أشعر بألم شديد يتمدد شيئا فشيئا في سائر جسدي .. هل هو البرد الذي لم تعد لدي مناعة ضده؟ أم هو تأثير ذلك الكابوس المريع الذي انتفضت فزعا منه بعد منتصف الليل؟ يكاد قلبي يمزقه الألم وكأن الطعنة كانت حقيقية .. ولكن كيف؟! أنا من طعنه بالسكين في قلبه .. كان مقبلا نحوي بابتسامته الآسرة ..فاتحا ذراعيه لي .. فطعنته في قلبه، فانفجرت من قلبي نافورة دم .. وظللت أنزف حتى الموت .. اللهم اجعله خيرا ..
لعل ذلك الدواء المسكن هو ما منحني بعض الراحة فاستطعت النوم قليلا قبل أن أصحو على أذان الفجر .. لكنني ما زلت أشعر بإنقباض.
وأنا في طريقي إلى عملي لم ينقطع تفكيري في ذلك الحلم المزعج حتى أنني لم أنتبه إلى تلك السيارة السوداء التي كادت أن تدهسني وأنا أعبر الشارع لولا أن قائدها قد تدارك الأمر في آخر لحظة .. أصدرت عجلات السيارة صوتا رهيبا بسبب توقفها القسري المفاجئ .. وأطل قائدها من نافذة السيارة يشتم ويسب ويلعن وأنا عاجزة عن الرد ..ثم تركني ومضى.
وصلت إلى عملى في موعدي المعتاد .. ولكن هيئتي وحالي لم يكونا أبدا كالمعتاد
لم أكد أصل إلى مكتبي حتي رن هاتفي . إنه مديري في العمل يستدعيني إلى مكتبه. زاد انقباض قلبي وشعرت ببرودة تجتاح أطرافي فمشيت إلى مكتب المدير بخطى مرتعشة.. وطرقت الباب بكف لم أستطع السيطرة على اهتزازها.
استقبلني المدير بابتسامة عريضة وعرفني إلى ضيفه الذي وقف ينظر إلىّ في ذهول:
- الأستاذة ملك.. الموظفة المثالية في هذه المؤسسة
أفاق الضيف من ذهوله ومد يده يصافحني، والمدير يعرفني به:
الأستاذ طارق .. موظف بالوزارة .. وقد طلب مقابلتك يا أستاذة .
استأذن المدير وتركني والضيف فزاد انقباضي.
بعد برهةٍ بادرني طارق بالاعتذار عما بدر منه من شتم وسب ولعن .. لم أستطع الرد أيضا هذه المرة .. وما لبث أن أبرز بطاقة تعلن عن شخصه وحقيقة عمله :
- تم التنسيق مع وزارتكم وجئت إلى هنا بطلب رسمي لانتدابك للعمل في مقر الوزارة لما تتمتعين به من مهارات وخبرات.
أربكتني نظراته الحادة فلم أدر بم أرد فاستطرد قائلا:
-بصراحة .. لم أشأ أن أستدعيك إلى مكتبي وفضلت أن أجيء أنا إليك حفاظا على سمعتك وسمعة عائلتك.
زاد ارتباكي وبأناملي المرتعشة مسحت جبيني المندى بعرقٍ بارد.. فاسترسل في حديثه وهو يدنو مني أكثر ويخفض من صوته:
- بالرغم من صعوبة التهمة الموجهة إليك فإنني أعدك ألا يكون هناك أي تهمة من الأساس إن أنت تعاونت معنا .
نهضت واقفة واستجمعت شجاعتي وسألته بحدة:
- عن أي تهمة تتحدث؟
رفع بصره في عيني بحدة مماثلة وأشار إليّ أن أجلس.
كان أمامه على الطاولة جهاز حاسوب محمول.. قام بفتحه، ودعاني لمشاهدة شيء ما.. وما إن رأيت ما دعاني إلى مشاهدته حتي أحسست الأرض تميد تحت قدمي، دار رأسي وغامت عيني فلم أعد أبصر شيئا.. وكأنني ظللت أردد :
- مستحيل .. مستحيل
- اهدئي من فضلك .. لقد عرفتك شخصية قوية .. لم أتخيل أبدا أن أراك بهذا الضعف.
- عرفتني؟ كيف عرفتني ومتى؟
أشار إلى الشاشة أمامه قائلا
- عرفتك من خلال تلك المحادثات بينكما..
ثم أضاف بنبرة ماكرة:
- وبصراحة كنت قد رسمت لك صورة في خيالي تختلف كثيرا عما أراه الآن.
بالرغم مما كنت فيه من ذهول، كنت أعي تماما وأدرك أبعاد كل حرف نطق به:
- تهمتك سيدتي هي التخابر مع جهة خارجية .. والتواصل مع شخص هو على رأس قائمة المطلوبين..
- أنت تهذي .. ألم تقل أنك كنت تراقب محادثاتنا؟ أين التخابر فيما كنا نقول؟ ولماذا هو مطلوب عندكم؟
- أعتقد سيدتي أن تهمة التخابر هي أشرف لك وأكرم من تهمتك الحقيقية.. أتريدين أن نعلن لزوجك المحترم وأبنائك واخوتك ومن يهمهم أمرك عن تهمتك الحقيقية؟
- أنا لست متهمة بأي شيء.. وحديثي معه مسألة حرية شخصية لا دخل لعملكم بها... وما بيني وبينه قد انتهي ولم يعد بيننا أي تواصل وأنتم تراقبون وتعلمون ذلك جيدا...
