قراءة غير منهجية في رواية "فوضى"
للكاتب المتميز مأمون أحمد مصطفى

الرُّؤية، ورواية الرواية:
تُؤصّل الرِّواية بأنَّها التَّاريخ الإبداعيُّ المتخيَّل، داخل التاريخ الموضوعيِّ المعاصر؛ لذا أصبحَتْ - على اختلاف مستوياتها، وتوجُّهاتها الدلاليَّة - الوعي الإبداعيَّ الكاشف عن جوهر مفارقات هذا التَّاريخ وتناقضاته، وصراعاته، وفواجعه، والتِباساته؛ سواء في تضاريسِه الحديثة، أو أعماله الباطنيَّة، الرِّواية بهذا الفهم إبداعٌ يحرِّك الإبداع ويتلمَّسه، يدغدغه، دون أن يدقَّ عنقه.
على هذا الأساس؛ نستطيع تلمُّسَ جملةٍ من الرُّؤى عبر رواية "فوضى" للكاتب مأمون أحمد مصطفى.
منذ البداية، وعلى طول صفحاتِها القليلة الثَّقيلة، يَبْرز التَّشابك الواضح في هذه الرِّواية بين الوعي الخاطئ، والوعي الممكن؛ بهدف الوصول إلى الجماليَّة الرِّوائيَّة - أيْ: خلق الدَّهشة - بما لذلك الخَلْقِ من قدرةٍ على فعل الفعل؛ إذْ بإمكان الحديث السِّحري اللوكاتشي (لوكاتش) الذي اعتمدَه الكاتبُ دون أن يَدري - وحده قفز الحواجز الباشلارية (باشلار) - ومواجهة إشكاليَّة الرُّؤية، ومُعانقة وعي ممكن كما حدَّده (غولدمان)، وهو بهذا يُعانق فلسفة التَّاريخ، كمغامرة إنسانيَّة ناضجة، لا تُسقِط لعبة الماضويَّة، ولكنها تَنْزع باستمرار نحو آفاق مستقبليَّة، إلى الزلزال الذي فاجأ الكاتِبُ به المتلقِّي، كما فوجئ به هو نفسه، بعد أن اعتصرَ رُؤَاه تَمامًا - والذي شكَّل له نبوءةً نصِّية، "لكنِّي أستطيع أن أفخَر باللاَّوعي، الذي اقتحمَ سُطور الرِّواية، وبؤرة ذاتي؛ ليسجِّل رغمًا عنِّي وعن وعيي استبصارًا ونبوءة"؛ ص8.
أي: مُقارعة المسلكيَّة الخانقة، والتقاط الارتواء المعرفي الإيجابي بدل الظَّمأ، عبر صيرورةٍ تَنْشر عافيتها في كلِّ الأقنية النفسانيَّة وغير النفسيَّة؛ لكي لا يتحوَّل الكاتب/ البطل من شخصٍ إلى بقايا شخص، دون أن يُسعفه جَلد الذَّات الاحتجاجي (الغرَق في النَّوم من جديد)، ولا الفداء الانتحاري (إلقاء نفسه تحت عجلات السيَّارة)؛ لِرَبط الحذاء - أي: إيقاف سلوك المتنفِّذ الذي يُمارس سطوةً وفعلاً يتَنافى مع الطبيعة السويَّة للنَّاس، بل ويقرِّر حتَّى طريقة موتهم، وكَبْح انفعالاتهم!
ولتحديد الأفق الروائي في رواية "فوضى" - فنِّيًّا - سنجد أنَّ الرُّؤية على طول مربعاتها تَدُور حول فكرة محوريَّة - الحذاء - التي تثير منذ البداية زوبعةَ الدَّهشة والتَّساؤل - والتي يُوظِّفها الكاتبُ للكشف عن معاناةٍ معيَّنة، تندفع في بؤرَتِها؛ لِتَقعد في ظلال رُؤًى أخرى، فتبرز عقلانيَّتها لِتُعانق تلقائيَّة الموقف والحدَث، مؤكِّدة ديمومة الصِّراع بين الخير والشَّر، والفعل واللاَّفعل، والحضور والغياب، وهي رؤية فلسفيَّة متقدِّمة، تستجلب حتميَّة الانفكاك، بل والانتصار في النهاية، بعد اليأس الذي خنق الناس، أو كاد.
