الإستغاثة في الإسلام

يقول العلماء :
عن البزار (4922) من طريق أسامة بن زيد الليثي ، عن أبان بن صالح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس مرفوعاً : ( إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ سِوَى الْحَفَظَةِ ، يَكْتُبُونَ مَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرِ ، فَإِذَا أَصَابَ أَحَدَكُمْ عَرْجَةٌ بِأَرْضٍ فَلاةٍ فَلْيُنَادِ : أَعِينُوا عِبَادَ اللَّهِ ).
قال) البزار : " وَهَذَا الْكَلامُ لا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلَّم بِهَذَا اللَّفْظِ إلاَّ مِن هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ " انتهى من "مسند البزار" (11/ 181) .
وقد أعل هذا الحديث بعلتين :
الأولى : أن مداره على أسامة بن زيد الليثي.
وهو من الرواة المختلف فيهم عند علماء الجرح والتعديل ، فمنهم من وثقه ، ومنهم من ضعفه ، وعلى كل حال ففي حفظه وضبطه كلام .
قال الإمام أحمد : " إن تدبرت حديثه ستعرف النكرة فيها ". انتهى من "الكامل في ضعفاء الرجال" (2/ 76).
وقال الحافظ الذهبي عنه : " صَدُوق يهم ، اخْتلف قَول يحيى الْقطَّان فِيهِ ، وَقَالَ أحْمَد: لَيْسَ بِشَيْء ، وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيّ ، وَقَالَ ابْن عدي : لَيْسَ بِهِ بَأْ.
انتهى من "المغني في الضعفاء " (1/ 66).
وكذلك قال فيه الحافظ في التقريب : " صدوق يهم ". انتهى من " تقريب التهذيب " (ص: 98).
الثانية : أن الرواة عن أسامة بن زيد اختلفوا عليه في هذا الحديث ، فمنهم من رواه عنه مرفوعاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من رواه موقوفاً على ابن عباس من قوله .
وقد تفرد بروايته مرفوعاً : حاتم بن إسماعيل ، وأخرج روايته البزار في "مسنده" (4922).
وخالفه أربعة من الرواة وهم :
1=عبد الله بن فروخ ، وأخرج روايته البيهقي في "شعب الإيمان" (1/325).
2= وروح بن عبادة ، وأخرج روايته البيهقي في "شعب الإيمان" (10/140).
3= وجعفر بن عون ، وأخرج روايته البيهقي في "شعب الإيمان" (10/140).
4= وأبو خالد الأحمر ، وأخرج روايته ابن أبي شيبة في " المصنف " (6/ 91).
فرووه كلهم عن أسامة بن زيد الليثي ، فجعلوه من قول ابن عباس .
ولا شك أن رواية الوقف أرجح ؛ لأن رواتها أكثر عدداً ، وأشد ضبطاً ، فهم أبعد عن الخطأ والوهم .
قال الإمام الشافعي : " وَالْعَدَدُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْوَاحِدِ" انتهى من "اختلاف الحديث" صـ 177.
وقال الحافظ شمس الدين الذَّهبي : " وإن كان الحديثُ قد رواه الثَّبتُ بإسنادٍ ، أو وَقَفَهُ ، أو أرسلَهُ ، ورفقاؤه الأثباتُ يخالفونه ، فالعبرةُ بما اجتمع عليه الثقات ، فإنَّ الواحد قد يَغلَط ، وهنا قد ترجَّح ظهور غلطه فلا تعليل ، والعبرةُ بالجماعة ". الموقظة صـ52.
فالراجح في هذا الحديث - إن حكمنا بقبوله - أنه من قول ابن عباس ، وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم .
قال البيهقي: " هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، مُسْتَعْمَلٌ عِنْدَ الصَّالِحِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِوُجُودِ صِدْقِهِ عِنْدَهُمْ فِيمَا جَرَّبُوا ". انتهى من " الآداب " (ص: 269).
وممن عمل بهذا الحديث : الإمام أحمد بن حنبل .
قال عبد الله بن الإمام أحمد : " سمعت أبي يقول : حججْت خمس حجج ، منها ثنتين راكبًا ، وثلاثة ماشياً أو ثِنْتَيْنِ ماشياً وثلاثة راكبًا ، فضللت الطَّرِيق في حجَّة ، وكنت مَاشِيا ، فجعلت أقول : يا عباد الله دلوني على الطَّرِيق ، فلم أزل أقول ذلك حتى وقفتُ على الطريق ".
