افتتحت صباحي كالعادة بالمطالعات الأدبية مقالاتٍ ، وصفحاتٍ على مواقع التواصل الاجتماعي ؛ لأدباء وشعراء رائعين في وطننا العربي الكبير ؛ فكان من هذه الصفحات صفحة الدكتورة ربيحة الرفاعي الشاعرة الأردنية ؛ وكان أول ما وقعت عليه عيني مقالة نقدية للدكتور سمير العمري لقصيدتها ( وجع الغياب )؛ فرأيت أن الدكتور سمير قد راعى ألفاظه( جناسا وطباقا ...) أكثر من ألفاظ القصيدة التي أراد نقدها ، ونحا المنحى المتكلف الذي ينحوه في قصائده دائماً ؛ ولا أدل على هذا من البداية التي بدأ بها (وسأبرز هنا نقديا خصائص القصيدة وسماتها ومظاهر التميز فيها شعرا وفكرا وحرفا وحرفة) هذه المقدمة التي يظهر منها العناية بالمحسنات اللفظية كما هي عادته الغالبة عليه في سائر مقالته التي يسميها نقدا أكثر من العناية بالمعاني أو التحليل والدخول إلى الخبايا النفسية للقصيدة ؛ لأن القصيدة هي المخرج النفسي للشاعرة والمرآة التي انعكست عليها صورة الإنسان المستكن في باطنها أو إيلاء اللغة الشعرية في ثنايا النقد ما تستحقه ؛ ففي رأيي أنها لا ترقى إلى النقد الجاد الذي صاغه لنا كبار النقاد في وطننا العربي.
بعد هذه المطالعة آثرت أن أبحث أكثر عن الدكتور سمير العمري لعلي أن أقع على شيء آخر يشدني إليه فكتبت اسمه في محرك البحث فظهر لي أنه عضو في ( ملتقى رابطة الواحة الثقافية ) بل العضو المؤسس ، واندهشت أيما دهشة ذلك أني قد انضممت مؤخرا إلى هذا الملتقى الطيب ، فقلت لا بد من إلقاء نظرة على كتاباته فكان أول ما صادفني قصيدته ( أقحوان الفؤاد) فقرأتها وللأسف خرجت بنفس الصورة التي خرجت بها من مقالته النقدية فقلت لعلي أن أكون مخطئا ، وربما الصواب يعزب أحيانا والنظر يضلُّ في أحايين أخرى فكلمت أحد أساطين الأدب العربي وعرضت عليه القصيدة وكان متحفظا كما هي عادته في إجاباته ورد بهذه العبارة ( في شعرائنا من يكتب أفضل من هذا بكثير) فذكرت له بعض المآخذ التي رأيتها فقال ( رؤيتك صحيحة ولهذا قلت ما قلت ) وهذه الكلمة أمانة أسال عنها أمام الله وأتحملها يوم القيامة. فما كان مني إلا أن أخذت قلما وورقة ولم يكن أمامي من الوقت الكثير فأذان الجمعة يدوي في الآفاق وشرعت من غير تسويف في تدوين ملاحظاتي على عجل، ومع كل ما كتبت لا يسعني إلا أن أشكر الشاعر الكريم على ما أبدى من نظمٍ ،وأظهر من نسجٍ ، وحاك من لفظٍ ولكن كما قيل :
ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها
كفى بالمرء نبلا أن تعد معايبه
ولعل من المستحسن والجيد أن أعلق على عنوان القصيدة ( أقحوان الفؤاد) ؛ففي رأيي أن الشاعر بهذا العنوان يعيش في أطلال الغابرين من الشعراء ولا عيب في ذلك إن كان ما يأتي به من شعر على نفس السبك ،والجودة ؛لا من حيث العناوين مع مراعاة مقتضيات العصر فكما قال الشاعر العربي القديم: فإن لكل زمانٍ رجالا، وهو ما لم يكنه شاعرنا القدير.