"دقَّقَ في رباط الحذاء، فرآه متهدِّلاً، متَّسِخًا، مَلْويًّا، بدأت الأفكار تُهاجمه من كلِّ الاتِّجاهات، كيف يمكن السَّيطرة على التهدُّلِ والاتِّساخ؟ وكيف يمكن التخلُّص من الالتواء"؛ ص 11.
حيث كانت - بل وظلَّت إلى عهدٍ قريب - كلُّ محاولات التمدُّد والتمرُّدِ تنفيسيَّةً، غيرَ حاسمة؛ لذلك كانت تبوء بالفشَل، أمام المَقاصل والمخارز، والجوع؛ "أصاخ السمع جيِّدًا، كان الضراط قد فتح نافذةً جديدة لتفريغ الهواء المضغوط، تحسَّس جسده من جديد، فعرف أن التنفيس قد بدَّد آماله بالانفجار"؛ ص13.
يعمد الكاتب في هذا العمل لإبرازِ ما يُريد، ويُفْصِح ويوحي في آنٍ، بل ويوحي بأكثرَ مِمَّا يُفصح عنه؛ وبسبب ذلك تستعين الكتابةُ بِحُلم الكاتب، وجنون الكتابة عنده، والتي هي ليست مُعادَلة رياضيَّة جامدة، ولا وعظًا يصوغ الحياة على مقاييسه المُسبقة، إنه يُطلِق لمخيلتِه العنان، يَتْركها تحلِّق على صهوة الحُلم، والأمل، والرُّؤية المستقبلية بلا خوفٍ ولا تردُّد، تُطارد في مدارات لا تحدُّها القوالب الجاهزة، ولا تعيقها المباشَرة الساذجة، ولا تصوِّرها رمزيَّة فجَّة.
هكذا خلق هذا العمل المغامر حلم النُّبوءة والمفاجأة، وباتَت القضيَّة المطروقةُ تتمثَّل في ثنائيَّة متواترة، ومتوتِّرة، حيث السُّكونُ والاستكانة، والحلم والتَّواصل، والظُّلم والعدالة، والفرح القليلُ وذلك المأمول المؤجَّل.
في هذه الثُّنائيَّات التي يكتنفها الاغتراب، يلتقي الكاتبُ بِثُنائيَّته المحتملة: القهر وإرادة التحدِّي، وبما يجلِّلها من مشاعرَ إنسانيَّة مرهفة دون كآبة ملتبسة، تنطوي على تجربة آدميَّة كثيفة وشاسعة، هي صورةٌ عن قدر الأمَّة المخلوق من (التراجيديا) والبطولة؛ (فالدِّيدان، والصَّراصير، والجُرذ، والطَّحالب، والعناكب، والكلب المهجَّن من فصيلة الضِّباع، والمخلوق الغريب) - كلُّها مكوِّنات تكرِّس - بل وتُجذِّر - رؤية الكاتب تجاه تفعيل المخاض، رغم صعوبة الطَّريق، وتعقيد المهايع، وعبر سكون السَّاكن، وحركة المتحرِّك، ففي سكون السَّاكن حركةٌ بركانيَّة صامتة، والحركة سكونٌ إستاتيكيٌّ جَمالي - لكنَّه يمور بالدَّيمومة - وتفعيل الذات لِمُقارعة التَّزوير.
"... والأدهى أن يقف القائدُ أمام ذاته، أمام التاريخ، أمام الشعب، أمام الزمان، أمام المكان، أمام الأشياء؛ ليحول الهزيمة إلى نصرٍ مؤزَّر، إلى حدث يشكِّل مَعالم التاريخ القائم، والقادم، بل ويصل للامتداد إلى الماضي ليحوره وفق مُعطيات نصرِه المهزوم"؛ ص80 - 81.
هنا مناخٌ ذِهني فلسفيٌّ رَمزي، وضع الكاتب في منحًى تاريخيٍّ معيَّن، كوَّن وعي اللَّحظة التاريخيَّة، عبر ذات المنحنى التاريخيِّ المعيَّن - مشكِّلاً المانفستو النظري للفعل كأيِّ بداية تقليديَّة لِمُحاولة الفهم، وكأنَّه هنا يوَدُّ استحضار ذاكرة إيجابيَّة، مضادَّة للذاكرة السلبيَّة المحشوَّة بإيديولوجيا مغامرة، يفسِّرها الفنَّان المبدع بوعيه الذي يفترضه، والذي رأيناه في هذا العمل، بعد أن يخلص النَّاس من الظُّلم والقهرِ والفساد، وقطف الشفاء القادم (شفاء عضات الكلاب وقضمات الجرذان)؛ ص25 من بين أزلام النِّظام (الكلاب) وزبانيته (الجرذان).
