مقدمة في مفهوم الانزياح في الشِّعْرَ:

الانزياح في اللغة هو نزح الشيء عن مكانه أي بعدنا عنه وتخلينا عنه.أنشد ثعلب :
إن المذلة منزل نزح عن دار قومك, فاتركي شتمي
يقول "بول فاليري" إن الشِّعْرَ ( لغة داخل لغة) لذلك نرى أن الانزياح هو خرق نظام النحو ونظام الدلالة لخلق لغة شعّرية جديدة. فخرق نظام النحو مثلاً : تقديم ما حقه التأخير والعكس .. وحذف ما حقه الذكر والعكس .. مثل قوله تعالى ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ [الأنعام : 100] والنظام النحوي يحتفظ بالرتب فيكون معنى الآية : وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء.. وتقديم (شركاء) أعطى فائدة وخصوصية لن تتأتى بتأخيرها .. فالمولى سبحانه يستنكر الشرك برمته .. نفهم ذلك من (وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء) وجاءت (الجن) لتوضيح ما كان أمر شرك أولئك القوم .. ولو ظلت الرتب المحفوظة كما هي لما أدت هذا الغرض .. فمثلا: وجعلوا لله الجن شركاء .. يفيدنا بأن الله جل جلاله يستنكر على هؤلاء القوم اتخاذهم الجن شركاء وهذا لا يعني بالضرورة أنه يستنكر الشرك بغير الجن . لذلك جاء التقديم لبيان الغرض وهو استنكار الشرك برمته . وبسبب هذا الخرق النحوي كان وجود خلق لغة (شعرية) إن جاز التعبير في النص القرآني .. أو نسميها هنا لغة بيانية راقية بسبب الانزياح.
والانزياح في الشِّعْرَ هو البعد عن مطابقة الكلام للواقع باستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف منها الرمز والتشبيه والاستعارة والخيال، يتمثل بتغيرات لغوية فنية تهجم على جسد النص الشعري إلا أنها تضفي عليه مسحة من الإبداع والجمال اللغوي حسب قدرة الشاعر على استعمال الاستعارة والتشبيه والخيال، فهو في الواقع تفوق اللغة على اللغة لتدخل في إطار عدول لغوي متمرد على اللغة الَّتِي انزاح عنها الشاعر ، وهو ما عبرعنه في التراث الأدبي بالعدول بدلا من الانزياح الذي يعتبر ضرباً من التسهيل لإثراء الكلام في مستواه الصرفي والتركيبي بوضع عبارات غير مألوفة بدلاً من العبارات المألوفة. وبذلك يعتبرالعدول خرق نظام اللغة ونظام الدلالة لخلق لغة داخل لغة وهو الانزياح نفسه.
والمتتبع لمباحث الأسلوبية يرى بعض النقاد الأسلوبيين أن الانحراف هو من أهم الظواهر الَّتِي يمتاز بها الأسلوب الشعري عن غيره، ذلك لأنه عنصر يميز اللغة الشعرية ويمنحها خصوصيتها، وتوهجها وألقها، ليجعلها لغة خاصة تختلف عن اللغة العادية ، وذلك بما للانحراف من تأثير جمالي وبعد إيحائي، وذلك يتمثلُ في رصد انحراف الكلام عن نسقه المألوف , أوكما يقول الناقد جون كوهين هو الانتهاك الذي يحدث في الصياغة ، والذي يمكن بواسطته التعرف على طبيعة الأسلوب ، بل ربما كان هذا الانتهاكُ هو الأسلوبُ ذاته. وهذا مما يؤ كد أن الانزياح في الشعرهواستعمال العبارات المألوفة بطريقة غير مألوفة كما يقول الشُّعَرَاء الرمزيون. لذلك اعتبرالانزياح خاصية ضرورية وهامة من خصائص اللغة الشعرية في كل الآداب العالمية، وقد آن الأوان لإلغاء النظرة الَّتِي تقوم على اعتبار الظواهر البلاغية زينة ووشياً، والاعتراف بأنها عناصر هامة في بناء النص الأدبي. ذلك أن الانزياح في الشِّعْرَ ليس إلا لغة الابتعاد عن المألوف والسائد بهدف ضخ دماء جديدة في قوالب لغوية وأسلوبية جامدة جافة فهو يعتبر من المحسنات البديعية لصياغة معاني جديدة على معاني قديمة مألوفة وهذا مما يضيف على اللغة الشعرية أكثر انفتاحاً وسعة، وهنا بذلك تكمن متعة النص الشعري وبراعة الشاعر في استعمال التشابيه والاستعارات والدلالات في أشعاره. ويقول الناقد الأمريكي وليام بلومفيلد : إن الانزياح متأصل في الكتابة والتفكير، فلولا هذه العملية لكان الأدب جامداً والفكرالإنساني متكلسا.