فِي رَوْضِ عَيْنَيْكِ قَدْ طَوَّفْتُ نَحْلَ دَمِي
فَــعَادَ بِــالشِّعْرِ شَــهْدًا مِــنْ رَحِــيقِ فَمِي
البيت يقوم على ركائز: الروض ، النحل ، الشهد، الرحيق، ويتكون من هذه الألفاظ صورة معروفة ليست بالجديدة أن هناك روضا طاف به النحل فعاد بالشهد من الرحيق وهي صورة في رأيي ليست بالتي تأسرك أو تثير فيك الانتباه والاستعداد لشيء مثير أو تبعث فيك الدهشة. نأتي للبيت من جهة أخرى وهي قرن النحل بالدم (طوفت نحل دمي) هل يكون للدم نحل أراه من التعابير غير الشاعرية أو الجذابة فماذا لو قلنا: شعر دمي، كلام دمي ،زهر دمي ستجدها تراكيب غير مستساغة وبالمثل ( نحل دمي) تركيب غاية في السذاجة الشعرية فغالبا يقترن الدم بالإراقة، والإباحة، والاختضاب ، والعزة ، والاختلاط ونحوها؛ فتقول: أباح دمي، أراق دمي ، عز دمي ، من دمي اختضب ، اختلط بدمي ؛ ولكننا نجد إبراهيم ناجي يقول:
وهذي المنايا الحمر ترقص في دمي
وهذي المنايا البيض تختال في فودي
فجعل هذه المنايا الحمراء راقصة في دمه وهو تعبير حسن مستساغ ، ومن هذا من يقول : (جرى حبها في دمي) ، ولك أن تقول من غير نظر للوزن:
(وهذه المنايا الحمر والغة في دمي) وهو أبلغ لأن المنايا الأنسب في حقها القسوةوالإيجاع ؛ ولكني وجدت شاعرا يقول:
أخذت ريحانة أراح لها
دب سروري بها دبيب دمي
والدبيب لا يناسب الدم كما قال الشاعر العربي القديم:
زعمتني شيخا ولست بشيخٍ
إنما الشيخ من يدب دبيبا
ولكنه أراد أن يصف اللحظات المتوالية والانتقال المتتابع ، ويقول الشابي :
لا يطفئ اللهب المؤجج في دمي
وهو تعبير حسن له وقعة فإضافة اللهب الموصوف بالتأجج إلى الدم إجادة من الشاعر تحسب له والمعنى أن قرن النحل بالدم لم يحسن فيه الشاعر؛ ويظهر هذا لو اتبعنا طريقة ابن الأثير في كتابه (الوشي المرقوم في حل المنظوم) عندما حل بيت المتنبي :
لعل عتبك محمود عواقبه
وربما صحت الأجساد بالعلل
قال: وأما بيت أبي الطيب فإني حللته فقلت: العتاب وإن آلم فإنه يشفي من أمراض الوداد وكثيرا ما يصح باللعل مرض الأجساد. فلو حللنا بيت الشاعر ماذا نقول : لقد أخرج نحل دمي شهد شعري من رحيق فمي يوم أن طاف بروض عينيك ، حقيقة لا تستطيع أن تحله كما فعل ابن الأثير في بيت أبي الطيب لأن هناك تركيبا رائعا ومعنى مقصودا لا تصويرا أقرب للصورة العلمية كأنه درس في الأحياء.
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورمُ
فالشاعر طوف نحل دمه فماذا كان عاد بالشعر وهو يريد أن يقول أن ما رآه من منظر لعيون حبيبته ؛ أثار شجونه الشعرية ؛ فأخرج أجمل ما كتب شهدا ، وهذا الشهد في الحقيقة من رحيق فمه، وهنا لا تكتمل الصورة فالتسلسل أن يخرج الشهد من روض العيون وهنا انقطاع في تسلسل الصورة ؛ لأنه إنما عاد بالشهد من رحيق الفم ، وإجمالا هذا التركيب روعي فيه الواقع الحقيقي والعلمي وما يقوم به النحل من إخراج الشهد من رحيق الأزهار ؛ فتمت صياغته في قالبٍ بحثَ فيه الشاعر عن بعض المحسنات كقرن النحل بالدم والرحيق بالفم والشعر بالشهد حتى يضفي رونقا للبيت وهو اقتران معيب .
