منودراما
(سيزيفو)
تأليف علاء الدين حسو

المنظر:
طريق ملتوٍحلزوني يؤدي إلى حقل بعيد يلتقي مع الأفق ، الحقل عبارة عن صخور تبدو كنجوم، وهناك صخرة كبيرة في منتصف الطريق، طرف الطريق مبهم غير واضح .
المشهد الأول :
المكان معتمٌ، أصوات رجالٍ متعبةٍ كأنها تنوء بأحمالٍ كبيرةٍ، وكأنهم عبيدٌ داخل سفينة يجدفونها بالمجاديف.........لبٍ يلهث، كأنه يحمل ثقلا كبيراً..
الصوت: يالله، آه، أووه، هيا ياعروة، لم يبق إلا القليل ونصل إلى الحقل.. هيا .. أنت عروة .. ماالذي أصابك؟ كنت قبل قليل كالحصان !..أووه كأنّ الحمل قد ثَقُل أكثر .. اههه .اممم .. حسناً لنرتاح قليلا ..فالنهار يوشك على الظهور.
تشرق الشمس، وتتوضح ملامح الطريق، ونرى الصخرة في منتصف الطريق، يظهر من خلفها فجأة بطلنا عروة، إنه شاب في العشرين، هيئته هيئة صعلوك. يلتفت حول الصخرة
عروة: يبدو لي أن الصخرة كبرت ..لا .. لا أعتقد .. الجماد لا يكبر.. دعني أقسها. فعلاً كبرت.. أول الأمر كنت أستطيع حضنها بذراعي.. الآن لا أستطيع .. كيف تكبرين يا صخرة؟ .. كيف ؟ والطريق أمامنا طويلٌ .. انظري..(يشير إلى الأفق حيث الحقل) مكانك هناك .. سأخذك إلى حيث تكونين ..(يلتفت حول الطريق) ما هذه الصخور الكثيرة؟ يبدو أنني لست الوحيد ..ولكني لا أرى أحداً .. الصخورتمنع رؤية بعضنا بعضاً..الآن عرفت سر الأصوات في الليل .. إنهم زملائي .. لا لا .. أنا مختلف .. قضيتي مختلفة ..

يجلس على الصخرة مستغرقاً في تأملاته، كأنه(المفكر) الذي نحته اوجسترودان . تنبعث مقطوعة الخريف لشوبان .ثم تخترق طائرةٌ الأجواء ثم تلقي حملها فتحدث ضجةً كبيرة تجعل عروة يقفز من مكانه .
عروة : لن تخيفني .. أنا عروة .. صعلوكٌ نعم.. ولكني لست كباقي الصعاليك ..لهذا أطلقوا علي اسم عروة تيمنا بعروةَ بنِ الورد .. ذلك الصعلوك الذي كان يسرق ليطعم الفقراء ..نعم أيتها الصخرة العنيدة . إنه عروة بن الورد الذي لقب بملك الصعاليك لأنه أنشد :
لحى اللهُ صعلوكا إذا جنّ ليلُه مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من دهره كـل لـيلة أصاب قراها من صديق ميسر
ولله صعلوكُ صفيحة وجـهـه كضوء شهاب القابس المتنـور
كان سيداً، كان يؤوي المقهورين .. من تركه أهله.. من يأست منه زوجته.. أو وكذلك المريض والسقيم والعليل وكان يقوم برعايتهم إلى أن يصلُبَ عودهم فيكونوا معه.. يساعدونه برعاية من بقي منهم .
(مخاطباً الجمهور)
لكل عصر ولكل زمان عروتُه .. يخرج باسم مختلف .. ولكن هدفه واحد. إنقاذ البسطاء.. وإزالة العوائق من أمامهم .. تنظيف طرقهم من الصخور.. تلك الصخور التي يزرعها ملوك الظلام وجنود ملك الظلام في كل عصر وفي كل زمان .. كان هناك صعاليك كثر، ولكن لا أحد منهم مثل عروة، كان قاطعا للطريق .. ولكن ليس للفقراء والضعفاء . قطاع الطرق كثر ولكن ليسوا كعروة .. وأنا لست قاطعاً للطريق، لست لصاً ، أنا عاشق، أحببتها وأريدها، لم أسرقها، لم أخطفها، ولكني أحبها ..