لقد انزاح هوميروس في إلياذته الشهيرة عن الأعراف الَّتِي كانت سائدة آنذاك ، فلم يمجّد أبطال حروب طروادة، بل رسم الحقيقة، وبهذا نأى بنفسه عن الصورالنمطية والقضايا الجاهزة الَّتِي هيمنت على المخيلة الشعبية في عصره .‏ كما أن الانزياح في الشِّعْرَ يعد من أهم الدراسات اللغوية يقوم على التجديد بما يتناسب والنص الشعري ليضفي على الشِّعْرَ نصوصاً جمالية خارجة عن المفهوم والتقليد المتعارف عليه، وذلك هوالإبداع لكسر مقولة " ليس في الإمكان أبدع مما كان" ، وهنا نستشهد بقول بدر شاكر السياب في قصيدته أنشودة المطر : يقول السياب :
عيناك غابتا نخيل
ساحة السحر
أوشرفتان راح ينأى عنهما القمر.
فجعل السياب العينين غابتي نخيل رغم جفاف شجر النخيل و رغم قسوته ، لكنّ جاءتا في هذا السياق على أسلوب مختلف بعد أن أضاف عليها دلالة السحر وهى اللحظة القريبة برحيل الظلام إلى قرب بزوغ صباح جديد يهل على العراق بالاشراق والحرية ، لذلك فهو لطّف المعنى بهذه الدلالة الفنية الرائعة.
لقد أتخذ السياب من " إنشودة المطر" رمزا ذا دلالة إبداعية عميقة على تحمل هواجس وطنه العراق. فأ تخذ الشاعر من العراق حبيبة ًيتغنى بها ويتمنى أن يعم فيها الخير والخصب والنماء منطلقا من همه الفردي الخاص إلى عرض هموم العراق الاجتماعية العامة مثل الاستبداد والفقر والجوع على الرغم من وجود الخير الكثير في بلده. يقول السياب في قصيدته الرائعة أنشودة المطر :
عيناكِ غابتا نخيل ساعةَ السحر
أو شرفتانِ راحَ ينأى عنهُما القمر
عيناكِ حين تبسمانِ تُورقُ الكروم
وترقصُ الأضواء كالأقمار في نهر
يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر...
كأنّما تنبُضُ في غوريهما النجوم
وتغرقان في ضبابٍ من أسىً شفيف
كالبحرِ سرَّحَ اليدينِ فوقَهُ المساء
دفءُ الشتاءِ فيه وارتعاشةُ الخريف
والموتُ والميلادُ والظلامُ والضياء
فتستفيقُ ملء روحي، رعشةُ البكاء
ونشوةٌ وحشيةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خاف من القمر
كأنَّ أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم.. وقطرةً فقطرةً تذوبُ في المطر... وكركرَ الأطفالُ في عرائش الكروم
ودغدغت صمتَ العصافيرِ على الشجر
مطر
مطر
مطر
من المستغرب أن نقرأ لبعض كبار الباحثين في الأدب أن الانزياح هو من الأساليب التعبيرية الحديثة في الشِّعْرَ الحديث يبتعد كثيراً بجوهره عن الأساليب التعبيرية للشعرالتقليدي القديم، وهو يتناسب كأسلوب مع الفنون الشعرية الحديثة، فهذا وهم، وغير صحيح إطلاقاً، ذلك لأن الانزياح في الواقع قديم قدم الشِّعْرَ ولا يخلوا شعرما قبل الإسلام والشِّعْرَ الأموي والعباسي والأندلسي من الانزياح. ولا ننكر أن الشِّعْرَ العربي القديم كان أكثره شعر مناسبات وشعر مديح وهجاء وفخروغزل والتغني بالقبيلة والشاعرية والفروسية، وهذه الأشعارفي الغالب تغلب عليها المحسنات البديعية كالاستعارات، والتشبيهات وغير ذلك من الخيال الشعري، إلا أنه لا يخلو من الانزياح بمختلف مصطلحاته، كالانزياح الدلالي، والانزياح التركيبي، والانزياح الإضافي، وغيرها من الانزياحات، وأمثلة على ذلك ما يقوله زهيربن أبي سلمى في حولياته ، وشعر عنترة في معلقته ، والمتنبي، وأبي تمام، وصوفيات ابن العربي وابن الفارض و المتصوفة في أشعارهم.
