المرأة والعمل

في زمن المرأة المعاصرة اليوم تطورات سريعة، وصيحات خطيرة، وقرارات مفاجئة، وأهداف مستقبلية مثيرة، واستراتيجيات ذات نفس طويل.

وإنني بصفتي امرأة طموحة، تسعى للمساهمة الإيجابية الفعالة في بناء هذا الوطن المعطاء، وتتوق لخدمة هذا الدين بكل ما أوتيت من قوة، ومن خلال تجربة ربع قرن تقريباً في العمل التطوعي والإغاثي والتعليمي والدعوي والاجتماعي، لا أفهم ما يجري حولي من تلميع وتصعيد للجانب النسائي على جميع المستويات، ولست وحدي في الساحة، بل صحبت وشاركت وساهمت مع عشرات بل مئات من الأخوات الفاضلات الملتزمات بالإسلام سلوكاً ومظهراً وعقيدة - نحسبهن كذلك ولا نزكي على الله أحداً - ومن قبلهن ساهمت جداتنا وأمهاتنا وجاراتنا في العملية التنموية للمجتمع، وساهمن بكل إيجابية في جميع مجالات الحياة، وأنجبن كبار رجال الدولة ومسئوليها، وصنعن قيادات فاعلة، بدون ضجيج ولا تهويل ولا رياء ولا سمعة، وقد كان المجتمع قوياً متماسكاً، حريصاً على سمعة نساءه، شهماً كريماً وقت الحاجة، غيوراً على حرمات جاره متمثلاً قول عنترة:
و أغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها

وإلى زمن قريب جداً عاشت المرأة في عزة نفس، وشدة حياء، وقمة العفة، وصون للحجاب، ولم تمتهن نفسها مع حاجتها وفقرها، وآثرت أن تعمل بيديها في بيتها لتسد حاجتها، ولم تلجئها الحاجة يوماً إلى مخالطة الرجال، واختراق الصفوف، وكشف المحاسن، بحجة لقمة العيش أو سد الحاجة، فأغناها الله من واسع فضله، ورزقها من حيث لا تحتسب، فمن يتق الله يجعل له مخرجاً.

ومما يثير الانتباه اليوم ويلفت النظر، التركيز المكثف حول عمل المرأة فيما يصلح ولا يصلح، والتوسع في نشر صورها ومحاسنها، بحجة تطوعها واحتسابها ومشاركتها في تنمية وتطور المجتمع، وكأن مجتمع جداتنا وأمهاتنا ومن قبلنا كان متخلفاً رجعياً، مظلماً كئيباً، فهبت المرأة اليوم لتنقذ الركب وتذهب الظلام، وتزيح ستار الجهل والإقصاء. وسبق هذه النهضة والاستيقاظ من السبات، الخوض في حكم الاختلاط، ومحاولة تشريعه وتسهيله، وتشكيك المجتمع في ثوابت دينه بفتاوى شاذة وأصوات مطبلة، وتأييدات معلنة، وبعد هدوء العاصفة، وتشرب الرذاذ المتناثر حولها، ظهر قرار توظيف المرأة بائعة مستأجرة (كاشيرة) في توقيت غير مناسب وتحد صارخ، في شهر فضيل، تصفد فيه شياطين الجن، وبقيت شياطين الأنس تعيث في الأرض فساداً.

وليست المشكلة في توظيف المرأة، ومنحها فرصة عمل كريمة، لبناء حياة شريفة، فالعمل الشريف للمرأة العفيفة مطلب مهم، وقرار عادل، ولفتة كريمة.

بل القضية الأهم، كيف تعمل المرأة ؟ وأين تعمل ؟ ومع من تعمل ؟
فالمرأة العفيفة لؤلؤة مصونة، ودرة مكنونة، لا تحل لسارق، ولا تباع لسفيه، ولا تلقى على قارعة الطريق لتدوسها الأقدام وتزدريها الأعين.

وعمل المرأة (كاشيرة) امتهان لكرامتها، وقتل لأنوثتها، ومصادرة لحيائها، الذي ضُرب به المثل (كان صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها). فمن متطلبات العمل اللين في الخطاب، ورد التحية بأحسن منها، وما أعقل فقهائنا وبعد نظرهم، حين تكلموا عن أحكام السلام فبينوا ونصحوا، ومن ذلك ما جاء في المنتقى شرح الموطأ (4/394): " قَالَ يَحْيَى سُئِلَ مَالِك هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ أَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ.