-نعم .. نعلم ذلك .. ولكننا كنا نراهن على عودتك إليه .. ونريدك أن تعودي إليه ..
- ماذا؟ تراهنون؟ وتريدون؟ أي حق لكم في هذا؟
- لقد عجزنا أن نستدرجه إلى هنا وكدنا نفقد الأمل في القبض عليه حتي ظهرت أنت في محادثاته التي كنا نراقبها... ورأينا كيف أحبك وتعلق بك وكاد أن يضحي بكل شيء ويأتي إلى هنا ليراك... كان حواركما رائعا، ممتعا جدا.. حتى أنني كنت أحفظ بعض عباراته لأغازل بها خطيبتي.. ولكنك فجأة قررت قطع العلاقة .. وتريدين أن تفوتي علينا الفرصة الوحيدة .
- نعم .. انتهت علاقتي به.. ولن أعود إليه.
-ستعودين
-لن أعود
-ستعودين
-لا لن أعود
أغلق جهاز حاسوبه المحمول والتقط نظارته وأشار إلي بها مهدداً:
- سأخرج من هنا إلي مكتبي.. أكتب أمر استدعائك للتحقيق.. أرسل لك زوار الفجر .. ويعرف زوجك القصة كلها .. ووو .. وأنت تعرفين الباقي.. فكري بالأمر سيدتي.. فكري في أبنائك وبناتك.
انهمرت دموعي التي كنت أحاول حبسها طول الوقت، ونطقت بكلمات لا أدري كيف استطاع تمييزها من بين شهقاتي:
- هو قد نسيني.. لم أكن إلا نزوة عابرة في حياته.. وأنت تعرف كيف افترقنا. وتدرك ما شعر هو به من جرح في كبريائه.. ومثله لا ينسى الأمر بسهولة.. وإذا نسي لا يعود كما كان.
- فلنحاول سيدتي.. لن نخسر شيئا.
- وإن لم يعد؟
- حاولي جهدك أن تستعيدي حبه وأن تستدرجيه إلى المجيء إلى هنا .. وأنت أستاذة قديرة لا تحتاجين إلى من يعلمك كيف تفعلين ذلك.. وأنا سأراقب بنفسي..
ابتعلت تلميحه الوقح وعدت أتساءل في تحدي:
- وإن لم يعد؟
-سيعود.. وأعدك إن عاد سنسمح لكما باللقاء قبل القبض عليه.. أعرف كم تحبينه وتشتاقين إليه.
ابتعلت هذه أيضا مع مرارة وقاحتها.. وكررت سؤالي في تحد أكبر
-وإن لم يعد؟
-سنغلق القضية .. قضيتك أنت .. وننتظر فرصة أخرى للقبض عليه.
- هذا وعد؟
- وعد سيدتي.. بشرط أن تبذلي كل ما بوسعك كي يعود .. ولا تحاولي تحذيره بأي وسيلة فأنت وهو وجميع اتصالاتك واتصالاته مراقبة ..
وقبل أن يلبس نظارته الشمسية ويلتقط جهازه ويرحل سألته:
- كم من الوقت سأعمل معكم؟
- يعتمد الأمر على مهارتكِ أنتِ سيدتي.
في طريق العودة إلى البيت كان قلبى لا يزال منقبضا.. تتنازعني مشاعر شتى.. أفكر في هذا المطلوب.. هل حقا كنت أتفاوض عليه.. هل فعلا قبلت أن أضحي به من أجل سمعتي وسمعة عائلتي؟ وكيف أضحى به وهو حب عمري وأجمل ذكرى في حياتي.. وهو الشخص الوحيد الذي أحبني ربما أكثر من حبه لذاته... وهو من كان على استعداد أن يضحي بنفسه من أجل أن يكون معي ... نعم أنا من ترك، وأنا من هجر بعد أن فشلت في اتخاذ قرار انفصالي عن زوجي ... تركته وأنا أحبه ... وتمنيت العودة إليه مرارا وكان يمنعني الخوف من أن يصدني ويرفضني... وكان يمنعني الخوف من أن أوصم بالخيانة... وها أنا ذي سأمارس الخيانة في أبشع صورها معه ... سأخونه هو هذه المرة ... وسأسلمه لهم..
ضحكت في نفسي استهزاءً بما أفكر فيه ... ما أدراني بأنه سوف يعود ... حتما لن يعود إليّ.. إن لم يكن نسيني فقد كرهني... لم يكن جرحي له بسيطا... ومثله لا يتهاون في أمر يخص كرامته وكبرياءه..
وكأني قد لمحت نفسي وهي تتمني أن يعود إليّ ... فأخذت أسترجع معها أجمل ذكريات حياتي... وسرحت في لحظة اللقاء التي تمنيناها أنا وهو... وانتبهت فجأة على صوت إنذار الشاحنة التى لم يسعفني ذهني أن أبتعد عن طريقها.. ولم يفلح قائدها في إيقافها .. أو كأنني أردت ألا أبتعد ... فصدمتني ... وأظنني قد مت في لحظتها.