مــــا دام تــاريـخـي يـثـيـرُكِ عـــاودي … فــيــه الــمــرورَ , ولـــو كــطـاغٍ مـــاردِ
ثـم اطـرحي “الـطبريّ” جـنبا واتـركي … مـــا قالـه عـنّـي وعـنـك “الـواقـدي
وروائــــعُ الأحــــداثِ أســفــرَ نـبـضُـها … عــن ألــفِ نــصٍ فـي عـرينِ قـصائدي
كيف اختلفتِ معي على الصوتِ الذي … غــنّـاكِ فـــي وطــن الـغـرام الـخـالدِ؟
في البيت الأول يوجه الشاعر الخطاب لشخصية أنثوية غامضة يطالبها بمعاودة قراءة تاريخه الذي يثيرها، حتى ولو كانت تلك القراءة متصفة بالطغيان. ومادام التاريخ تاريخه هو ،والطغيان محتمل منها فسوف يبعد عن ذهن المتلقي أن تكون المخاطبة هي الأرض الفلسطينية.
لكن الشاعر الذي يستحضر التاريخ عبر ذكره المؤرخين الطبري والواقدي في كتابيهما "تاريخ الطبري(تاريخ الغزاة والممالك )و (فتوح الشام ) مع تأكيده أنهما قد كتبا عنهما معا يعيد المتلقي إلى احتمال كونها الأرض .
أيـخـاصـم الـطـيـرُ الـفـضاءَ ولــم يـكـن … لــــولا الــفـضـاء بــشـاهـقٍ وبـسـائـدِ
ومــتـى الـبـطولة خـاصـمت فـرسـانها … هــل فـي مـلاحم أمّـتي مـن شـاهدِ
فـــأنــا وأنـــــت حــكــايـةٌ أضــواؤهــا … شــعّـت إلـــى الـدنـيـا بـلـفـظٍ واحــدِ
ولأنـــتِ فـــي قـلـبـي وإن عـانـدتني … ســأظـل طـــوع الـنـبض غـيـر مـعـاندِ
وهي تعانده وهو باق غير معاند لها .وهو صبور عليها لين معها. على العكس مما كان عليه في مطلع القصيدة.
أهـدي الـزهور لـمن أحـب وفـي يديْ … ســيــفٌ يـطـاوعـهُ طــويـلُ الـسـاعـدِ
وفــتـحـتُ نــافــذة الــتـفـاؤل حــالـمـا … فـــي فــرحـةٍ تــأتـي بـبـسمةِ عـائـد
لــيَ صـولـةٌ فـيـها يـراسـلني الـشذا … مـتـخـطـيا بـالـعـطـر ســـور الـحـاسـدِ
فــي نـظرتي الأمـل الـمغامر لـم يـزل … يَـقِـظـا,وغمض الــطـرف لـيـس بــواردِ .
فلماذا إذن استخدم الشاعر لهجة العتاب القاسية في البيت الأول؟؟؟
لا شك أن الإيحاء بمخاطبة الأنثى (المرأة ) بلهجة العتاب كان تقنية فنية ناجحة من الشاعر لشد المتلقي وجذبه لمتابعة القراءة .
3- لا غزل أنثوي :
ولا شك أننا نحاول البحث عن ظلال المرأة في هذا الخطاب الإبداعي الغامض .غير أن بحثنا لن يصل إلى مستقر نقف فيه على خطاب يبتعد كثيرا عن العتاب. كما هو الحال مع محمود درويش الذي مزج في شعره الغزلي بين الحبيبة (المراة )وبين فلسطين .
