بشارة الإسراء
لقد مرّت الدعوة الإسلامية في مسيرتها الشاقة بأحداث سجام ومصاعب جمة، وأحجار عثرة وضعها الكفار للحيلولة بين الدعوة وبين الانتشار، وللحقيقة أنها ليست أحجار عثرة فحسب، بل كانت صخور صلدة اتخذت أشكالاً ووجوه عدة ، وبرعوا في التفنن فيها، وفي سد الثغرات التي من الممكن أن يستعين بها المسلون للنفاذ من هذا الحصار القوي الشكيمة والنفاذ لتحقيق ما يرمون اليه ويخططون له، وللحقيقة فأينما يكون معوقات يكون هناك مبشرات يطمئن اليها حامل الدعوة وتعطيه دفعة من الأمل والقوة التي تعينه على تحمل الصعاب، والتخطيط لتحطيم المعوقات.
لقد كان أول مراحل الدعوة لا بل أساسها وقوامها ومحركها ، فكانت البعثة المحمدية المباركة التي أشرق نورها من أول بيت وضع للناس، بيت الله العتيق بمكة أم القرى، ومن حكمة ظهور نور الدعوة من بيت الله العتيق أنه كان موضع التقديس والعبادة عند العرب، ومركز عبادتهم، وبداخله كانت أصنامهم المعبودة، وقد كانت قريش هي صاحبة السيادة الدينية والقيادة الساسية والريادة القبلية على العرب عامة في المجتمع الجاهلي، فكانت صاحبة مركز القيادة والكيان السياسي المهاب، لذا فقد كانت بحكم هذا الواقع وبحكم مركزها كبلد المقدسات وأهل الحرم، في مركز اقتصادي قوي، فكانت رحلاتها التجارية المكوكية من اليمن إلى الشام وبالعكس في أمن بالغ ، ومحرزة منم أن يتعرض لها متعرض من العرب بغزو أو نهب ، فكان العرب كافة على اختلاف مواقعهم ومراكزهم يهابونها نظراً لمنعة كيانها السياسي، ومركزها الديني، وهم جميعاً يحجون إلى بيتها. ﴿لإيلاف قريش، ايلا فهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.﴾
نعم ، لقد كانت الحكمة الإلاهية أن يبزغ نور الدعوة الإسلامية من البيت العتيق، المقدس من العرب كافة، نعم، من هذا البيت المقدس ، مقدس وقد رفع قواعده إبراهيم جد الأنبياء وولده اسماعيل عليهما السلام:﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ فكان أن انطلقت الدعوة الاسلامية من مركز القوة ، مركز قوة الشرك والجاهلية ، فتتحدى العرب كافة قاصيهم ودانيهم، بتحديها وتسفيهها مركز قوتهم السياسية والدينية والقبلية. وجائت مرحلة أخرى ذات منعطف خطير المتمثل في حادجث الهجرة الشريفة إلى المدينة المنورة " يثرب" وقيام المجتمع الإسلامي ككيان سياسي وعسكري واقتصادي منفصل عن مجتمع مكة، ورافضاً للسلطة السياسية والدينية لها، لا بل كيان فريد متميز ومخالف لما كان عليه حال الكيانات في الجاهلية، وكان أن بني ثاني مساجد الاسلام في الجزيرة العربية، وهو المسجد النبوي الشريف، منهياً قاعدة المسجد الواحد، والمكان الواحد، ومثبتاً في الوقت نفسه قدسية البيت العتيق.
بداية إنّ موضوع الارهاصات والبشائر لم يكن من المواضيع المطروحة للبحث والنقاش سابقاً، بل كان الأمر متروك على علاته بلا أي محاولة للتفريق بينهما، إلا أن كان يوم في لقاء خير ضم مجموعة من الاخوان، وكان الأمر موضع نقاشنا سوية، فاختلفنا على مسألة التفريق بينهما من عدمه، مما حدى بأحد الحاضرين - وكلهم أخوة أعزاء - للتضجر مما وصل اليه البحث واصفاً ذلك بأنه جدل، ومفهوم كلمة جدل هو أنه بحث لا يمكن أن يأدّي لنتائج ، ولقناعتي الأكيدة أنّ القول بأنه بحث جدلي أي بحث عقيم لا يؤدي إلى نتائج، قول غير صحيح ومرفوض مستهجن، وأني أرى فيه خِلافَ ذلك، فأرى فيه نقاشاً هادفاً لا بد منه لضمان حُسن العمل، وللحيلولة دون تأخر النصر والانتكاس، فقد تعمقت بالتفكير بالأمر بجدية الباحث الحريص، حيث توصلت لنتيجة قوامها التأكيد على إنَّ من لوازم الاعتقاد وصحة التحليل السياسي وسلامة القرار: إقران الأمَل بقاعدة ربط الأسباب بمسبباتها، والأمل إذا زاد عن حده أو كان في غير موضعه انقلب إلى ضده، فلزم أن نعود إلى دراسة وإعادة نظر في واقع الإرهاصات والبشائر، وعليه أرى من الضرورة التفريق بين الإرهاصات والبشائر، من منطلق تعريفيهما وواقع كل منهما، إذ أن الإرهاصات تعني الدعائم، والبشائر هي الأدلة وما يستأنس به. ومفهوم ذلك أن الأولى تؤثر تأثيراً مباشراً على العمل ودعمه ونجاحه، والثانية نفسية لا تؤثر تأثيراً مباشراً على العمل. وما دام الأمر كذلك فإنّ هذا يعني أن على حملة الدّعوة العمل الجاد لإيجاد الإرهاصات التي لا يتحقق حُسن العمل إلا بالعمل على إيجادها، ولا يتحقق الهدف إلا بالعمل الجاد لإيجادها. في حين أن البشائر يُستأنس بها فقط وقد تتحقق، وممكن أن لا تتحقق، وغالبها ـ أي البشائر ـ أتى في ظلال أحاديث تتناول الإخبار عن علم الغيب، وأحاديث علم الغيب لم يحدد منطوقها لها زمناً محدداً. أو أتت من خلال استنتاجات سياسية قد تتغير معطياتها أو نتائجها.
