أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: حلم ليلة شتاء – محمد الفاضل

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد الفاضل أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2016
    الدولة : السويد
    المشاركات : 152
    المواضيع : 34
    الردود : 152
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي حلم ليلة شتاء – محمد الفاضل



    أريكة متهالكة عفا عليها الزمن ، تداعت أركانها ولم تفلح بقايا مسامير صدئة تناثرت هنا وهناك من إصلاح ماأفسده الدهر ، لم تعد تقوى على حمل أصحابها وكأنها في النزع الأخير ، تصارع من أجل البقاء . تتوسط الغرفة طاولة خشبية يعلوها الغبار ويحيط بها ثلاثة كراسي بالكاد تتماسك، تصدر صريرا عميقا يشبه الأنين عندما يجلس فوقها قاطنو ذلك المنزل البائس. حل الشتاء ضيفا ثقيلا على المدينة وهو يفرض شروطه القاسية ولم يجد الأهالي بدا من الإذعان لسطوته. هجعت الخلائق وبدأ الليل يسدل أستاره، غلالة من أبخرة غشيت زجاج نوافذ البيوت العتيقة وعانقت أسطح المنازل وأوراق الشجر.

    عقارب ساعة قديمة تتمطى بإيقاع رتيب مثل قط كسول، دقائق قليلة وينتصف الليل ،كان الوقت يمر بتثاقل ، ليلة شديدة البرودة تبعث على القشعريرة ، مساءات كانون معروفة بقسوتها في مثل هذا الوقت من العام ، تجبر كل من يرتاد الشارع أن يمارس طقوسا من الرقص مع حركات سريعة للأيدي والأرجل في محاولة مضنية لبث روح الدفء في الأوصال ولكن دون طائل.

    خلف تلك الستائر الكالحة التي يمتطيها الغبار يلوح شبح امرأة ينعكس ضوء شمعة خافت على قسمات وجهها الحزين المشوب بالخوف والقلق، توزعت الكدمات والهالات الزرقاء تحت عينيها الغائرتين، جبل من الهموم يربض فوق صدرها وعلى مقربة منها يرقد ولدها الوحيد فوق فراش بال ، تكور حول نفسه بعد أن سرت البرودة في سائر جسده النحيل ، لايستره سوى بطانية قديمة ، يتقلب يمنة ويسرة عله يقهر جنرال البرد ، الذي طالما هزم أعتى الجيوش وأجبرها على التقهقر والانسحاب.

    صمت موحش يشبه صمت القبور يخيم على المكان ، الضباب يلف طرقات المدينة ويزرع الخوف ، وماهي سوى لحظات ، حتى سمع قرع شديد على الباب مع سباب وشتائم مصحوبة باللعنات ، هرعت الأم المسكينة وهي تتخبط من شدة الخوف وكأنها تسعى إلى حتفها ، ارتعدت فرائصها، فتحت الباب بيدين مرتعشتين ، بدأ يمطرها بسيل من الشتائم ويصفها بأقذع العبارات والمسكينة تحاول أن تهدئ من روعه مخافة أن يستيقظ ولدها الوحيد . لم يفلح الليلة في بيع كل علب المناديل فعاد مبكرا على غير عادته من شدة البرد بعد أن هده التعب وهو يذرع الشارع جيئة وذهابا.

    - كيف يمكن للحب أن يسحق تحت عجلات دوامة الحياة ؟ أين كلمات الرومانسية ونظرات الوله ، لقد تغير كل شئ ، كان يهمس في أذني مترنما ، أنت معشوقتي وحلم حياتي ، أين ذهبت كل تلك المشاعر؟ كانت تحدث نفسها.

    - أين العشاء... أيتها الحقيرة؟ ألا يكفي أني أعمل كي أطعمك أنت وولدك الكسول. أخرجها ذلك الصوت من حلمها.

    بدا مثل الثور الهائج وهو يزبد ويرغي، تطاير الشرر من عينيه ، نزع حزامه وبدأ يذيقها شتى صنوف العذاب وهي تتوسل له بعيون دامعة وبحق العشرة التي بينهما أن يتوقف ولكنه لم يتورع عن المضي قدما وقد شعر بالانتشاء. لم يجرؤ الصبي على الحركة وبدأ يرتجف مثل أوراق الشجر القرمزية عندما تتلاعب بها رياح الخريف.

    - هل بعت كل علب المناديل ؟ أرني كم معك ؟

    -ولكن ، ولكن ، كانت الليلة ... بدا الصبي متلعثما وهويجاهد كي ينجو من العقاب حيث أيقن أن دوره حان.

    كانت الأم ترقب المشهد والألم يعتصر قلبها الغارق في لجة الأحزان ، مثل قطة تلعق جراحها النازفة ، لم تدر كيف واتتها الشجاعة الكافية لمجابهة ذلك الوحش الذي تجرد من إنسانيته ، وقفت بجسدها المثخن بالجراح لتحول بينه وبين فلذة كبدها.

    - حسنا ، أيها الأوغاد ، سنرى غدا ، لاتفكر بالعودة إلى البيت دون أن تبيع كل علب المناديل ، صرخ مهددا بقبضته .

    في ذلك المساء الكئيب، خلت الشوارع من المارة ماعدا مرور بعض المركبات بين الفينة والأخرى ، الجوع والبرد ينهشان جسده النحيل ، لم يجد الصبي بدا من تقطيع الصندوق الكرتوني الذي يضع فيه علب المناديل ، طفق يشعل النار ليلتمس الدفء الذي حرم منه. في الجهة المقابلة من الشارع الذي يقطنه الأثرياء ، خلف الستائر المخملية ، راح يتأمل الأضواء التي كانت تتلألأ وتتراقص مثل النجوم المعلقة في السماء ، تخيل نفسه في ذلك المكان الساحر.

