كف تركي
قصة قصيرة
كالأشجار مزروعون بلا فراغات على أرض فوق عجلات تدور، تمسك أغصاننا المنهكة بمشانق منتشرة على قضبانٍ تسير مع السقف الظالم أينما دار، أليس عندك رحمة؟ لماذا لا تكون شفافاً لنستمتع بزرقة سماء تغتال كآبتنا بدل النظر إلى هذا الوجوم؟ أو نلهو بخيوط شمس تلاعبنا، تغمزنا من هنا وهناك، فنطرد السكون الملتصق بنا التصاق الذباب بالحلوى، ما هذا؟.. يا إلهي.. أطراف ورؤوس ترمقني، كل العيون تريد أن تخترق جسدي لتلهو بمشاعري وتفتش فيها عما يسرها، أشعر أن بعضها عَرَّاني من ألبستي، ينظر إلي بسرور، تقهقه عيون بعضهم في داخلي، أشعر بنظراتهم تسير مع الدم في شراييني، يحملق أحدهم عارضاً استبدال بعضا من تعاسته بشيء من تعب جسدي..
وما زال الصندوق يهزنا، فترانا كهواةٍ يتعلمون رقص الباليه على موسيقى ناشزة، العازف الوحيد فيها السائق وآلته الوحيدة المحرك، يتلذذان بإيذائنا، ومع كل انطلاقة تتغلغل أجسادنا في بعضها، فندعوا ربنا ألا نخرج من الجهة الأخرى، يدلق أحدهم مشاعره الرديئة على جسدي، فاغراً عينيه نحو ما قد يظهر من زينتي فأزدريه بنظرة ترجعه، وتبقى هلوساته تلوث روحي، تلك السيدة تعرض وجومها بسخاء لمن يشتري، وتلك الفتاة تستمتع بوخز شهوة الصعاليك المتجمعين حولها كالقطط في آذار، كم هو وقح مهماز أُنوثتها!! وذاك العجوز لا يستبدل سكونه بكل متع الدنيا، الكل يبحث عن شيء يسعده أو يمتعه ولو إلى حين، مقابل نقل شيء من تعاسته إليه، وإن اجتمع الكل على واحد أكلوا أفراحه وصفاءه وتركوه جثة هامدة..
أنظر إلى الداخل منعاً لتسرب سهم أحدهم من خلال عيوني، والشارع الخبيث المتلوي كالأفعى ينصب أفخاخاً لنا ولصندوقنا، فكلما أصابه الملل أوقعنا في حفرة تبقى فيها بعض أحلامنا، أو قوّس ظهره فتقفز أفراحنا منا وتطير، فنلتقط بدلاً منها تعبا يدمي أقدامنا..
لم أصل بعد لكن معظم الأشجار تكسرت جذوعها في الطريق فألقاها السائق حطباً للأيام بلا هوادة ولا أسف، متى وصلتُ المنزل سأنفض عني كل ما علق بي، سأزيل كل العيون التي ما زالت تعبث بداخلي، سأغسل كل الأوهام التي اندلقت على جسدي، سأقبض على روحي ونفسي وأعصر منهما كل التلوثات..
ارتعدت فرائصي لتوقف الحافلة بشكل جنوني ولمّا نصل بعد، انطلق السائق كالعُقاب على فريسته القابعة في آخر الحافلة، شاب لاك من الوقت حتى شبع وأتخمه الضجر واشتعل حنينه إلى لفافة تبغ يواسي بها نفسه، فكان ينفث دخانها على استحياء من أحد الفراغات، لكن السائق ذا العيون العُقابية لمحه وألقى عليه بكف تركي جعله يتبعثر ويبحث عن بقايا نفسه على أرض الحافلة، وقبل أن يعثر عليها ألحقه بركلةٍ قذفته كالرصاصة خارج الحافلة يتلوى من الألم، وقبل أن يغلق الباب قذفت بنفسي كالشهاب الغاضب إلى الخارج، إذا بقيت أكثر لن أستطيع الحراك من كثرة الأحمال، من آثامهم وآلامهم وأحزانهم وغضبهم، علي أن أغسل كل هذا، علي أن أزيل كل ذلك.
#مصطفى_الصالح
من مجموعتي القصصية عزف على الماء