يَــصُــبُّ بِــالْــوَجْدِ كَــأْسًــا غَــيْــرَ آثِــمَةٍ
وَيَــفْتَدِي مِــنْكِ رَشْفَ الْحُزْنِ بِالسَّجَمِ
يصب بالوجد ، من الذي يصب هل هو النحل، أم الشاعر ، أم الشعر ، وكيف تم الانتقال من صورة إلى صورة أخرى لا ترابط بينهما ولمن يصب هذه الكأس ومن عادات الكؤوس الإثم فهو يقول إنها هنا غير آثمة لأن الدافع لها حبيبته، ونعود للوراء قليلا ونستذكر رحيق فمي، نحل دمي، وهنا يصب بالوجد ،وإذا ذكرت الكأس فلا بد إذاً من رشف وهذا ما يصنعه الشاعر أنه يأتي مع كل لفظة بما يناسبها دون أن يترك للخيال فرصة أن يستخرج الصور المحلقة ، فبعد أن صب الكأس من وجده وهي كأس غير آثمة ؛ شرع في إعلان افتدائه من محبوبته (رشف الحزن بالسجم) يقال :سجمت العين الدمع سجما وسجوما أسالته ، والسجم الدمع والماء ؛ فالسجم الشيء المسال ، يقول البحتري :
يا معهدا للوى أبقى بمهجته
معاهدا للبلى والأدمع السجم
وتقول ليلي الأخيلية:
يا عين بكي بدمعٍ دائم السجم
والشاعر هنا يفتدي رشف الحزن بأقصى ما يملك وهي دموعه المسجومة من وجده ولوعته فما هي هذه الصورة البديعة التي خرجنا بها من هذا البيت؛ أنه صب من وجده كأسا غير آثمة وأنه يفتدي من حبيبته رشف الحزن بأغلى ما يملك ؛ فهو يعيذ حبيبته أن يكون حظه منها رشف الحزن ويبذل في لقاء ذلك تلك الدموع الغالية المنسجمة على خديه.
قَــدْ مَــدَّ فِــيكِ شِــرَاعَ الرُّوحِ مِنْ أَمَلٍ
وَمَـــادَ يَــلْــطِمُ وَجْـــهَ الــرِّيــحِ بِــالْأَلَــمِ
الشراع يكون للسفينة حسن، والأشرعة تحركها الرياح ؛ ولذلك فلن يفوت الشاعر ذكر الرياح في البيت الثاني ، وهذا ما نلاحظه دائما في كل شعره أنه يأتي باللفظة واللفظة التي تناسبها من دون أي حبكة فنية عالية ؛ ولك أن تقف مع ماد، ويلطم؛ فالأكثر في ماد التموج ، والتمايل وهو المعنى الذي يسبق إلى الفهم؛ ومنه مادت الحسناء ، فانظر كيف قرن (يلطم) وما فيها من معنى قاسٍ إلى ( ماد) مع ما في ( ماد) من رقة وما كان في الشطر الأول من ذكر مد شراع الروح لما اعتراه من أمل ؛ مع أن ( من أمل ) مقحمة لإكمال البيت ؛ ولنقرأ معا الشطر الثاني :
وَمَـــادَ يَــلْــطِمُ وَجْـــهَ الــرِّيــحِ بِــالْأَلَــمِ
فهو هنا يريد أن يعطينا صورتين شعرية يظهر فيهما تميزه ؛ ولكنه لم يوفق في التعبير ؛ فالشاعر يحس بالعنفوان المزدوج بين الألم والأمل ؛ فانظري له يا حبيبته وقد كساه الأمل فمد شراع الروح متفائلا مستبشرا برياح طيبة ولكنه لم يلبث حتى غدا يلطم وجه الريح المقبلة على شراع روحه بالألم الذي يعتصره حقيقة لا أجد أي جمال أو فتنة أو هزة في هذه التصاوير المتكلفة والخاتمة المستجلبة قسرا.
لــــمْ يَــجْــزَعِ الــنَّــبْضُ إِلَّا أَنَّ قَــافِــيَةً
أَنَّـــتْ عَــلَــى بـــذْرَةِ الْآمَــالِ بِــالْفَحَمِ
ونحاول أن نربط بين ما مضى وما بين أيدينا ، فبعد أن مد شراع الروح وماد يلطم وجه الريح بالألم فهو مع ذلك لم يجزع نبضه بل بقي فيه بقية إلا أن قافية أنت على بذرة الآمال ( منشأها )بالفحم وما هو الفحم فحم الصبي انقطع صوته من شدة البكاء ، وفحم الرجل لم يطق جوابا ، وتقول أفحمته فلم يطق جوابا وجوابه مفحم أي يعجز معه السامع عن الرد.