    كل شئ يخطف الأبصار، جلس في مقعده الجلدي الوثير مرتديا بيجامته القطنية أمام الموقد وهو يرقب قطع الحطب المشتعلة ، رائحة شواء الكستناء يسيل لها اللعاب ، يرتشف كوبا من الشاي الساخن ويلتهم قطعة التورتة بتلذذ ، سرحت عيناه في الأفق البعيد وقد ارتسمت فوق ثغره ابتسامة رضا. بيد أن جسده كان متخشبا ، وشفاهه تكسوها زرقة داكنة.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    بديع رسمك بالحروف لتلك اللوحة التي يسكن في أرجاءها البرد والبؤس والفقر المدقع
    لنرى قلوب أدماها الألم ـ تركن تحت سطوة الفقر بعدما سحق الحب في هذا البيت
    تحت عجلات دوامة الحياة لتترك ثورا هائجا يذيق أهله أصنافا من العذاب.
    ثم نعيش مع خيال الطفل الذي أنهكته الفاقة والقسوة ، ونهش جسده
    الجوع والبرد والرثاثة ـ فيحلم بالدفء والشبع والسعادة فترتسم
    البسمة على شفاه حتى بعد أن تخشب جسده، وكست شفاهه
    زرقة الموت.
    بناء متين مترابط الفكرة أبهرني
    بقوة لغته وصوره ولوحاته
    تحياتي لبديع حرفك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية مصطفى الصالح أديب
    تاريخ التسجيل : May 2014
    الدولة : شرق الحلم
    المشاركات : 1,031
    المواضيع : 44
    الردود : 1031
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    فكرة واقعية متكررة رسمتها بحرفية متناهية
    بلغة نثرية جميلة استمر استخدام المضارع حتى نهاية القصة، وهذا أمر لا يتقنه الكثير من الكتاب
    غير أن النهاية جاءت غامضة ومنفصلة
    وكان هناك بعض إسراف في التفاصيل التي تليق بالرواية أكثر

    في ذلك المساء الكئيب، خلت الشوارع من المارة
    ربما تقصد في المساء التالي، كون المساء الذي نتحدث عنه انتهى بعد حضوره إلى المنزل، إذ لا توجد إشارة إلى قيامه بإخراج الصبي إلى العمل في نفس المساء...

    دام الابداع
    تقديري
    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

  4. #4
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    مقدرة على تصوير المشاهد ممّا يزيد من واقعيّتها
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد الفاضل أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2016
    الدولة : السويد
    المشاركات : 152
    المواضيع : 34
    الردود : 152
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    بديع رسمك بالحروف لتلك اللوحة التي يسكن في أرجاءها البرد والبؤس والفقر المدقع
    لنرى قلوب أدماها الألم ـ تركن تحت سطوة الفقر بعدما سحق الحب في هذا البيت
    تحت عجلات دوامة الحياة لتترك ثورا هائجا يذيق أهله أصنافا من العذاب.
    ثم نعيش مع خيال الطفل الذي أنهكته الفاقة والقسوة ، ونهش جسده
    الجوع والبرد والرثاثة ـ فيحلم بالدفء والشبع والسعادة فترتسم
    البسمة على شفاه حتى بعد أن تخشب جسده، وكست شفاهه
    زرقة الموت.
    بناء متين مترابط الفكرة أبهرني
    بقوة لغته وصوره ولوحاته
    تحياتي لبديع حرفك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    شاكر عبق حروفك وطيب حضورك الأستاذة العزيزة
    دمت بخير وسعادة
    مودتي

  6. #6
    الصورة الرمزية محمد الفاضل أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2016
    الدولة : السويد
    المشاركات : 152
    المواضيع : 34
    الردود : 152
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مصطفى الصالح مشاهدة المشاركة
    فكرة واقعية متكررة رسمتها بحرفية متناهية
    بلغة نثرية جميلة استمر استخدام المضارع حتى نهاية القصة، وهذا أمر لا يتقنه الكثير من الكتاب
    غير أن النهاية جاءت غامضة ومنفصلة
    وكان هناك بعض إسراف في التفاصيل التي تليق بالرواية أكثر



    ربما تقصد في المساء التالي، كون المساء الذي نتحدث عنه انتهى بعد حضوره إلى المنزل، إذ لا توجد إشارة إلى قيامه بإخراج الصبي إلى العمل في نفس المساء...

    دام الابداع
    تقديري

    أنا ممتن على حضوركم العطر الأستاذ العزيز
    نعم معك حق وهذا ماقصدته
    خالص شكري مع التقدير

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد الفاضل أديب
    تاريخ التسجيل : Apr 2016
    الدولة : السويد
    المشاركات : 152
    المواضيع : 34
    الردود : 152
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة كاملة بدارنه مشاهدة المشاركة
    مقدرة على تصوير المشاهد ممّا يزيد من واقعيّتها
    بوركت
    تقديري وتحيّتي

    يسعدني حضورك الجميل الأستاذة العزيزة
    مودتي

المواضيع المتشابهه

  1. حلم على قارعة الطريق – محمد الفاضل
    بواسطة محمد الفاضل في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 03-03-2017, 09:11 PM
  2. ليلة من ألف ليلة و ليلة
    بواسطة المختار محمد الدرعي في المنتدى الأَدَبُ السَّاخِرُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-09-2015, 08:46 PM
  3. شتاء ثائر إلى / محمد الأمين سعيدي
    بواسطة يحيى سليمان في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 24-12-2008, 09:33 PM
  4. ليلة شتاء
    بواسطة ابراهيم عبد المعطى في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 28-11-2007, 06:28 PM
  5. ليلة شتاء باردة
    بواسطة كمال عوض في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 28-10-2005, 10:32 PM