وكمثال على الأمر للتوضيح وإزالة أي التباس في الأمر، فوعد الله تعالى بالتمكين واستبدال خوف المسلمين بالأمن هو بشارة من الله ، وبشارة الله واجبة التحقق، وإن مجرد الشك بها مرفوض واثمه كبير لأنها تدخل في باب العقائد، أي انها ةتتعلق بتصديق جازم وليس بأمر أو عمل، وهذا هو واقع البشائر أنها محصورة في الاعتقاد والتصديق، وأنها مرتبطة بجو ايماني نفسي، من نتائج هذا الجو الايماني أن تطمئن اليه الأنفس، وأن يرتاح إليه القلب، وأن يسيطر على المسلم الأمل المفضي للتحريك وأن تدفع تلك المشاعر الانسان للتفكر بما يمليه عليه الأمل في الله من أعمال.
أما الارهاصات، فتصينفها الشرعي لا يكون في باب العقيدة ، بل في باب الأفعال، وما يوجبه أمر الأفعال من قيود، فالارهاصات قد أخذت واقع دخولها في الأحكام الخمسة التي تقرر نوع ووزن العمل، فوعد الله تناول التمكين، وتناول تبديل الخوف أمناً، وتناول الاستخلاف في الأرض، وباختصار شديد فالآية استهدفت البشرى بقيام دولة الخلافة الراشدة، التي تحقق التمكين من حمل الدعوة الاسلامية للعالم أجمع، بعد أن تم الاستخلاف بقيام الدولة والحكم، مما يكون من نتنائج تحقق الأمرين سوية ولا بد : حصول الأمن والاستقرار والرفاهية للمسلمين والناس عامة.
الا أن الله قد اشترط لتحقق البشرى، العمل السياسي الموصل لذلك، والذي لايكون إلا بمبدأ الاسلام، ومبدأ الاسلام هم فكرة واضحة مبلورة لا بد من تحققها ، وطريقة واضحة محددة المعالم ومرسومة من المشرع، واجب التقيد بها وعدم الخروج عليها قيد أنملة، وذلك يحتم استعمال أسايب ووسائل في أطار الطريقة ومن ضمنها لضمان سرعة وحتمية الوصول للهدف، مما يستتلزم دعمها بدعائم مناسبة تضاف للوسائل والأسليب لتسندهم وتدعمهم وتزيد من سرعة تحققهم وتأمن التغلب على المعوقات التي وضعت لتعيق الوصول، ولتشتتيت الجهود.
وبالرغم من كل البشائر ـ سواء البشائر النقلية أو البشائر الحسابية ـ فإن لم تستوف الشروط المطلوبة في العاملين وعملهم وإعدادهم فلن يتحقق الهدف بالرغم من كل البشائر، والبشارات.ودليل ذلك مفهوم آية: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يُشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾
ومفهوم المخالفة للآية أن الوعد ليس لغير الذين أمنوا وعملوا الصالحات حقيقة، فأتى وصف الجماعة الموعودة شرطاً لازماً لتحقق الوعد، فلا يكون الاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف بالأمن إلا لمن يستحقه، والاستحقاق مشروط صراحة في سياق الآية بأنهم " يعبدونني لا يُشركون بي شيئا " ومنطوبق النص القرآني موحٍ بمفهوم، وهو أن شرط التحقق رجال عابدون، والعبادة الحقة تستوجب سلامة الاعتقاد وتنزهه، مما يوجب حسن العمل، وحسن العمل مرتبط بمفهوم آية: ﴿ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون. ﴾ كما أنه يجب أن تقرن دراسة الإرهاصات والبشائر بدراسة " العقبات والموانع " ونتبحر في دراستها، ونواصل إعادة النظر في عملنا وفي تركيبية تكتلنا، وفي أفكارنا المطروحة وتنقيتهم من الشوائب لاتصالهم المباشر لا بل تحكمهم في الإرهاصات والبشائر، ونحول بين المعوقات والموانع وبين تأثيرهم السلبي على العمل، وأن يُقرن البحث بالمعوقات والموانع بالبحث في الإرهاصات والبشائر، والعمل على الحيلولة بين الأولى وبين أن تؤثر على عملنا، بنفس القدر الذي نبحثه في إيجاد الإرهاصات والإستأناس بالبشائر، مما يعني ضرورة الربط الشديد والتزاوج الغير قابل لإنفصام العُرى بين الحالات تلك مجتمعة ومنفرده: نأخذ البشائر لإطمنان النفس وراحتها ولتهذيب النفسية، ونلتمس من الا الارهاصات ما يدعم عملنا ويسنده، ونبحث في العقبات والموانع لنحول بينها وبين الانتكاس والتقهقر والخذلان.
وتزاوج وترابط هذا شأنه، أتى به فكر عميق مستنير وسرعة فطنة وبديهة، كلٌ مستمدٌ من عقيدة راسخة، وعمل من جنس الفكر وبطريقته الواضحة المعالم: حُقَّ له أن يُسْعِدَ البشرية جمعاء، ويرضي ربّ العالمين، الواعد بالاستخلاف والتمكين.