اعتاد على رؤيتها في الطّريق , تجلس جانبا متخفيّة بين عمودين , خجولة مطأطئة الرّأس , سيّدة في الثّلاثين في رداء أسود ونظّارة طبّيّة . لا يحمل عادة نقودا كثيرة , لكنّه كريما معها دائما , حين يراها من بعيد , يُخرج نقوده من جيبه , يختار قطعة كبيرة , ويرميها على كفّها المبسوطة في حركة سريعة . وكأنّها قد لاحظت هذه الحركة مع تكرارها المستمر , فأخذت تختار أدعية جميلة , تقولها له حين يرمي النّقود , بصوت خافت .
بدأ يتفاءل بوجودها في طريقه , ولاحظ أنّه كلّما قدّم لها شيئا يفتح الله عليه بابا في يومه . والملفّ الّذي قدّمه منذ سنتين , وتعب في إعداده حان ميعاد نتيجته بالقبول أو الرّفض , تأنّق يومها وحضّر قطعة نقديّة محترمة , ورماها على يدها المبسوطة , قالت له بخجل شديد : مقبول ان شاء الله . قُبل ملفّه وسيفتح ورشته الفنّيّة ومؤسّسته الإعلامية الّتي حلم بها كثيرا . حين عاد فرحا تطير به الأحلام ووصل عندها جلس بمقربة منها وكلّمها , قال لها : وجهك جاءني بالخير , هل تعانين من مشكلة ما ويُمكنني مساعدتك في حلّها ؟
قالت له : أنا وحيدة , وغريبة في هذه الدّيار , قبل سنوات لم أكن على هذا الحال , مرّ أبي رحمه الله بأزمة ماليّة حادّة فباعني لشيخ ثري سدّد ديونه مقابل أن يتزوّجني على نسائه الثلاثة , جاء بي الى هذه البلدة , كان جشعا وبخيلا , بعد شهور قليلة تُوُفيّ , تصارع أبناؤه الكُثر على الميراث وطردوني شرّ طردة , ولم يعد لي أي بيت أرجع اليه بعد أن توفيت والدتي وتفرّق اخوتي . تتكلّم بغاية العذوبة والأدب , وتبدو جميلة وأنيقة حتّى وهي في جلسة التسوّل , والتقت نظراتهما في حالات التأثّر والعاطفة , وأحبّها .
يعشق أهل الفن المغامرة , ومنهم من يميل إلى حياة التّشرّد ويعيش عمره كاملا في التّنقّل والإكتشاف , ترك عائلته بمحض ارادته , سكن غرفة في نفس المدينة , وجعلها مرسما ومكانا للمبيت والأكل أيضا . مع انطلاق مشروعه دخل حياة النّشاط والعمل , وبدأت أوضاعه الماديّة تتحسّن , وجرت الأموال في يديه . وفكّر أن يتزوّجها , المُتسوّلة , واليد الّتي كانت ممدودة أمامه للصّدقة طلبها . رأت أنّ الأيّام دارت والحياة أرادت أن تُعيدها لوضعها الطّبيعي بعد كأس مُرّة تجرّعتها عنوة , ورأت عائلته أنّه جنّ رسميّا وقاطعوه بعد أن استماتوا في منعه , ورأى هو أنّه قد أرضى أخيرا نوازعه المُتحرّرة , وأنّه فنّان حقيقي يفعل ما يُريده , وبعض الفنون جنون .
.. يُتبع