فما الذي نفهمه من هذا البيت أن نبض شعره أو نبض شعوره لم يجزعا بالرغم من كل ما حدث ويحدث إلا أن قافية وهي كناية عن الشعر الذي يختلج في النفس وعادة ما ترمز القوافي إلى المعاناة والحالة النفسية هذه القافية أنت بالفحم( الانقطاع) على بذرة الآمال فلو أعدنا ترتيب هذا البيت وحذفنا منه شيئا لرأينا بعض الوضوح : (لم يجزع النبض إلا أن قافية أنت بالفحم) هنا شيء يسير من الفهم قد يتسرب إليك على الإقحام المستبشع للفظة ( الفحم ) فما علاقة الفحم بكل ما سبق وفوق كل هذا أدخل ( على بذرة الآمال) فما هي القيمة الجمالية في هذا البيت بل ما هي الصورة الشعرية والتركيبة الجهنمية التي فيه وهو هنا لا يبتعد عن بيت الفرزدق الذي يضرب مثالا على التعقيد اللفظي :
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبوه أمه حي أبوه يقاربه

مَا زِلْتُ أَسْقِي سِنِينَ الْعُمْرِ مِلْءَ غَدِي
بِــدَمْعَةِ الــصَّمْتِ فِــي وِجْــدَانِ مُــبْتَسِم
مِــنْــهَــا تَــــوَضَّــأَ قَــلْــبِي طُــهْــرَ أَمْــنِــيَةٍ
حَــتَّــى تَــوَكَّــأَ مِــنْ شَــوْقٍ عَــلَى الْــحُلُمِ
وَمَـــــا الْأَمَـــانِـــيُّ إِلَّا مُــهْــجَــةٌ وَدَمٌ
وَســـورَةٌ مِـــنْ حَــنِينِ الْأَرْضِ لِــلدِّيَمِ
وَمَـــا الــسَّــعَادَةُ إِلَّا حِــيــنَ نُــدْرِكُــهَا
بِــبَــسْمَةٍ فِـــي شِــفَــاهِ الــنُّــورِ وَالــعَــتَ
هذا البيت ( ما زلت أسقي ....) لا يستحق أن أعرج عليه ولذا سآتي لما بعده ( بِــدَمْعَةِ الــصَّمْتِ ...) هذه الدمعة توضأ قلبه بها ، وكان هذا التوضؤ ( الطهارة) لأمنية عزيزة عليه حتى توكأ من شوقه على الحلم لا أجد ورب من أهدى لنا أبا تمام والمتنبي إلا صنعة متكلفة غاية التكلف وربط بين التراكيب التي لا يمت بعضها إلى بعض إلا رباط المناسبة ؛ فالأمنية يناسبها الحلم ، والقلب يليق به الشوق ،وهكذا في كل شعره أما صورة فلا صورة شعرية ولنا أن نسأل كما سألنا مرارا في كل ما قرأنا ما الحلاوة التي وجدناها فيما قرأنا.
وَمَـــــا الْأَمَـــانِـــيُّ إِلَّا مُــهْــجَــةٌ وَدَمٌ
وَســـورَةٌ مِـــنْ حَــنِينِ الْأَرْضِ لِــلدِّيَمِ
يقول شوقي ( ولي بين الضلوع دمٌ ولحم ) وهو أبلغ ، وأرق، وأعذب ، والشاعر حاول أن يجاريه فما قارب ، ولا حتى أدرك ذيل غباره ، ولا كلام فيه ، ولكن اقرأ ما بعده (وسورة من حنين الأرض للديم) فالشطر الأول مشرِّق والشطر الثاني مغرِّب وشتان بين مشرقٍ ومغرب فلا يخفى أن الخاتمة( حنين الأرض للديم ) لا تناسب ما تقدم مع كونها لا تخلو من عيب فالصورة الشعرية فيها ضعيفة ومستهلكة.
وما السعادة إلا حين ندركها
ببسمة في شفاه النور والعتمِ
فالشاعر ينحو منحى الفيلسوف الحكيم الذي يصور دقائق الحياة، ويتكلم عن السعادة من منطلق الخبرة ؛ فيقول إن السعادة كل السعادة لا تكون إلا حين ندركها ببسمة في شفاه النور، والعتم ، وهل النور، والعتم رمزان للخير ، والشر، أم النور ، والعتمة على حقيقتهما ؛هذا وأبيك ضرب من ( ......) لا ضرب من الشعر. وسأقف عن المتابعة في نقد هذا القصيدة ؛ لأني أسمع صوت صديقي الدكتور يناديني لنذهب معا إلى صلاة الجمعة ، وإنما هذه لمحة بسيطة كتبتها على عجل ، ولا أدعي أنها نقد ؛ ففي رأيي وطريقتي ؛ أن النقد لا يكون إلا للقصيدة المكتملة من جميع نواحيها ، ومن الجميل أن أختم ببيت الزهاوي:
إذا الشعر لم يهززك حين سماعه
فليس خليقا أن يقال له شعر
وإيماني العميق أن ما قلته لن يغضب أحدا؛ لأنه لا عصمة للعلماء فما بالك بالشعراء، ولا أحد يدعي القداسة والمقام المنفصل ،أو أنه فلتة زمانه ، أو سيد أقرانه ،ولا زال الناس بخير ما اتسعت صدورهم ، وردوا على الكلام بالكلام ، وكما قال ابن حزم:
دعوني من إحراق رق وكاغدٍ
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري.