( 5 )
لم تكد تمر هذه الليلة حتى باتت لمياء وأسرتها وعلاقاتها كلها تحت المجهر.. وبذلت الحاجة سهير جهودا مضنية لإقناع مندوب المكتب بوجهة نظر الفتاة، كما بذلت جهدا مضاعفا للدفاع عن نزاهة لمياء وسلامة قصدها من وراء طلبها مقابلة الأستاذ جمال عبد الكريم، فسلوك الفتاة كله كان فوق الشبهات.. ومع ذلك لم يكن القرار سهلا فالظروف التي يمر بها الجميع تجعل من اتخاذ أي قرار عملية في غاية التعقيد، فهو على أي حال مخاطرة قد تكون غير مأمونة العواقب!!
أخيرا حسم حكيم الأمر بقوله:
- أنا أثق في هذه الفتاة، فهي لم تطلب مقابلة إلا اسم محروق لدى الجهات الأمنية، هي لا تريد أن تعرف المزيد، لا تريد أن تعرف مثلا البديل الذي يدير العمل الآن، ولو قصدت ذلك لَطلَبت مقابلة مسؤول المكتب الإداري.. إلا أنها تضع ثقتها كلها في شخص الأستاذ جمال عبد الكريم وتراهن عليه..
سكت الرجل وهو يدير نظراته في الجالسين، سأله أحدهم بلهجة استنكار حاول جاهدا تخفيف حدّتها:
- وهل سنسمح لها بهذه المقابلة الخطرة؟!
- لا يا أخي نحن لا نستطيع فعل ذلك، أولا نحن لا نعلم على وجه الدقة تحديد مكان الأستاذ جمال فهو دائم التنقل بين أماكن متعددة.. كما أن سلامة قصد الفتاة لا يمنع أعين الجهات الأمنية المختلفة من مراقبتها بشكل مشدد، فالفتاة منذ خرجت من المحكمة زارت مكتب الأستاذ دسوقي المحامي ثم منزل الحاجة سهير وهي أماكن مرصودة لدى جهاز الأمن الوطني.. ولا شك عندي أن الفتاة الآن موضوعة تحت رقابة مشددة..
قاطعه الآخر متعجلا بسؤال ينم عن فروغ صبره:
-إذن فطلب الفتاة مرفوض؟..
نظر إليه الحكيم طويلا ثم قال:
-حتى الرفض لا نستطيعه أخي.. فالفتاة تؤمن أن هناك فرصة ما ولو ضئيلة لإنقاذ ابننا محمود من حبل المشنقة.. فرصة لا نراها نحن، ونظنها من حيث المبدأ وَهْما في خيالها.. لكننا لا نستطيع أن نتخلى عن محمود.. ولعله هو الذي أرسلها برسالة من محبسه يوم المحكمة بخطة ما تدور برأسه.. علينا أن نستمع إلى الفتاة ومن ثَم نُقوّم الأمر برمّته..
-لكن مثل هذا اللقاء سيكون محفوفا بالمخاطر وربما عرّض أمننا جميعا لخطر داهم..
اعتراضات كثيرة خرجت من أفواه الحاضرين حملت هذا المعنى..
وقال الحكيم برويّة:
- سنتدبّر الأمر.. سنلتقي الفتاة وسنسمع منها وفي نفس الوقت سنُضلّل الرقابة المشدّدة عليها.. ثم نتصرّف بعد ذلك على ضوء ما ستُبلغه لنا!!
بعد ظهر اليوم التالي دخلت طفلة يبدو على مظهرها أنها تلميذة في المرحلة الابتدائية إلى صيدلية الدكتورة لمياء، اتجهت إليها مباشرة وسلّمتها ورقة صغيرة وهي تنظر في عينيها نظرات ثابتة تحمل كل مشاعر الرجاء ببراءة طفولية مدهشة.. ناولتها لمياء علبة من أقراص دواء البنادول المسكّنة.. وتناولت منها النقود، وابتسمت لها برّقة..
سجّلت لمياء بعض الأرقام على مسوَدة ورقية أمامها.. ثم انتبهت إلى أن الورقة المسجل بها اسم الأقراص التي سلمتها لها الطفلة ما زالت في كفها، فمزّقتها وألقتها في سلة المهملات خلف الطاولة.. بعد فترة فرغت بطارية هاتف لمياء المحمول، فتّشت في حقيبة يدها فأدركت أنها تركت شاحن الكهرباء في المنزل، بدا عليها الانزعاج والضيق الشديد، فهذا موعد إجراء مكالمة شخصية مهمة بالنسبة لها.. تطلّعت إلى وجه زميلتها في الصيدلية بأمل:
- الموبايل فصل شحن.. عندي مكالمة ضرورية..
قاطعتها زميلتها بابتسامة ودود وهي تُقرّب منها هاتفها وتهتف:
- تفضّلي..