ونرى عند قراء تنا لتراثنا الأدبي القديم أن شعر ما قبل الإسلام هو الحاضن الأول والحقيقي للانزياح بمختلف مصطلحاته ودلالاته. فالانزياح في الشِّعْرَ ليس غريباً على الشِّعْرَ والنثر العربي القديم فهو من أهم الدراسات الَّتِي تناولها البلاغيون ومثبوت في كتب البلاغة والأدب، إلا أ نه لم ينل من الدراسات الواسعة إلا في العصر الحديث مع ظهور دراسات غربية أثرت موضوع الانزياح بتقنيات ومفاهيم أدبية إبداعية جديدة .ومن أمثلة الانزياح في الشِّعْرَ القديم : يقول عنترة في معلقته :
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السـيوف ، لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسمِ
ويقول أبو الطيب المتنبي :
اليوم عهدكم فأين الموعد هيهات ليس ليوم عهدكم غدُ
إن الَّتِي سفكت دمي بجفونها لم تدري أن دمي الذي تتقلـــدُ
قالت وقد رأت إصفراري من به وتنهـــدت فأجبتها المتنهـــدُ
فمضت وقد صبغ الحياء بياضها
لونـي كما صبــغ اللجين العسجــدُ
فرأيت قرن الشمس في قمر الدجا متوأبا غصنُ به يتئــــؤدُ
عدويه بدويه من دونها سلب النفوس ونار الحرب توقــدُ
ابلت مودتها الليالي بعدنا ومشى عليها الدهر وهو مقيــدُ
و يقول ابن حمديس الصقلي:
نَوْمِي على ظَهْرِ الفراشِ مُنَغَّصُ
والليلُ فيه زيادة ٌ لا تنقصُ
من عادياتٍ كالذئاب تذاءبتْ
وَسَرَتْ على عَجَلٍ فما تَتَربّصُ
وعَلتْ دمي خمرا تُداوِمُ شُرْبَها
مسترخِصاتٍ منه ما لا يُرخصُ
فترى البعوضَ مغنيّاً بربَابِهِ
والبقُّ تشربُ والبراغثُ ترقص.
و يقول البلاغيون لا تخلو حياة الإنسان منذ الأزل من الانزياح فالتشبيه مثلا مظهرمن مظاهر الانزياح , والاستعارة مظهر من مظاهر الانزياح , والعدل في الصرف مظهر من مظاهر الانزياح , والتقديم والتأخير في النحو مظهر آخر من مظاهر الانزياح، إذاً نحن عندنا انزياحات كثيرة وليس انزياحاً واحداً، واللغة كلها انزياحات . وتقوم على الانزياحات وتحيا بالانزياح وتستمر بالانزياح, إلا أن الانزياح درجات ومراتب , ويبلغ الانزياح قمته حين يصل الى درجة من الغموض أو ما يسمى بالتعمية كما هو الحال في الشِّعْرَ الرمزي، و كما نراها عند المتصوفة و في المدرسة السوريالية الشعرية الحديثة في الغرب.
وكلما نزلت لغة الإنسان من الشِّعْرَ والنثر الفني الى اللغة العادية البسيطة قل الانزياج واندثر او غاب بشكل شبه نهائي , أين يقع الانزياح ؟ يقع بين جملة شديدة الغموض أو جملة بسيطة كعبارة (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر ) وجملة كقولك ( أحب العراق وطني ) فهما متساويتان في المعنى . إن المعنى بينهما واحد فما قاله بدر شاكر السياب في عبارة عيناك غابتا نخيل ساعة السحر هو نفسه معنى أحب بلدي العراق بلد النخيل، واستعار كلمة النخيل لأن العراق هو بلد النخيل، ولأن العراق يوصف بأنه بلد التمر.لقد استطاع السياب أن يخلق انزياحاً دلالياً غاية في الإبداع والجمال الشعري.
عيناك غابتا نخيل ساحة السحر أو شرفتاني راح ينأى عنهما القمر
ولولا الانزياح أو ما يسمى قديماً في التراث العربي بالعدول لما تطورالأدب بجناحيه : الشِّعْرَ والنثر، ولظل الأدب جامداً ومتكلساً.