(ش): مَعْنَى ذَلِكَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُتَجَالَّةَ الْهَرِمَةَ لَا فِتْنَةَ فِي كَلَامِهَا وَلَا يَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى مَحْظُورٍ بِخِلَافِ الشَّابَّةِ فَإِنَّ فِي مُكَالَمَتِهَا فِتْنَةً وَيَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى الْمَحْظُورِ وَالسَّلَامُ عَلَيْهَا يَقْتَضِي رَدَّهَا وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمُكَالَمَةِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ السَّلَامَ شِعَارُ الْإِسْلَامِ شُرِعَ إفْشَاؤُهُ عِنْدَ لِقَاءِ كُلِّ مُسْلِمٍ مِمَّنْ عَرَفْت وَمِمَّنْ لَمْ تَعْرِفْ إِلَّا أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ مَا يَخَافُ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالتَّعْرِيضِ لِلْفُسُوقِ كَمَا مُنِعَ مِنْ الرُّؤْيَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالْحِجَابِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَلَا بَأْسَ أَنْ تَجْلِسَ الْمُتَجَالَّةُ عِنْدَ الصَّانِعِ لِبَعْضِ حَوَائِجِهَا وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِلشَّابَّةِ، قَالَ مَالِكٌ وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَيَضْرِبْهُنَّ عَلَيْهِ. أهـ

وأي فتنة أعظم من فتيات في عمر الزهور، يلبسن ملابس أنيقة، وتفوح منهن رائحة الجسد الناعم، بنعومة كريم بودي شوب ونكتار، وقد رسمت حاجبها، وكحلت عينيها، ورطبت الشفاه بلون وردي لماّع، وتضرب على لوحة الكيبورد بأيادي ناعمة ذات أظفار طويلة، بأصباغ صارخة وخواتم براقة. فأي فتنة أعظم للشاب من هذه الحسناء، والله إنهن لسحر فعّال، وأي مخرج لشبابنا الصالح الذي هجر الأسواق والمنتزهات والأماكن المختلطة، بل حتى بيت الله الحرام لا يقوى على الاستمتاع بروحانيته وإيمانياته، فراراً من الفتن ومن تبرج النساء، وإذ به يجد نفسه حتى في مراكز التموين والمخابز أمام نساء يبايعنه ويخدمنه ويلن بالقول.

ربما يُرد علي بأني متشائمة ومبالغة ومسيئة الظن بفتياتنا المحافظات، وأن عمل المرأة كاشيرة خاص بخدمة العائلات والنساء مثيلاتهن وفي خصوصية تامة، وهذه حجج واهية، وحواجز ما أسرع سقوطها، والواقع يشهد بذلك، وبنظرة سريعة إلى كبرى مستشفياتنا الخاصة وإلى موظفات الاستقبال فيها، ليعرف صدق حديثي، وصحة توقعاتي، فقد أصبحت المرأة في استقبال المستشفيات عارضات أزياء، ومندوبات شركات تجميل، فما الفرق بين الوظيفتين، كلاهما محصلات أموال، مستقبلات زبائن، مخالطات للرجال.

ومما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات، وتسويد هذه الوريقات، أمور كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، ولكن أعود لعنوان المقال، وأصل الخطاب " متطوعات الهلال الأحمر في بيت الله الحرام " فربما يغتفر للمرء ويتجاوز عن خطئه وذنبه في أي مكان، ولكن ما لا يقبل ولا يغتفر أن نكون في بيت الله الحرام، فلا نستشعر عظمته، ولا نقدر حرمته، ولا نتأدب بآداب المصلين، فهذا منذر خطر، وسوء عاقبة، فقريش - في الجاهلية - مع كفرها وصدها عن سبيل الله، تعظم البيت وترعى حرمته ومكانته، وهذا البلد معظم منذ الجاهلية، مُهاب على مر الأزمان، ثم جاء الإسلام ليؤكد للبيت حرمته، ويشرّع تعظيمه، ويحفظ مكانته. وكان من تعظيم قريش للبيت أنهم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وأن يخلوا ثياب الحل، ويستبدلوا بها ثياب الحرم، إما شرىً وإما عارية وإما هبة، فإن وجدوا ذلك وإلا طافوا بالبيت عرايا. (الفتح 5/214)