تناولت لمياء هاتف صديقتها ودلفت داخل حجرة المستودع الملحقة بالصيدلية، وزميلتها تبتسم كأنها تُخمّن ماهية المكالمة الخاصة والهامة التي ستجريها لمياء.. ولم يدرْ بخاطرها قط أن لمياء تنفذ تعليمات وصلتها عبر الورقة الصغيرة التي ناولتها إياها الطفلة قبل قليل.. لم تكن تعلم أن الورقة الممزّقة والملقاة داخل سلة المهملات كانت عبارة عن رسالة تطلب من لمياء الاتصال من رقم غير رقمها برقم هاتف معين!!
أتمّت لمياء مكالمتها التي لم تستغرق سوى دقيقتين، وحرصت على حذف رقم الاتصال من قائمة حفظ المكالمات الأخيرة.. ثم خرجت من حجرة المستودع فمزقت المسوَدة الورقية التي دوّنت عليها رقم الهاتف بطريقة مبتكرة.. وسلّمت الهاتف لصديقتها ممتنة بابتسامة شاكرة.. ولم يكن الأمر غريبا، فهو أمر متكرر يحدث لكليهما بسبب نفاد شحن البطارية أو خلل مفاجئ يصيب هاتف إحداهما..
في المساء اتصلت لمياء بزميلتها لتخبرها بأنها لن تحضر في نهار اليوم التالي إلى عملها بالصيدلية لظروف ألمّت بها، وأن على زميلتها تغطية غيابها، على أن تعوّض لها ذلك لاحقا..
في صباح اليوم التالي كانت لمياء في محطة القطار تنتظر الديزل المتجه إلى مدينة الإسكندرية، كان الجو صيفيا حارا، وعشرات من أسر المصطافين تنتظر على رصيف المحطة.. بعد دقائق وصل القطار متأخرا عن موعده كالمعتاد، فاندفعت لمياء إلى العربة رقم اثنين وهي من عربات الدرجة الأولى المكيّفة بنظام الحجز، ثم إلى المقعد الذي حفظت رقمه منذ المكالمة الهاتفية ظهر الأمس..
رغم إصرارها على مواصلة المشوار إلى نهايته، فإن قلبها كان يدق بعنف، فهي في قلب مغامرة لم تحلم حتى في أشد أحلامها شذوذا وغرابة أن تجد نفسها فيها.. المقعد الذي بجوارها ظل شاغرا حتى اللحظة التي دوّت فيها صافرة قاطرة القطار في تنبيه أخير على قيامه من المحطة.. في تلك اللحظة لمحت رجلا أربعينيا عادي المظهر يدلف إلى عربة القطار وهو يلهث.. تمنّت لو أنه هو الذي يشغل المقعد المجاور لها.. لكن هذا لم يحدث، الذي حدث أنه ظل يتجادل مع رجل أربعيني آخر في طرف عربة القطار ، كان من الواضح أنه يشغل مقعده، وقد طلب إليه تبديل المقاعد.. لكن الرجل القادم في آخر لحظة قبل قيام القطار، اعتذر متعللا بقرب مقعده من باب العربة وأن هذا ييسر عليه نزوله من القطار نظرا لظروف صحية.. أخيرا نهض الرجل الآخر الذي احتل مقعدا خاطئا متوّجها إلى المقعد المجاور للمياء التي كانت ترقب كل هذه الأحداث في توتّر بالغ ونفاد صبر.. تمتم الرجل بالتحية وهو يدلف بجوار لمياء إلى المقعد الداخلي بجانب النافذة وأردف قائلا بنفس الصوت الخافت:
- دكتورة لمياء لا تلتفتي حولك..
عندما استقر على مقعده ناولها تذكرة القطار الخاصة بها، وهو يبتسم في أدب جم.. قال:
- لا تقلقي دكتورة.. المقعد الذي بجوارنا آخر الممر يشغله صديق.. كذلك الصف الذي خلفنا، والصف الذي أمامنا كل المقاعد يشغلها أصدقاء مع أسرهم، كلهم مصطافون يريدون شواطئ الإسكندرية!!
كان نظام المقاعد في عربة الدرجة الأولى عبارة عن مقعدين متجاورين يفصلهما ممر مُتسع عن مقعد فردي في الجهة المقابلة، وكل المقاعد مرصوصة في اتجاه واحد هو اتجاه قاطرة القطار..
ابتسمت لمياء رغما عن توتّرها البالغ، ولم تملك نفسها من التعليق الساخر بصوت متحشرج:
- لقد حجزتم كل مقاعد عربة القطار إذن!
- اكتفينا بالمقاعد التسعة حتى لا نلفت نظر موظفي الحجز.. اطمئني تماما وكوني على راحتك.. سنتناقش خلال رحلة السفر عما يدور برأسك.. اطمئني دكتورة، واسمحي لي أن أدعوك بابنتي، فلي ابنة تصغرك بسنوات قليلة هي الآن في الصف الثاني بالجامعة..
فكّرت لمياء برهة من الزمن، وتساءلت داخل نفسها ما كل هذه الاحتياطات والتدابير التي اتخذها هؤلاء الناس؟ هل فعلا الأمر على هذا المستوى من الخطورة؟ إنها تجد نفسها داخل إحدى الروايات البوليسية الشيّقة، أو كأنها بطلة من بطلات أفلام الأكشن الأمريكية!!.. تمالكت أعصابها وعلّقت في برود وجفاف:
- لكني لن أتكلم إلا أمام الأستاذ جمال عبد الكريم..
قابل الرجل جفاف منطقها ببرود مماثل قال:
- هذا يا ابنتي ما أمكننا تدبيره.. لا يمكننا تدبير لقاء مع الأستاذ بحال من الأحوال.. على العموم أنا نائبه، والمسؤول بمتابعة ملف قضايا الإعدام لمحمود وزملائه.. إن وجدتِ أن من واجبك أن تضعي ثقتك في، فأنا في خدمتك.. وإن كان رأيك غير ذلك فيمكنك مغادرة القطار في المحطة التالية..
قلّبت لمياء حديث الرجل في رأسها بسرعة، ووجدت أن من واجبها انتهاز الفرصة المتاحة ولو لم تؤدِ إلى النتيجة المرجوّة.. لم يكن من اللائق إفشال كل هذه التدابير الاحترازية، وكأنما سَرّها أن تستمر كجزء من المغامرة إلى أطول مدى ممكن.. قالت بعد فترة صمت:
- المسألة سيدي ليس لها علاقة بالثقة أو انعدامها.. المسألة أنني حريصة على لقاء الأستاذ جمال على اعتبار أنه يملك الخريطة الفعلية لأفراد الجماعة في المحافظة.. هو الذي يعرف من منهم سيستمر مع منهج السلمية، ومن سينجرف إلى تبني العنف.. من ظل على ولائه لمجموعة الدكتور عزت، ومن الذي تبنى موقف الراحل الدكتور محمد كمال.. ومن منهم يمكن أن تكون له صلة بحركة حسم!!
قاطعها الرجل بصرامة لا تتفق مع الظروف المحيطة، قال:
- وهل تظنين يا ابنتي أن في استطاعة أحد سواء من مجموعة الأخ محمد كمال أو من حركة حسم أن يقوم بتهريب زوجك أو عمل أي عملية مجنونة بهذا الخصوص..
تفاجأت لمياء برد فعله، لكنها حافظت على قناع من البرود وقالت بهدوء:
- لا.. لم أظن ذلك سيدي ولو للحظة واحدة.. وخطتي لا تقوم أبدا على مثل هذه التصورات الصبيانية.. وعفوا على استخدام هذا الوصف، لكن الخطة التي أحملها في رأسي خطة منهجية مبنية على أسس قانونية ومنهجية سليمة..
زفر الرجل زفرة طويلة استعاد بعدها رباطة جأشه، وبدأ يستحثّها بلطف لعرض فكرتها المنهجية والقانونية عليه.. لم يكن مقتنعا أن رأس مثل هذه الفتاة يمكنه أن يخطر له مثل هذه الخطة.. صحيح أن الخطة نفسها بدت مستحيلة التنفيذ لأنها كانت تحتاج إلى إرادة فولاذية.. إرادة الموت في سبيل الإيمان بقضية ما.. لكنه وجد نفسه منهمكا طوال أكثر من ساعتين في مناقشة كل التفاصيل الدقيقة، وكأن الفتاة الصغيرة قد سحرته تماما بترتيب عقلها ومنهجية تفكيرها، وسلاسة عرضها لتلك الأفكار المجنونة والممكنة في آن واحد!!
أخيرا وصل القطار إلى محطة الإسكندرية ولم يكن ثمة ترتيب بخصوص لمياء.. قال لها الرجل موَدّعا:
- لم نرتب في الحقيقة لك إلا أمر المقابلة في القطار.. نحن سنذهب إلى شاطئ البحر.. كل ما يجب عليك فعله الآن هو أن تقومي بفعل ما يروق لك كالتسوق مثلا، أو أي أمر آخر، ولكن لا يصح أن تغادري مباشرة على أول قطار عائد إلى المنصورة وإلا ستلفتين الأنظار إليك بشدة..
شكرت لمياء نصيحته بابتسامة وديّة، ولم تنسَ أن تنتزع منه تأكيدا أخيرا على وعده لها، فطمأنها قائلا:
أعدك يا ابنتي أنني سأبذل قصارى جهدي في هذا الاتجاه.. لعلي- لن ألقاك ثانية.. لكن من الآن فصاعدا اعتبري أنني متفرغ تماما لقضية محمود ورفاقه..
أرادت لمياء أن تشد بكفّها على كفّه تأكيدا للعهد وامتنانا لوعد شعرت به يصدر عن قلب صادق.. لكنها أدركت أنه يخشى من تلك اللحظة فاحتفظ بكفه في جيْب سُترته..
توقّف القطار فنهضت قبله مغادرة العربة إلى حيث ابتلعها زحام محطة مصر!!