فالخطاب الموجه للمرأة الخالصة في شعر أ. أشرف حشيش ليس غزليا - وإن كان قد كتب بعض قصائد الغزل . لكن الغزل ليس هو الغرض عنده حتما. ونوضح ذلك في موضعه. ليس الغزل موضوعا متكررا وملازما لتجربته الإبداعية . والشاعر يوضح ذلك تماما
(أنا ليس لي في الحب )
فيقول:
أقـيـمـي بـوجـداني وإن شـئـت غــادري ... وكُــفّـي ظــنـون الــسـوء لــسـتُ بــغـادر
سـقيتُ عـطاش الـحب صـدق عواطفي ... وأطــلــقــتُ لـــلأفـــراح مــلــيــون طـــائــر
حـملتُ عـلى الـطاغي سيوف قصائدي ... وكــنـتُ صـــراخ الــحـق فـــي ركــب ثـائـر
أخــــفُّ عــلــى خــيــل الـتـفـاؤل حـالـمـا ... بـــعـــودة مــاضـيـنـا لــنــجـدة حـــاضــري
وأحــمــلُ قــنـديـل الـيـقـيـن بـمـسـلكي ... ومــــا خـــاب فـــيّ الــظـن بالله نــاصـري
فــكـيـف اسـتـفـزّتـني الــظّـبـاء بـمـكـرها ... وهـــــل كــنــتُ مــنـقـادا لــنـظـرة مــاكــر
أقـــــول لــمــن طــــاب الــغــرام بـقـلـبـها ... أنـا لـيس لـي في الحب..منّي فحاذري
ويقول في أخرى
_________________________________
لا زلْتُ وحدي مبحرا فلعلني=أرسو بأحلامي على الشطآنِ
ونجحتُ في صدّ اللحاظ بخبرة=ما فسّرتْ قدراتها العينانِ
(رادارُ) إحساسي تنبّه باكرا=لدخول عينك ملعب الخفقانِ
(القدسُ) كل عواطفي . ما أمهلتْ=غزلا لزنبقة ولا بستانِ
لا تأمني جو البراءة إنني= عفت الهوى إلا هوى الأوطانِ
ومن المتوقع للشاعر مع هذا الخيار الإبداعي القاسي أن يضيق على نفسه مجال التصوير الفني الإبداعي الذي يتيحه شعر الغزل . وأن يحد من طاقة لغته الشعرية . لكن تقنيته الفنية الذكية في استخدام أسلوب خطاب العتاب الحميم الموجه للمخاطبة المؤنثة الغامضة الحاضرة بوصفها الأرض حينا ، وبوصفها تلك الشخصية غير المنصفة حينا آخر قد عوض تعويضا تاما عن غياب المرأة الحقيقية الخالصة مع مجانبة شعر الغزل .
ومع تكرار تلك التقنية الفنية بدت أشبه بالسمة الفنية في أسلوبه الفني . فنحن نجدها في العديد من قصائده
فالوطن هو الحبيبة نفسها عند الشاعر باعتراف واضح منه.
كما في قصيدة ( تطاول ليل البعد )
أصـبّرُ نـفسي فـي انتظار حبيبتي ... إلـى أن يُـقضّي الله مـا كان قاضيا
فليلاك في "تيماء" يا "قيسُ" دارها ... ولـيلاي "واقـدساه" ضـاقت لـما بيا
والشعر إنما يكتب للحبيبة الوطن. يقول في قصيدة (فلتصرفي عنّي العيون ) :
_________________
أزعمتِ أنّ الشعر كان خيالُهُ = زَهوا وأنّ فضاءَه تغريدُ
أو أنّ من جاش الحنينُ بصدره = فَرِحٌ . يخطّ الحرفَ وهو سعيدُ
أو أنّ من تبكي البلادُ بعينه = يهوى ارتشاف عذابه ويريدُ
الشعر "يا بعدي" وكم جوّدتُهُ = لكنهُ لم يشفه التجويدُ
ما زال مكتئبا كقلبٍ حبيبهِ = وقروحُهُ بين السطورِ تزيدُ
فلتصرفي عنّي العيونَ فإنها = أدبٌ يليق بحسنها التجديدُ
وأنا قديم الطّرف سهم نواظري = خبرتْ بلاغته المها والغيدُ
يا هذه لا تبعثيه بنظرةٍ =عشواء . لحظي عشقُهُ التسديدُ
وطني بدايتنا وآخر نبضنا = فيه نقولُ قصيدنا ونعيدُ
لكن حتى عندما يتجنب شاعرنا مخاطبة المؤنث في الوطن، نراه ما يزال مصرا على لهجة العتاب القاسية والحميمة في آن معا.
يقول في قصيدته ( كن حبيبي ظالمي )
.....
يتبع بإذن الله