من جانب آخر، يَستهجن الكاتبُ صمْتَ البعض تجاه الظُّلم واستِمْراءَه، وهو ما أثار حفيظةَ الرِّواية، والكاتب، والبطل الروائي (أثناء خروجه من المشفى، ظلَّتْ عيناه معلَّقتان على أحذية المارَّة، يتفحَّصها بعينٍ يَكاد الحزن يخترقها، جميع الأحذية مربوطة بشكل جيِّدٍ سليم بأناقة، هذا يدلُّ على أن مشكلتهم مع الرباط منتهية، أو هي غير موجودة أصلاً)؛ ص23.
الكاتب في هذا العمل يريد أن ينتقد الحالة التي وصلت إليها المسلكيَّات الاجتماعيَّة عند بعض الشَّرائح، وكأنَّ هذا السُّؤال الشَّائن سياجٌ يَحمي صاحبه، بناءً على ذلك نستطيع القول: إنَّه ليس كلُّ (أنا) كاتبة واعية بذاتها فقط، وبنوعية حضورها في العالَم؛ لأن الكتابة يمكن لها أن تكون ضربًا من هروب الذَّات، والاحتماء بالخارج، وسعيًا إلى تغطية عريها (فهذا المسحوق هنا إلى حدِّ الفقر الممعن في الفقر، الرثِّ الملابس، المسكون بتقاطيع الزَّمن المَحفور بكلِّ قسوةٍ على ملامحه، يتقن فنَّ الضحك، وعِلم القهقهة، ومَنابت الفرح، وأصول السَّعادة، وكأنَّ ما يستحقُّه قَدْر مسلَّمٌ به، لا يمكن التَّفكير به، أو مقاومته)؛ ص87.
يعود الكاتب مرَّةً أخرى؛ لِيَنتقد هذا الوعي السَّلبي المضادَّ الذي لا يتَعامل مع ما يجب أن يكون (الوعي به من أجله، والثَّورة والتمرُّد، وإحقاق الحقوق)، وهذا أمر نرى فيه إستاتيكيًّا، وعيًا اجتماعيًّا سوسيولوجيًّا لعلاقات محدَّدة ضروريَّة، مستقلَّةٍ عن الغير، وهي علاقاتُ إنتاج تُناسِب درجةً محدودة تطور قواهم المادِّية الإنتاجيَّة، وهو نمَط يكيِّف سيرورة الحياة الاجتماعيَّة والسياسية والفكريَّة بصفة عامة.
"نحن سلَّمْنا طوعًا وبإرادةٍ قلنا: إنها إرادتنا، وبحريَّة صورت لنا أنَّها حُرِّية، سلَّمنا للقادة أن يقوموا بتهجيننا تهجينًا مُطلقًا، فاعترَفْنا عن قناعةٍ أو شبه قناعة، وعن خوفٍ محشوٍّ بالجُبْن، أوليس الخوفُ المحشو بالجبن أقسى أنواع الذلِّ والعبودية؟"؛ ص85.
هؤلاء المتنفِّذون مَن مارسَ أكبر حركةِ تزويرٍ في التَّاريخ المعاصر، حيث تحوَّلَت الهزيمة في منظورهم إلى نصر، والهروب إلى ثبات، والمهزوم إلى منتصر، ليس هذا فحَسْب، بل والفِرْعون زادت فرعنَتُه؛ لأنَّه لم يجد من يردُّه عن غيِّه، "سلَّمنا بالهزيمة على أنَّها النصر المؤزَّر، وابتكَرْنا من خيالنا الخصب المترع بالنَّماء صورًا وأطيافًا ظلَّلت الهزيمة بنوعٍ من سحرٍ مسرف في الوصول إلى الأفئدة وإلى القلوب، وارتددنا إلى عصور قديمة، فوضَعْنا القائد المرتجف من ذبابة موضع الفراعنة، وتَمادَيْنا إلى الحدِّ الذي صرَّحنا فيه بطريقةٍ ما إلى الفخر بعبوديتنا لفراعيننا، دون أن ندرك، أو نحاول أن ندرك أنَّ فراعنة العصور القديمة لَم يكونوا عبيدًا لفراعنةٍ أكبر أو أقوى منهم، أما نحن فإننا نعلن عبوديَّتنا لمن أعلنوا عبوديتهم للفراعنة ذوي المكانة والسَّطوة والنُّفوذ"؛ ص85 - 86.
ما هذه السُّخرية اللاذعة التي يُطْلِقها الكاتب؟!
هل هي اليأس من السُّلوك السويِّ لدى البُسَطاء والجِياع، أم التَّحريض والدعوة إلى الفعل والنُّهوض لاقتحام (التابو) وكَسْر السَّاكن، واختراق هالة المحرَّمات؟!
نستطيع القول: إنَّها كلُّ هذا وذاك، برزَ ذلك في الزمن الموقفيِّ المتداخل مع زمنٍ موقفي مغاير، والذي يشدُّه خيط الضديد على قاعدة التَّلاقي والتنافر، زمن الانكفاء (الجمهور) المتضادّ مع زمن الخروج (التمرُّد)، بين الزَّمنَيْن حسٌّ مأساوي تكشفه المُفارقَة بين وجودٍ مكتمل داخل الحالة (السُّلطة، والمتنفذ، والحذاء)، ووجود منقوص خارجها (الرَّائي، والكاتب، والشَّعب)، وهنا إمكانيَّة تلاحق التوتُّر، بحيث لا يبدو ما تستعيده الذَّاكرة حالة ماضويَّة، بقدر ما هو استِدْخال للماضي في نسيج الحاضر؛ إذْ لَم ينفصل الماضي نهائيًّا.
هنا قضايا جادَّة يُعانيها الكاتب، جعلَ الخلق الفنِّي لديه مسؤولاً عن صياغةِ رؤيةٍ شاملة محرِّكها التوتُّر أولاً وأخيرًا، يَحتضنها خِطابٌ معرفي قابلٌ لأن يُؤَدلَج بطريقةٍ أو بأخرى، يذهب بأن يذهب بنا الاستِكْناه؛ ليشكِّل مَرتعًا لِجُملة من القِراءات المتشكِّلة غير المُتْرَفة تأويليًّا، وتأويل وُجودِنا (به/ عَبْرَه/ معه)؛ حيث صِراعُ الأضداد الذي يأخذ صِراع (الأنا الفرديَّة للآخَر/ المتنفذ المتسلِّط/ النمرود والحذاء/ شجرة الدُّر)، مع الأنا الجمعيَّة (الفقراء/ ورموزهم الشَّعب برمَّته وكامل شرائحه) (داخل الأنا)، هذا الصِّراع يؤكِّد حتميَّةَ الوجود والبقاء.
لقد جاءت رؤيةُ الكاتب أقرب إلى الطَّقس اللاهوتي ومسلَّماتِه (التَّفحيل والإفحال)، مُمَنهجة عبر رؤيا ثقافية تنظر إلى النصِّ كمَكْمَن للبشري من دفاعه الدَّائم عن وَعْي الوجود، كاتبنا التقطَ موضوعه من الواقع، ولا نَعْني بالواقع مفهومَه المدرسيَّ الجاهز، إنما نعني به تلاحُمَ الرِّوائي، المتمثِّل في التجربة الحياتية المعيشية.
هكذا اتَّضح المسار الفنِّيُّ في الرواية، وذلك في التزام الكاتب الثابت بينه وبين المُجتمع عبر النَّص، بواقعٍ عايشَه، فبات يتشكَّل في سياقاتٍ جدليَّة مهولة، وفضاءات وأمكِنَة غائمة في زوايا الذِّهن، عَبْر رحابة لا نهائيَّة - لا نهائية المكان والاحتمالات - وهو أمرٌ يوضح مفهوم الحتميَّات المحليَّة، ويبيِّن أنَّها جماعات مفسرة؛ أيْ: جماعات تضمُّ مُنتِجي ومستهلِكي هذا النَّوع أو ذاك من المعرفة، واستنكارًا لشموليَّة الخِطَاب الواعي، وإمبرياليَّته، وأنَّ الرواية تبدو مكانًا ليس بالمستحيل أن تَتعايش فيه عوالِمُ متشظيَّة، خاصة إذا كانت متكافئة، أو أن تُقاس بمقاييس توحُّدها في وحدةٍ واحدة متراصَّة.
