صفّق لها الجمهور طويلا , وقد امتلأت دار الأوبرا من المقاعد الأرضيّة حتّى الشّرفات العلويّة , تمّ نقل العرض المسرحي الغنائي إلى هنا , أكبر مسرح في البلد , بعد أن دخل عامه الرّابع على التّوالي , بنجاح منقطع النّظير , ووقفت نجمتنا المحبوبة على غير عادتها تُحيّي الجمهور بحركات يديها وايماءات وجهها , مستعملة كل أنواع تعابير الحب , وساحت أيضا بعينيها المرقرقتين بحبّات اللؤلؤ وجوه المُعجبين , رأته قد تشبّث في مكانه , لم ينزع عينيه عنها لحظة , وقفت تنظر اليه حتّى خافت أن يلتفت اليها انتباه النّاس , ثم ذهبت تمشي ببطء إلى غرفتها وجناحها الخاص , كغير عادتها أيضا , حيث كانت تخرج مسرعة ومحاطة بالحرس , سمعته يهتف باسمها , التفتت , رأته قد أتاها يجري وفي يده بطاقة , أفلت من أيدي المنظّمين , حيّاها ضاحكا وطلب منها أن تُمضي له بطاقة عليها صورتها , لم تتردّد لحظة , أمسكت قلما وسألته عن اسمه , قال لها : هلال , أبدت إعجابا باسمه وكتبت رقم هاتفها الخاص , وهمست في أذنه : كلّمني بعد ساعة .
كانت عيناها لا زالت مُبتلّة بالدّموع , لكن هذه المرّة سالت وجرت وكاد أن يسمع صوت بُكائها سائق سيارتها الملكيّة , نظرت من الزجاج الجانبي وهي تجلس بمفردها في الصّالة الخلفيّة للسيّارة , المدينة ليلا ساحرة , لم تبهرها الأضواء فقد سئمت منها , بل أسرت لبّها انعكاسها على وجوه النّاس , والبسطاء منهم خاصّة , هذا ما كانت تفتقده , عربات الباعة , وحركات المارّة , وثنائيّات العشّاق والمُحبّين , يالثنائيّات العُشّاق والمُحبّين , هل يوجد حقّا هذا الحب الّذي تحكيه للنّاس كل ليلة وتُغنّي لهم عنه , ويُصدّقونها , هي لا تعرفه , خبرت كل أنواع العلاقات الإنسانية بعمقها وسطحيّتها , لكن لا تعرف هذا الّذي يُسمّونه حُبا , ما ان وصلت ودخلت غرفتها لترتمي على سريرها الفخم حتّى رنّ هاتفها , طبعا هلال , كانت تنتظر مكالمته بشوق ولهفة .
عرفت أنّه كبير مُعجبيها , يترصّدها منذ البدايات , قبل أن تصير نجمة , وأدمن مسرحيّتها , ولا يُفارق مسرح العرض لحظة واحدة , والأطرف أنّه كان زميلها في فترة الدّراسة الثّانوية , قد تخرّج مهندسا الآن ويمتلك مكتبا خاصّا به , أنشأه بماله ومجهوده الخاص وبدأ رحلة كفاحه نحو النّجاح , على علاقة ارتباط بإحدى زميلاته في الجامعة سابقا , تسكن معه نفس العمارة , وينوي التّقدّم قريبا لخطبتها , ويُحبّها هي كنجمة . وكانت قد خرجت من ثالث فشل في الحب والإرتباط , كعادتها تنتهي القصّة بمرارة بعدما تكتشف أنّه لم يُحبّها لشخصها , ويسقط أمامها قناع الزّيف مرّة أخرى , حتّى انهارت كل معنويّاتها وبلغ بها اليأس حدّا لم تعُد تُصدّق معه شيئا في هذه الحياة الّتي صار المسرح أصدق منها .
توطّدت بينهما العلاقة سريعا , كأنّهما قد كانا على موعد , باحت له بمكنونات قلبها , وأحزان نجمة , ووجدته صدرا واسعا وحضنا دافئا , لم تكن تُصدّق يوما أنّه يوجد في الحياة شيء كهذا , ووجد جوهرة نفيسة , لؤلؤة مشاعر , خبّأتها صدفة النّجوميّة والشّهرة , وكان هو الغوّاص المحظوظ الّذي اكتشفها , واكتشف حقيقتها النّاصعة , بعد أن اكتشف موهبتها النّقاد وأهل الفن . لكن يظل هناك الجزء المخيف في القصّة , قال لها : وضعُنا مثل الهلال والنّجمة في راية العلم الجزائري , الهلال يُمكنه أن يُطوّق النّجمة , لكنّ النجمة لا يُمكنها أن تلمع له وحده , ستسطع على الجميع , طمأنته بأنّها ستكون له وحده .
تمنّى أن لا يكون ما جرى حقيقة , وأن يجد نفسه في مشهد ما من فيلم – معبودة الجماهير - , بلا مُقدّمات , وبدون أي اعتذار , عادت مباشرة لخطيبها الأخير بعد أن كلّمها , في حين لم يستطع هو العودة لمن كان ينوي خطبتها , وأنهت العرض بمهارة , صفّق لها الجمهور طويلا , حيّته بحركة تقليديّة واحدة لتخرج مُسرعة لجناحها , وظلّ الجمهور يُصفّق , وغابت بعض الأصابع الوفيّة , الّتي انتحرت .