التحريف وإخفاء ما لا يجب أن يخفى في تفسير نص طريق السلام القرآني في الخامس الابتدائي
(1)
في مقرر اللغة العربية في الصف الخامس الابتدائي، وفي مفتتح الفصل الدراسي الآخر- نجد نص (طريق السلام) القرآني الذي اختار له المؤلفان آيات من سورة البقرة هي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)} [البقرة: 207 - 210].
وطيب أن يختاروا نصا قرآنيا ففي مراحل تالية لا يحدث ذلك، لكن ليس من الطيب توجيه التفسير لاتجاه ليس هو الاتجاه الأولى ولا الأظهر.
كيف؟
يقول المؤلفان ص3: (يؤكد القرآن الكريم القيم السامية التي تضمن للمجتمع الأمرو الاستقرار والسلام؛ فالسلام لن يتحقق على الأرض إلا باتباع منهج الله سبحانه وتعالى والعمل بما جاء في كتابه الكريم واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم).
مقدمة صحيحة يُنتظر أن تؤسس لما قالته الآيات، فهل فعلت؟
لا.
كيف؟
تابع المؤلفان قائلين: (ففي الآية الأولى 207 نموذج لرجل اتبع سبيل السلام مع أعدائه طلبا لرضا الله وحبا لنبيه صلى الله عليه وسلم. هذا الرجل هو صهيب الرومي الذي ضحى بماله كله كي يتركه كفار قريش يهاجر إلى المدينة).
فهل كان ببال سيدنا صهيب الرومي (السلام مع أعدائه) حين فعل ذلك؟ أم كان الذي في باله هو (رضا الله وحبا لنبيه صلى الله عليه وسلم) فقط؟
لا شك أن الآخر هو الذي كان في باله ونيته، وهيا نقرأ قصة هذا الحدث الذي أوردها ابن سعد في الطبقات، وقال فيها: (قال: أخبرنا هوذة بن خليفة قال: أخبرنا عوف عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة إلى المدينة قال له أهل مكة: أتيتنا ها هنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك! فقال: أرأيتم إن تركت مالي تخلون أنتم سبيلي؟ قالوا: نعم. فجعل لهم ماله أجمع، فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال ربح صهيب، ربح صهيب).
وقال في رواية أخرى: (قال: أخبرنا عفان بن مسلم وسليمان بن حرب وموسى بن إسماعيل قالوا: أخبرنا حماد بن زيد قال: أخبرني علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو المدينة، واتبعه نفر من قريش، فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا، وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم؛ فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي! قالوا: نعم، ففعل. فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع! قال ونزلت: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد").
ماذا رأينا؟
رأينا هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضحية بالمال، وتفاوضا ناجحا عماده إظهار القوة لإنجاح ذلك؛ فهل ذلك يتلاءم وما قاله المؤلفان؟ وهل أشار المؤلفان إلى ذلك؟
لا.
لماذا؟
لا أدري.
(2)
ثم ماذا؟
ثم تابع المؤلفان قولهما: (وفي الآيتين 208 و209 دعوة عامة لكل إنسان كي يدخل في طريق السلام الذي يحقق له الأمن والاستقرار).
ولا شك أن السلام يحقق ذلك، لكن هل كان خطاب الآية لكل إنسان كما ادعى المؤلفان؟ أم كان للمؤمنين الذي رضوا الله تعالى ربا ومحمدا رسولا ونبيا والإسلام دينا فقط؟
قال الله تعالى في مفتتح هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، فنص على أن المخاطبين هم جماعة المؤمنين لا كل الناس كما قال المؤلفان، ونص على أن ما سيأتي بعد هذا النداء يُعنى به المؤمنون فقط؛ لأنه من أمر دينهم؛ فهل أوضح المؤلفان ذلك؟ لا. لماذا؟ لا أدري.
ولا شك - مرة أخرى - أن السلام يحقق ذلك، لكن أعنت الآية ذلك فقط؟ أم عنت شيئا يتلاءم وسياق الآيات قبل هذا الشيء المسمى طريق السلام؟
الجواب الذي يظهر من أدنى تأمل هو أنها عنت شيئا آخر هو أولى وأجدر.
ما هو؟
إنه قبول شرائع الإسلام كافة من دون تجزئة ولا تفرقة بينها؛ لأنها كلها هي الإسلام ذلك الدين الذي ارتضاه الله لعباده بعد أن أكمله وأتمه، قال تعالى: {... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا...} [المائدة: 3].