إنَّ الكاتب الذي يرى حقيقة متجددة في إطار مُغامَرةِ الكشف والخلق يضع لِنَفسه مساحاتٍ تصل إلى ذروة الوعي الحاضر، حيث يتمُّ استِشْفاف النَّسيج الإنساني المنفتح على آفاق بِكْر، بتفجير المواقف الخلاَّقة، والنَّظر إليها تحت إضاءات خاصَّة، من خلال إعادة النَّظر للعالَم، ومسيرة الإنسان وسواه، كمّ هائل من التَّناقضات، والتحدِّيات بحيث يظلُّ الفرد الإنسانيُّ الهادف هو البديلَ الذي يحطِّم عُفونة المياه ورُكودَها.

الوعاء الشكليُّ للرواية:
لا بدَّ عند قراءتِنا لرواية "فوضى" من الغوص بشيءٍ من الحميميَّة في الوعاء الشكليِّ الذي وضع الكاتبُ فيه موضوعاته الرِّوائيَّة، وبمعنًى آخَر: التطرُّق إلى الأسلوب الكتابي الذي يتمَنْطَق به كاتبُنا في هذا العمل المفعم بالمشاعر المتزاحِمة الفيَّاضة والمضطرِبة، والذي يضجُّ بالتأزُّم، وإذا كان الأسلوب عند البعض هو مجموعَ الطاقات الإيحائيَّة في الخطاب الأدبي، حيث إنَّ الذي يميِّز هذا العملَ هو كثافةُ الإيحاء وتقليص التَّصريح، وهو نقيض ما يَطَّرِد في الخِطَاب العادي، أو ما يمكن تسميته في الخطاب النَّفعي - المظاهر اللغويَّة - الأسلوب هو اشتقاق الأديب من الأشياء ما يُلائم عبقريَّته، ومن هنا تنمو وتَتنامى الفلذة الشُّعورية في العمل، وينوس مقياس المفاجأة تبعًا لِرُدود الفعل ومعدن تلك المفاجأة.
لغة الرِّواية هنا صاخبة، حارَّة، فوَّاحة بِرَوائح الكثافة الإبداعيَّة، قراءتها تدفَعُك للانتقال إلى مرحلة التدبُّر والتفكير العميق، تراوح بين عالَمَين؛ عالم ميت، وآخر لا يَقْوى على الولادة من جانب، وحتميَّة الولادة ولو كانت قيصريَّة من الجانب الآخر، يقوم معمارها في الأساس على أساليب الواقعية الأخلاقية، والتأويل الأخلاقي المعرفي؛ لذا توسع مدى البصيرة الرُّؤيَوِيِّ، والوعي الاجتماعي المتَّجِه نحو تحقيق الحلم.
إنَّها تَسير في طريقٍ يَقود الكاتبَ والمتلقِّي وراء رغبةٍ غامضة، عبر أسلوبٍ رمزي غامض، ومحبَّب في نفس الوقت، في محاولة منها لِسَبْر أغوار الحالات المعقَّدة، والفعل الرَّخيص، حالة الوعي السلبي لجملةٍ من المتنفذات، عُولِجَت بطريقة عاليةٍ من المهارة والخيال، وأيضًا الذَّكاء، كما شكلت في نفس الوقت، بل وتجاوزت تقليدًا شكليًّا، وجهدًا ممتازًا في تقييم الفارق التاريخيِّ والفعلي بينها وبين القارئ الحديث، بما في ذلك بناء وعي المعالِم الآن، كما الماضي.
إنَّها روايةٌ مثيرة للاهتمام، تقف على حافةِ التُّخوم التي أنتجَت التَّعقيدات في الرِّواية الحديثة؛ كونَها تُفْرِز الحيرة والارتباك و(الفانتازيا) والتَّصميم معًا، عبر سَرْدٍ متقَن، وتغلغُلٍ بارع في العمق الاجتماعي بأسلوبٍ متماسك، ونفَاذٍ دون أن تحمل شعارًا غير شعار المسؤولية الاجتماعية والأدبية؛ إذْ رصدت كفاح النَّاس، وكدَّهم، وشعاراتهم، صفاء النفس فيها ممزوجٌ بالإباء الداخليِّ للكاتب الذي لَم يلجأ في تقديمه لموضوعه في هذا العمل إلى التقرير المباشر عن سماتها الخارجيَّة والنفسية، بل عمد إلى طَرْح هذا الموضوع القديم الجديد من خلال صراعاتها، وصراعات الشخصيَّة الرئيسة فيها (الرَّاوي والكاتب)، استحدث واقعيَّتَها من امتزاجِ عُنصرَيِ الخير والشرِّ فيها، وتراوح الصِّراع النفسي داخلها ما بين مدٍّ وجَزْر، بأسلوب حرص على التَّحليل، والاستبطان لِمُجمل الظروف التي تبرز فيها تجسيم نوازع الشر وملامح الظُّلم الاجتماعي.