(مخاطبا الصخرة) :
هل فهمتِ، أحملكِ إلى هناك لأني أحبُّها، أحملك إلى هناك كي أصلَ إليها، وأقبلَها وأنامَ على حضنها، فتداعب شعري وتُلقم ثغري بحبات العنب والتوت.
يصمت ويدور حول الصخرة ثم يجلس على الأرض مستنداً على الصخرة وقد هده التعب، يغلبه النعاسُ فيغفوا.. وتبدأ مقطوعة الربيع لفيفالدي ..ويبدأ جسد عروة يتمايل ويهتز . ومن ثم ينسل من ثوب الصعلكة كمن روحه انسلت وبقي جسده . ويبقى بملابس بيضاء قطنية ويرقص على أنغام المقطوعة .. يتوقف فجأة كأن فتاة باتت ماثلةً أمامه..
عروة : أهلاً أهلاً بليلى ..نعم أنت أجمل من ليلى عروة بن الورد. على الأقل أنت لم تخونيني.. ولن تفضلي بيت أهلك كما فضلت ليلى عروة بن الورد . أنت صريحة قلت لي بأنك لي .. وأنك ستحققين كل أحلامي . هيا لنرقص قليلا .
يتراقصان ..على أنغام مقطوعة الربيع .. ثم يجلسان فوق الصخرة وتخفت الموسيقى يتخذ وضعية الرجل الذي يقبل السيدة كما في تمثال القبلة الذي نحته اوجست رودان ثم وضعية المرأة . ويعود إلى وضعية الرجل الذي يحضن المرأة ويهم بتقبيلها ، فيتمايل أكثر وأكثر حتى يسقط
عروة : آه .. يا له من حلم .. (يتفقد حاله) ما هذا؟ .. من نزع ملابسي؟ .. الشمس مشرقة .. أظن أن جدتي محقة حين قالت لي: من يحلم في النهار ينسرق بنطاله .. وأنا المتهم بالسرقة.. والمتهم بتفريق الشمل .. والمتهم بتمزيق البيت الواحد ..أ..أ..أتمزق وأنسرق ..أين ملابسي ..(يأخذ رداء الصعلكة ويتوارى خلف الصخرة )،هناك من يسرقون البلاد والعقول والأجساد والجيوب...ولكن لا أحد يكلفهم بما كلفت به . أي حظ هذا؟ هل اخطأنا وطلبنا رؤيتها؟ ..ملامستها؟ ..
(يصعد إلى الصخرة و يتدلى من فوقها وهو يخاطب النجوم أو الصخور)
أين أنت يا عروة بن الورد .. تعال واسمع .. ذنبي لأني خطفت نظرة ، ذنبي لأني سرقت لحظة .. ذنبي قيدت موتها ..جعلتها تشعر بالحياة ..هكذا قالت ..
يصمت وصوت الطائرة يعود مجدداً ويحدث ضجة كبيرة تجعله يقفز من فوق الصخرة كمن يتعرض لغارة جوية يحاول الاختباء ..وحين يختفي صوت الطائرة . ينهض ويتقدم نحو الجمهور ويخاطبهم كمسؤول كمن يخاطب في ساحة
عروة : نعم .نعم .أنا مستعد كسيزيف الذي قيد الموت ..سيزيف الذي فضل الماء على رعود السماء .. سيزيف الذي منع الموت فحكم بحمل الصخرة. ولكني لست آلهة.. أنا إنسان من لحم ودم، أكل، أشرب، وأحب .. نعم أحب .. أنا عروة بن الورد الذي ولد في عصرٍ يشهد ابتلاع النور والضياء.. أنا الشاب عروة الذي تخرج من الجامعة، وحلم مثل رفاقه بحياة كلها نور وضياء.. أنا الشاب الجامعي الذي درس الفن ليبني حياة أفضل .. ويساهم في بناء حياة أفضل.. كلها نور وضياء ..أنا عروة الذي أحب ليلى .. ليلى المقيدة عند ملك الظلام .. الذي يكره النور والضوء .. يكره ليلى التي تشع نوراً كالقمر .. وأشترط كي أفك أسرها وأحظى بها أن أحمل الصخرة إلى هناك ..هذه الصخرة التي تتضخم كلما وقفت .. الصخرة التي تقطع الطريق وتعيق دربنا إلى حيث النجوم .. لا أطلب الكثير .. لا هم لي إلا ليلى .. ليلى المسحورة .. ليلى المقيدة .. ليلى المدفونة في قبر معتم .. كم من صخور علينا حملها حتى نزيل العتمة عن أحبابنا ..كم من صخور تقف بالمرصاد في طرقنا ..وأنا قبلت الشرط و مهمتي نقل هذه الصخرة ..قبلت التحدي ولا أخاف ..
عروة: نعم أنا لا أخاف .. ماهو الخوف؟ شعور يخرب الإنسان ويشتت الذهن ويضعف الذاكرة.. شعور يحطم الإنسان ويجعله قزماًأمام ذرة تراب.. والبطل من هو يتغلب على هذا الشعور ..الخوف سحر مزيف ..ينفثه الراغبون في استعباد الإنسان . قلت هذا لليلى .. ليلى الجميلة التي كانت مسحورة ......ليلى التي كانت خائفة من ملك الظلام ..وحين ألقيت كلمات التعويذة وانقشع ذلك السحر ..وباتت محتارة بيني وبين ملك الظلام.. كان هذا التحدي ..كان علي نقل هذه الصخرة إلى حيث مكانها .. كانت ليلى تخشى الجوع.. وتخشى المرض.. وتخشى المطر.. وكان ملك الظلام يقدم لها طعاماً وهمياً.. ويقدم لها علاجاً وهمياً.. وكان يحوطها بمظلة وهمية ..
يقترب من الصخرة كأنها ليلى ..يجثوقربها
عروة: ليلى ..ليلى
كأن ليلى مريضة وينهض عروة مسرعاً خلف الصخرة ويأتي بحقيبة ويعود ليجلس قربها
عروة: ليلى أنظري ماذا أحضرت لك ..(يخرج من الحقيبة قطعة خبز) هذه حقيقة ليست مزيفة .. (يقتسم قطعة صغيرة يقدمها ليلى ثم هو يتناولها) طيبة..أليس كذلك؟ .. شهية .. أنظري ماذا أحضرت لك أيضا (يخرج زجاجة ماء )اشربي إنه ماء نقي ..(يشرب بدلاً منها) انظري ماذا عندي أيضاً( يخرج حبة دراق كبيرة) هذه هي..إنها شهية.. وبلا هرمونات.. حلوة شهية
يحاول أن يقضم منها ولكن صوت الطائرة الحربية يخترق المكان فيتوقف إلا إنه يحاول مرة أخرى أن يعضّ الدراق ولكن الطائرة تغِيرُ مرة أخرى وأصوات انفجارات قوية ..
المشهد الثاني
اعتام كامل .. الوقت ليل .. أصوات العبيد وهي تجدف ..يُسلط بقعة الضوء على يد عروة و بيده الدراق وثمة أشياء مبعثرة من الحقيبة حوله .
يتطلع عروة حوله ثم ينظر إلى حبة الدراق .. لا يجرؤ على قضمها ..تنبعث مقطوعة حربية ..تزداد كلما قرّب عروة فمه من الدراق وتخفت كلما باعدفمه عنها ...فيرفع رأسه مخاطبا الطائرة ..
عروة: ما بك .. هي حبة دراق .. حبة صغيرة .. كثيرة علي ..سأكلها نعم سأكلها ..الدراق ليس ملكاً لسيدك .. أنت يا ملك الظلام.. اسمع لن تخيفني..
يتعالى صوت العبيد وهم يجدفون..
ينهض عروة ..يدور حول الصخرة ..وبيده حبة الدراق ..يضعها برفق في الحقيبة ..يجمع الأشياء المبعثرة يضعها في الحقيبة.. ويحمل الحقيبة على كتفه ويستعد لرفع الصخرة ..صوت العبيد يختف قليلاً وتنبعث موسيقى سيمفونية ضوء القمر .