يقول الشيخ الدكتور سيد الطنطاوي شيخ الأزهر السابق في تفسيره الوسيط ممهدا: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
{السلم} بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام- بمعنى واحد، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة. وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل {السلم} بكسر السين للإِسلام، و{السلم} بفتحها للمسالمة، وأنكر المبرد هذه التفرقة. قال الفخر الرازي: وأصل هذه الكلمة من الانقياد، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى. وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب، وهذا أيضا راجع إلى هذا المعنى؛ لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه").
ثم يأتي إلى الكلمة المحورية "كافة" ليؤكد المطلوب وهو قبول كل شرائع الإسلام، فيقول: (و{كَآفَّةً} أي جميعا، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع، واستعملت بمعنى الجمع والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق، وهي حال من قوله: {السلم} أي: يا أيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه، واعملوا بكل أوامره ونواهيه، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؛ فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه.
وبعضهم يرى أن قوله: {كَآفَّةً} حال من فاعل (ادخلوا) وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه: ادخلوا في الإِسلام جميعا، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين؛ لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا.
وسواء أكان لفظ {كَآفَّةً} حالا من {السلم} أو من فاعل {ادخلوا} فالمقصود من الآية دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف).
ثم نراه يؤخر المحْتمل الثاني الذي هو السلام الذي لم يورد المؤلفان غيره فأوهما أنه المراد الوحيد، فيقول: (وإذا كان المراد بكلمة {السلم} المسالمة والمصالحة كان المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين متحابين غير متباغضين متجمعين غير متفرقين، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم؛ فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام، وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله).
وأحسنَ القول وأجاد وصدق، وكان هذا هو الذي يجب أن يقوله المؤلفان في كلامهما السابق عن السلام لكنهما لم يفعلا لسبب لم يعلنا عنه.
ثم يختم كلامه مؤكدا السابق بقوله: (هذا هو المعنى الذي نراه ظاهرا في الآية، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين).
وليس هو وحده في ذلك من المحدثين بل نرى السعدي في تفسيره يقول بعد الآيتين: { 208 - 209 } {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}: (هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا {فِي السِّلْمِ كَافَّةً} أي: في جميع شرائع الدين، ولا يتركوا منها شيئا، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه؛ إن وافق الأمر المشروع هواه فعله، وإن خالفه تركه، بل الواجب أن يكون الهوى تبعا للدين، وأن يفعل كل ما يقدر عليه من أفعال الخير، وما يعجز عنه يلتزمه وينويه فيدركه بنيته).
ثم يربط جمل الآية بقوله: (ولما كان الدخول في السلم كافة لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: في العمل بمعاصي الله {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} والعدو المبين لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء، وما به الضرر عليكم).
ويستمر في ربط الآيتين، فيقول: (ولما كان العبد لا بد أن يقع منه خلل وزلل، قال تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} أي: على علم ويقين {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وفيه من الوعيد الشديد والتخويف ما يوجب ترك الزلل؛ فإن العزيز القاهر الحكيم إذا عصاه العاصي قهره بقوته، وعذبه بمقتضى حكمته فإن من حكمته تعذيب العصاة والجناة).
(3)
لم يقتصر المؤلفان في ذلك على الشرح بل أعاداه وأكداه في جمال التعبير.
كيف؟
قالا: (ادخلو في السلم كافة): "أمر للحث على الدخول في السلم والابتعاد عن العدوان".
ويجب أن يتغير ما قالاه إلى ما ورد سابقا في تفسير الدكتور سيد الطنطاوي شيخ الأزهر السابق في ختمه كلامه فيكون الجمال في (ادخلو في السلم كافة) هو: (دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف).
لم؟
حتى يُؤَكَّد الصحيح في كتاب الله تعالى.
(4)
فلماذا أغفل المؤلفان هذا المعنى الآكد والأولى والأظهرمرة في الشرح وأخرى في الجماليات، وأظهرا المعنى الفرعي وجعلاه المعنى الوحيد والمآل الفريد وأكداه في الشرح والجماليات؟
لا أدري، لكنني أدري أنه يجب ألا يتابعهم المعلمون على ذلك، بل يجب عليهم أن يشرحوا الآيات كما جاءت في كتب التفسير الحديثة والقديمة؛ فهل يفعلون؟ وهل تغير الوزارة هذا الشرح في العام المقبل إن شاء الله تعالى؟
أرجو بل أدعو!