لقد برز هنا عمقُ الحميميَّة بين الشكل والموضوع، فكان السَّرد المتقن، الذي هو توظيفُ مهارات الرِّوائي الواقعيَّة والمُلْغِزة؛ سعيًا إلى تحقيق الذات تحقيقًا وجوديًّا في عالَمٍ تَطغى فيه/ علَيْه قوَّةُ التاريخ، وتعقيداته الاجتماعيَّة، حيث تعيش فيه الأحداث داخل شروطها الصارمة، يتمُّ فيه إخراج الحالات من عالَمِ الوعي التقليديِّ والواقعي، إلى عالم آخَر، تسيطر عليه الألغاز، ويهيمن عليه الغموض، أحداثها بناء مضغوط لألغاز الواقعية الرمزيَّة، واستغوار هام للصعوبات والحالات التي تواجه الرِّوائي الحديث الذي لا يملك استعدادًا للاستقصاء عن الخصائص الإنسانيَّة التي تتميَّز بها الرواية، فهو يعبِّر عن ابتكاراته المندفعة في ميكانيكيَّةٍ أسلوبيَّة متناغمة، الحاضر فيها يتَداخل فيه الكثيرُ من الماضي، فيها يصقل الكاتب أدواته بدرايةٍ جليَّة واضحة، يهجس بذلك شعورُه الذي يحتوي أفكاره اللاذعة، ونبوءاته المستقبليَّة، ورغم فتنة اللُّغة التي يعتمدها، يظلُّ موضوعه المليءُ بالغموض يكشف ويحجب دون أن يقترب من الغموض، أو ينجذب إلى شكلانيَّة فاتنةٍ تافهة المعنى.
الأفكار الصَّارمة الجليَّة، وضَّحها البناء الداخلي دون مِرَاء، لقد وظَّف الكاتبُ هذا الجهدَ الطيب الشاقَّ في تفعيل علاقات الكتابة كلها في بناءٍ إبداعي محدود الكلمات، واسع المعنى، نظام هندسيٍّ صارم، كما أنه صلب، فكان العمل بجملته لوحةً جذابة، ترصد حالاتها، وأبطالها، وملامحها رصدًا دقيقًا، في صَمْتِهم وكلامهم، ومواقفهم وحركاتهم، وتتَبُّع ما يُساورهم من انفعالاتٍ ومخاوف عميقة غامضة، وإحساسٍ بالذَّنب والقلق، تفيض على ارتعاشات العاطفة، ودبيب اللُّغة وحذرها في النفس، حتَّى وكأنها بقوامها، وأصواتها، ولغتها، بروشور، يعكس طيف المعالِم والوجود، وبقدر ما تَنْطوي على أشكالها الإنسانيَّة التي يتحرَّك عليها مِحْورُها الروائي، إشكاليَّة الفساد، والتراجع، وكل الثنائيات، وجدليَّة الأضداد التي لا تتوقف في ذهنيَّة الكاتب المتميز.
هنا فلسفة نصِّية تشكَّلُها لغة دافئة، متدفِّقة، مندفعة، تغوص ضمن حركة المفهوم واللاَّمفهوم، تدرك ولا تَتدارك ذاتها، تشكِّل مهمَّة لا حدود لها، تُشرِف على عمق أفق بلا نهاية، حالة متأهِّبة توَّاقة للاكتمال، تمزج بالمفهوم الهيجلي (هيجل) بين محاولة اكتمال الوعي بالذات إلى أطروحة تساؤلٍ مُستَعاد، وبِكَونِها تراوح بين التجريد واللاتجريد أحيانًا، وتظل في وضع انسحاب مضمر بحيث يقطع كل أمر يشدها على عموميتها المكتسبة؛ لتجعل نفسها في احتكاكٍ مستمرٍّ مع الفعل؛ لِهذا التقطت ما هو متفرِّد (الحذاء) من الحالة التقليديَّة المهملة؛ لتجعل منها مواضعَ للاختزال دائمًا للتفكير، ثم الفعل، مواضع دون هذه اللُّغة المتميزة ما كان للكاتب أن يستطيع إيصالها لذهنيَّة المتلقِّي بهذا الشكل الصعب/ السهل/ الجميل.