وما أثار انتباهي اليوم في بيت الله الحرام، وأقلقني وأساءني، بل وأساء من حولي من المعتمرات والزائرات، ما رأيت من تصرفات متطوعات فريق الهلال الأحمر، لا تليق بالمكان ولا الزمان ولا الجهاز الإداري، ولا أظن المسئولين عليه يرضيهم ذلك، ومما يذكر ويشكر لهذا الفريق جهودهن الطيبة المباركة طوال الشهر، في إسعاف المصابات، ومساعدة المحتاجات، مع بعض الملاحظات على حجابهن - هداهن الله - وهن يمثلن فتيات مكة المتطوعات، وكنا نأمل أن يكن قدوة لبنات المسلمين الوافدات على هذا البيت، والذي حصل في اليوم الأخير منهن ليلة التاسع والعشرين من رمضان، مما يشوه هذه الصورة، ويحطم القدوة المرجوة.

وقد عشنا ليلتها أجواء إيمانية روحانية تزيد الإيمان، وتغسل الذنوب، وتطهر النفوس من أدران الحياة، ولم يعكر صفونا إلا هواة التصوير ومحترفي الذكريات، وقد أشغلوا أنفسهم ومن حولهم بتبادل الصور بحجة الذكرى. صور ناتشو صور رفائييل فاران صور سيرجيو راموس صور بيبي صور داني كارفخال صور روبن يانيز صور محجبات صور كيكو كاسيا صور كيلور نافاس صور اسينسيو صور بنت تدعي الله صور حرف f صور خروف العيد

ومن أبرز هؤلاء المصورين في تلك الليلة، فريق التطوع (فريق رفيدة الأسلمية رضي الله عنها) التابع للهلال الأحمر، فبعد انتهاء صلاة التراويح أحدثوا ضجيجاً، وأثاروا لغطاً، وتجمعوا من كل مكان، فارتفعت أصواتهم وعلت أحاديثهم، بشكل ملفت للنظر، علماً بأنهن كن في الصفوف الأمامية، وليس بيننا وبين الطائفين من الرجال في الدور الثاني إلا بضعة أمتار، ثم جلس الفريق الرياضي - عفواً التطوعي - كجلسة لاعبي الكرة، وفناني القنوات، لأخذ الصور التذكارية، في منظر مسيء للبيت الحرام، ومخالف لتعظيمه، وكان أمامهن زملاؤهن في العمل التطوعي في جانب الطواف، ينظرون إليهن وينتظرون فراغهن لأخذ عدتهن وعتادهن الطبي، وبقين يلتقطن الصور التذكارية بعدة جوالات، فأثاروا الانتباه وأساءوا للعمل التطوعي ولفتيات مكة من حيث يعلمون أو لا يعلمون. وقد نصحت الأخوات وذكرتهن ونصحهن غيري، ولكن لا حياة لمن تنادي. وقد سمعت إحدى المصليات المعتمرات من بلد عربي شقيق تنظر بحسرة وتقول: هذا صد عن سبيل الله.

وعندما أنكرت عليهن إحدى الأخوات، ردت عليها إحداهن بأن هذا من أجل التقرير.

فسبحان الله لا يفهمون من العمل التطوعي الخيري والتنموي إلا صور الذكرى واختلاط الجنسين، ورفع التقارير المصورة المنفتحة.

ومن فضل الله علينا أنا وكثير من الأخوات المتطوعات اللاتي تطوعن في الأعمال الإغاثية والخيرية على مدى ربع قرن تقريباً، عملن وتطوعن وشاركن بتقارير وتقييم واستراتيجيات وخطط مدروسة، بدون أن تظهر لنا طرف يد أو ظفر قدم، وبدون اختلاط أو احتكاك بالرجال، واستطعنا بفضل الله تأسيس كثير من مؤسسات البلد الخيرية، بدون ظهور وإعلام، وبدون اتصال مباشر بالأقسام الإدارية الرجالية، وكان جلّ عملنا عن طريق الخطابات الرسمية والفاكسات ورسائل الجوال والوسائط النسائية القريبة من محارم الرجال، وكان عملنا ولله الحمد مثمراً ناجحاً مباركاً، لمسنا بركته من خلال ثناء من حولنا وثقتهم بنا.

واليوم تغيرت المفاهيم وتغربت القيم، فأصبح العمل التطوعي اختلاط وصور وإعلام وشهرة – إلا من رحم ربي – والله أعلم بالنيات.