انتهى من "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله" (ص: 245) ، وينظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (5/ 298).
ثانياً :
من الأمور المهمة التي ينبغي التنبه لها أن ضابط الاستغاثة التي تكون شركاً هو : " سؤال غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله ".
أما الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه فليست من الشرك في شيء .
والأثر المذكور فيه إخبار عن وجود صنف من الملائكة ، وهم أحياء ، حياتهم الطبيعية الملائمة لهم ؛ جعلهم الله في الأرض لإعانة التائهين وإرشادهم ودلالتهم على الطريق ، فمن طلب منهم الإعانة فقد طلب من مخلوقٍ شيئاً يقدر عليه ، وأرصده الله له .
وشتان بين هذا وبين أن يطلب من مخلوق ميت ، أو غائب أن يشفي مريضه ، وأن يرزقه مولودا ، وأن ييسر ولادة زوجته ، أو أن يرحمه ويعافيه ، ونحو ذلك من الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وَالِاسْتِغَاثَةُ : طَلَبُ الْغَوْثِ ، وَهُوَ إزَالَةُ الشِّدَّةِ ، كَالِاسْتِنْصَارِ طَلَبُ النَّصْرِ ، وَالِاسْتِعَانَةِ طَلَبُ الْعَوْنِ ، وَالْمَخْلُوقُ يُطْلَبُ مِنْهُ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) ، وَكَمَا قَالَ: (فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
وَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ ؛ فَلَا يُطْلَبُ إلَّا مِنْ اللَّهِ ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/103).
وقال : " فَأَمَّا مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَبَ إلَّا مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، لَا يُطْلَبُ ذَلِكَ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِغَيْرِ اللَّهِ: اغْفِرْ لِي ، وَاسْقِنَا الْغَيْثَ ، وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، أَوْ اهْدِ قُلُوبَنَا ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ... فَأَمَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/329).
وقال: " وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الْحَيَّ يُطْلَبُ مِنْهُ الدُّعَاءُ كَمَا يُطْلَبُ مِنْهُ سَائِرُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْمَخْلُوقُ الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ ، فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ شَيْءٌ". انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/344) .
وقال : " الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُ اللَّهِ لَا تُطْلَبُ مِنْ غَيْرِهِ مِثْلُ: إنْزَالِ الْمَطَرِ ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ ، وَتَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ ، وَالْهُدَى مِنْ الضَّلَالَاتِ ، وَغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ". انتهى من " مجموع الفتاوى" (1/370).
وقد أكثرنا من النقول عن شيخ الإسلام في هذه النقطة لكثرة اللبس فيها والتلبيس عند أهل الأهواء والبدع .
وقال الشيخ صالح آل الشيخ : " والحديث لا يدل على ما يدعيه المبطلة من سؤال الموتى ونحوهم ، بل إنه صريح في أن من يخاطبه ضالُّ الطريق هم : الملائكة ، وهم يسمعون مخاطبته لهم ، ويقدرون على الإجابة بإذن ربهم ؛ لأنهم أحياء ممكَّنون من دلالة الضال ، فهم عباد لله ، أحياء يسمعون ، ويجيبون بما أقدرهم عليه ربهم ، وهو إرشاد ضالي الطريق في الفلاة ، ومن استدل بهذه الآثار على نداءِ شخص معين باسمه ، فقد كذب على رسول الله ، ولم يلاحظ ويتدبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وذاك سيما أهل الأهواء .
إذا تبين هذا : فالأثر من الأذكار التي قد يتساهل في العمل بها مع ضعفها ؛ لأنها جارية على الأصول الشرعية ، ولم تخالف النصوص القرآنية ، والأحاديث النبوية، ثم هو مخصوص بما ورد به الدليل؛ لأن هذا مما لا يجوز فيه القياس لأن العقائد مبناها على التوقيف". هذه مفاهيمنا (ص: 56) ، بتصرف يسير .
والحاصل :
أن ما لا يقدر عليه إلا الله ، وما هو من خصائص ربوبيته ، كالإحياء والإماتة ، والرزق ... كل هذا لا يسأل من غيره سبحانه ، ومن استغاث بغير الله في شيء من ذلك ، فقد أشرك .
وأما ما يقدر عليه الخلق ، فلا حرج في سؤاله من يقدر على ذلك الشيء منهم ، والاستغاثة بهم فيه ؛ بشرطين : أن يكون المستغاث به : حيا ، حاضرا ، قادرا على ذلك الشيء.