جدليَّة الأسئلة بين فوضى السلب وفعل الإيجاب:
الكاتب في هذا العمل المتميِّز امتلكَ جدل الأسئلة، بهدف امتلاك ناصية التحوُّل والتحويل، (يحوِّل ذاته إلى قادرةٍ وتحويل فشله إلى قدرات)؛ ص75 - عَبْر حالات من التشظِّي النفسي جعلَتْه يعترف بأنَّ نفسه موزَّعة بين ما هو واقع، وما يريد ويتمنَّى.
لقد دعا بيلنسكي الأدبَ بأن يقدِّم أعمالاً إبداعيَّة مستمَدَّة من الأعمال الرَّفيعة، والقيِّمة التي تَخْدُم الإنسان، فعلى الأدب والفنِّ عمومًا/ وعميقًا أن يرى شعور الكراهية تجاه كلِّ اضطهاد وعَسْف، كما في رمزيَّة الحذاء المعوق عدم ربطه لكلِّ شيء جميل (الفرح/ اللَّعب/ وحتى التفكير السوي السليم)، وإذا كان الأدب الملتزم هو التفهُّمَ المنطقيَّ لاعتبارٍ قيمي موضوعي ينقل الكاتب إلى خارجه، كما أنه مفاجأة لذاته، وإعداد عفويٌّ للمفاجأة، وفيه جدليَّة ذاتية مع الواقعية الخارجية، هكذا يعيد الشرط الثقافيُّ إنتاجَ نفسه، فتَبْرز إشكالية تَساكُن المفاهيم دون إبهام أو زئبقيَّة، وهي أبرز سمات الواقعيَّة غير الرمزية وأحيانًا الرمزية التي اعتملت جوانب هذا العمل حيث رمزيَّته (الحذاء/ ربط الحذاء) التي شكَّلَتْ عصبَ الرِّواية.
هذا وإذا كان المبدع غير إيديولوجي وغيرَ سياسي، وإذا كان خطابُه في جوهره فنِّيًّا، فهذا لا يعني تفريغ الإبداع من دلالته الإيديولوجية، ودوره الموضوعي الذي يمكن أن يُمارسه المجتمع، فللمبدع رؤيتُه، وموقفه، وإيديولوجيته أيضًا، وكذا للنصِّ كما نرى:
1 - قدَّمت الرِّواية رسالةً مُمَدرسة إلى الأجيال القادمة؛ حتَّى لا تصيبها الاستكانة، دعا فيها الكاتبُ لحسم الأمور تجاه الحاكم الظَّالم؛ حتى لا يُصبح الخنوعُ سلوكًا يتَوارثه الأبناء عن الآباء؛ "فالأطفال لا يَزالون يملكون القدرة على ربط أحذيتهم ببراعةٍ واحتراف، لكن ماذا لو فقد الأطفال هذه القدرةَ يومًا؟ قد لا يفقدونها بإرادتهم، ولكنهم قد يفقدونها لحظةَ يَفقِدُها الآباء، فتصبح العادةُ الجارية - العجزُ عن ربط الأحذية - عادةً وراثيَّة، تنتقل عبر الأجيال جيلاً خلف جيل"! ص24 - 25.
2 - الرَّفض الباهت صورةٌ عن القبول المؤدلَج، حالة ممارسة لدى العديد من أفراد المجتمع، ربَّما حفاظًا على المصالح، وربما الخوف من المقاصل والخوازيق، فماسِحُ الأحذية مارس في عمله السُّلوكَ الانتقائي بأنْ وضع نفسه "أمام قضيَّة القبول والرفض، فهو يمسح حذاءَ فلان، ويرفض مسح حذائي"؛ ص33.