عروة: بدأت الحركة .. (مخاطبا الجمهور) أتسمعون ؟.. هل من المعقول أن يكون هناك عشاق كثر ليلى .. هو سباق إذاً لمن يحمل صخرته أولاً .. أم إن الصخور كثر ولكل ليلاه .. ضوء النهار يعتم بعضنا عن بعضنا .. يجعلنا لا نرى بعضنا البعض.. الليل يكشفنا .. أليس كذلك ؟.
(كأنه بدأ يرى مارة في الطريق فيبدأ بمحاورتهم ومحادثتهم ويأخذ أدوارهم)
- قل لي الليل أم النهار أيهما الفاضح ؟
- يُعرف الليل بأنّه ساتر، وأنّ النهار فاضح ..
- ولكن هل هذا في المطلق ؟
- الليل ساتر للظاهر ، والنهار فاضح له ..
- الليل فاضح للباطن ، مثلما النهار ساتر له
- الشر أو الخير ، تتجلى قوته وجبروته في الليل
- الليل مقياس الأفضلية ، للعابد مثل الفاسق.
- صلوات العتمة تكشف النفاق عند المتعبد
- من طلب العلا سهر الليالي ..
- المقدرة العسكرية اليوم ، تحسب للذي يمتلك الحرب ليلاً ..
- المسارح والمعابد تختار الليل ، لتخاطب الروح قبل الجسد ..
- الوعظ النهاري ، تذكير بالليل ، وبالقبر حيث العتمة الكاملة ، وتحفيز للنشاط ليلا ..
(يزداد صوت العبيد وحركة الجدف)
- لن تميز الراقصة عن المتعبدة في أماكن التسوق .. ستميزها ليلا
- جمال القمر لن تعرفه على حقيقته إلا في ليل، أسود، صافٍ.
(تنبعث مقطوعة الصيف لفيفالدي)
- النهار ستر لمشاكل الجسد والروح ..والليل كاشف لها ..
- ألم المريض لن يعرف إلا ليلا ، حيث تبدأ أعضاء الجسد بالبوح عن مشاكلها ويعبر الوجه، والفم ، والعين ..
- لن ترى الغربة والوحشة، في ضوء النهار ، بل عتمة الليل ستكشفها لك ..ستجدها على حقيقتها ..
- شعور المرء في النهار ، كشعور الطفل بالأمان مع والده ، يرى والده ، قادرا على حمايته من الكون وإحساس المرء في الليل، كإحساس الناضج، الراشد، بأن والده مثله، كائن، نقطة، في بحر الكون
- تفضح محطة قطار ، في بلد ما ، مغلقة ليلا ، خوف المدنية التي تحويها .
- أقسى الزلازل حين تباغتنا ليلا ، وكل الانقلابات تبدأ ليلا ..
- الخمر كالصور ، تخمر في أماكن معتمة ، التي هي روح الليل وسر قوته..
- ولأنها تخمر في المعتمة ، وتأخذ من روح الليل ، فتكون للمرء الذي يشربها فاضحة لرغباته وأفكاره..
- تحرره من القوانين ، لذا منع في الدين كمنع الزنا ، للحفاظ على التميز وعدم ضياع النسل ..
- وأحداث قصة الراهب الذي قتل الطفل وزنا المرأة تدور كلها في الليل ، فهي كشفت ما كان يخفيه الرجل تحت ثياب النهار،
- ما حدث لقوم لوط لم يكن إلا ليلاً ،
- لم تعقر ناقة صالح إلا ليلاً ..
صمت مطبقا ..رهبة الموت ..لحظة ارتكاب الجريمة ..يدفع عروة صدره للأمام كمن يستعد للمنازلة ..
يقترب من الصخرة كمن سيقوم بعقرها ..يرافق ذلك مقطع من السيمفونية بتهوفن ضربات القدر
عروة: جاء دورك أيتها الصخرة ..
ينحني ليحمل الصخرة ..ليرفعها وينطلق بها نحو الافق ...
إعتام
انتهى ...