3 - زيف الكثير من الحكَّام وضلالهم، فمعظمهم يحوِّل الهزائم إلى انتصارات، ويَضع غشاوةً على عيون الجماهير لا ترى عبرها إلا ذاتَه المبجَّلة، فهو يملك الموقفَ والرُّؤية، وإرادة تغيير الدُّستور بما يتوافق مع مصالحه وزبانيته، بعد حَقْن الناس - حتى الفقراء - بحتميَّة تمجيدِه: (الجوع، حلقات الناس الجياع المتكوِّمة كدمامل ضخمة، ورغم هذا تغنِّي لحياته، وبحياته)؛ ص47، مع أنَّه يعلم في الوقت ذاته (أنَّ الملايين لا يمكن سَحْقُها إنْ هي قرَّرَت البقاء والحياة)؛ ص68، فقد أكدت حركة التاريخ، وثوراتُ الشُّعوب إمكانيةَ ذلك، (فليس في التاريخ القديم والحديث ما يدلُّ على أنَّ رباط الحذاء يمكنه أن يبقى بمنأى عن الربط)؛ ص88.
ومِمَّا قوَّى فكرته هذه استحضارُ شخصية شجرة الدُّر، وأسطورة النمرود، وارتباط كلٍّ منهما بالحذاء، كصورةٍ مُثْلى عن ترابطِ تَمرُّد الماضي بضرورة وحتميَّة تمرُّد الحاضر وانتصار الإرادة الجديدة الناهضة من عزم الفقر والعوز، كلطمة قاسيةٍ قدَّمها الضعيف الناهض إلى القويِّ الهابط.
4 - الاعتماد على الذات في التغيير المطلوب؛ (فالمخلوق الغريب الذي حاول أن يَعْقد رباط حذائه "حذاء البطل/ الرواية/ الكاتب" فقدَ بصرَه في سبيل ذلك، والمشفى هنا بأسرِه اهتمَّ بجروحه بطريقة رائعة مدهشة، لكنه لم يهتم ولو للحظةٍ بِمُساعدته بربط الحذاء)؛ ص20.

لماذا؟
لأن كلَّ الحلول المقدَّمة، كانت وظلَّت حلولاً مبتسَرة غير قاطعة؛ لذلك لم تنجح جميعُها في حلِّ المعضلة.

خاتمة:
وأخيرًا، فإنَّ رواية "فوضى" مشبَعة بجوٍّ من الحميميَّة والمتابعة القويَّة، وإن كانت مترفِّقة بالأحداث والحالات، متقصِّية أبعاد الإحساس في الكلام، ليس على المستوى الأدبي، بل بما للوظيفة الشخصيَّة من قدرةٍ على معرفة نزوعات النفس، وامتداداتها السوسيولوجيَّة، إنَّها "أوديسيَّة" صِداميَّة تبحث عمَّا يجب أن يكون؛ عن طريق وَعْيِها للكائن، تذكِّرنا رغم صغر حجمها بنموذج الرِّوايات العملاقة، رواية مركَّبة، جريئة، ساطعة، تكشف مدى إمكانيَّة وخطورة استسلام الفرد للحاكم في آنٍ، ومعاندته في آنٍ آخَر، وأنه ليس قدرًا مطلقًا؛ ما يؤكِّد أن الكاتب روائيٌّ متمرِّس، يكشف عن نُضجٍ في الكتابة، وحساسيَّة في التحدِّي بعيد المدى.
وعلى كل حال؛ فانَّ "فوضى" تشدُّك من تلابيبك صوبَ تفاصيل النَّهار؛ لتذوق طعم الشمس الساطعة، كثافة عالية تُمْلِي على المتلقِّي قراءةً مزدوجة، محدودة لحظة القراءة المباشرة، وأخرى أكثر اتِّساعًا ورحابة، تبدأ حين تنتهي القراءة الأولى؛ ما يؤكد أنَّها تحترم القارئ؛ لأنَّها لا تعطيه المعنى كاملاً؛ إذْ تترك له فعلَ التحليل، والتأويل على قاعدة مشاركة المبدع ورؤيته.
من جانبٍ آخَر: يمكن الادِّعاء بأنَّها روايةُ الرَّبيع العربي؛ لكونِها شكَّلَت حالة استشرافيَّة أكدَت أن المبدع يرى ما لا يرى، وهو ما وفق فيه الكاتب "مأمون أحمد مصطفى" كثيرًا!

د. خليل حسونه