بسم الله الرحمان الرحيم

رغم أني أعرف البعض من تاريخ حنبعل، لكن بدأت التفاعل مع الأبحاث التاريخية التي تخصه بالذات سنة 1996، عندما بدأ "أنطونيو دي بياترو" Antonio di Pietro القاضي الشجاع عملية "الأيدي النظيفة" في إيطاليا، إذ سأله أحد الصحفيين: من هو مثالك؟
أجاب: حنبعل؟
قال له الصحفي: لماذا حنبعل بالذات؟
أجاب دي بياترو: شخصية تلبي طموحاتي، له أثر كبير في حياتي، لقد سخر منه القريب قبل البعيد عند غزوه لروما، استطاع بمجموعة صغيرة من الجنود مقارنة بالرومان أن يغزو أكبر امبراطورية في ذلك الوقت في عقر دارها.
قرطاج كانت قوية في البحر والرومان أقوياء على اليابسة، حتى أن أحد أساتذتي الإيطاليين قال لي: أن الرومان هزموا القرطاجننين في البحر الأبيض المتوسط مرة واحدة رغم قوتهم البحرية، عندما استدرجوهم ليصعدوا على بطحاء من الخشب صنعت خصيصا في عرض البحر، وهيؤوها لمبارزة القرطاجننين بالسيوف.
العلماء والمؤرخين والإختصاصيين كتبوا أكثر من خمسمائة دراسة عن حنبعل، كل واحدة تختلف عن أختها، بل يقول العقيد "دودج" Theodor Ayrault Dodge ، أنه أحصى ثلاثمائة وخمسين كتابا عن حنبعل.. لعل أحسن ماكتب عن عظمته حسب رأيي هو كتاب "هانيبال ـ رواية قرطاج" لصاحبه الألماني "جيسبرت هايفس" Gisbert Haefs، وقد استغرق في البحث والتحري والكتابة 5 سنوات متتالية دون انقطاع، والأخرى "هانيبال" لصاحبه الإيطالي "جياني غرانزوتو" Gianni Granzotto.
وهناك دراستين كبيرتين عن حنبعل وقرطاج لهما نفس الأهمية التاريخية لما سبق ذكره، لكنها ليستا متاحتان بسهولة، الأولى لصاحبها الفرنسي "ستيفان جسيل"Stephane Gsell تحت عنوان "التاريخ القديم لشمال أفريقيا"، قيل لي أنها موجودة في سرقسطة Saragozza، والأخرى لصاحبها التونسي محمد حسين فنتر تحت عنوان "الفينيقيون والقرطاجيون"، علمت أنها نسخة واحدة وفي تونس.
أما بالنسبة للأفلام، أظن أن أحسن فيلم يلخص شخصية حنبعل هو: "حنبعل" للمخرجين الإيطالي والنمساوي"كارلو لودوفيكو براقاليا" Carlo Ludovico Bragaglia و"إدغار ألمر" Edgar George Ulmer، حتى وإن هناك كثيرا ممن يخير ماأنتجه الأمريكي المخضرم "فان ديزل" Vin diesel تحت عنوان "حنبعل الفاتح".
ولد حنبعل أو هانيبال أو هنيبعل بن أميلكار أو هاميلكار باركا أو برقة في تونس وبالتحديد بمدينة قرطاج عام 247 ق. م. ومدينة قرطاج سبقت في ظهورها مدينة روما ب 64 سنة، (حنبعل، يعني المنحني إلى بعل، كرم بعل، بهجة بعل، وبعل هو إله الخصوبة لدى الكنعانيين، وجاء ذكر بعل في القرآن الكريم في قوله تعالى {أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين. الله ربكم ورب آبائكم الأولين} في قصة إلياس بن ياسين عليه السلام، وقد سميت كذلك مدينة بعلبك نسبة إلى بعل إله الفينيقيين. إذا إسم حنبعل إسم ديني، مثل إسم عبد الله، أو بهجة الله). وقيل أن أباه القائد القرطاجي العظيم اصطحبه إلى إسبانيا وهو في التاسعة من عمره.
استلم حنبعل قيادة الجيش عام 221 ق. م بعد مقتل حصدربعل، وهو شاب يافع يبلغ من العمر 26 عاما، كان الجيش يرى في حنبعل صورة أخرى من أميلكار، ونفس الإصرار والذكاء.. قاد الإمبراطورية القرطاجية بفضل شعبيته الجارفة بين الجيش، حيث قام بتوحيد المنطقة سريعا تحت قيادته حتى نهر "إبرو" Ebro وفقا لمعاهدة إبرو مع الرومان، متخذا من الميناء البحري لقرطاج مركزا له، فتمكن من بسط نفوذ قرطاج على شبه الجزيرة الإيبيرية والتي كانت أجزاءا منها إحدى المعسكرات الرومانية، بعد أن قاد هجوما عليها، بما في ذلك كاتالونيا نفسها أو ساجونتو قديما، رغم أنه تزوج "إميليس" Imilice ابنة أحد أمراءها، وذلك في عام 219 ق. م.
خطوات حنبعل في إيبيريا أوقعت الخوف في قلب روما، لأنهم يعرفون أنه كان يكسب الوقائع الحربية بعقله لا بدماء رجاله، فقامت روما بتوقيع معاهدة مع مدينة مُرْبَاطَرُ أو مُرْبِيطَرُ Sagunto الواقعة في منطقة النفوذ القرطاجي وفقا لمعاهدة سنة 226 ق.م. التي وقعها الرومان مع حصدربعل وأعلنت الوصاية عليها.
أغضبت هذه الخطوة حنبعل وأعتبرها خرقا لمعاهدة إبرو، بما أنها تقع داخل الحدود القرطاجية وفقا للمعاهدة، وعندها تذكر ذلك الوعد الذي أعطاه لأبيه بالعداء لروما طوال حياته، فقاد حصارا على مدينة مُرْبَاطَرُ استغرق تسعة أشهر عانى فيها من بعض الخسائر التي نجمت عن التحصين القوي وإصرار المدافعين عنها، لكن قواته تمكنت من تحطيم دفاعات المدينة حتى سقطت في النهاية بيد القرطاجيين، ومنها بدأ التخطيط لغزو روما بما أن هاته المدينة هي قاعدة كبيرة يمكن أن تزود قواته بالمؤن وبالرجال.
رأت روما كذلك في الأمر خرقا للمعاهدة التي عقدت إثر الحرب البونيقية الأولى، وطالبت بتسليمها حنبعل، فرفضت قرطاج.
جمع حنبعل جيشا يضم حوالي 90 ألف مشاة، أكثرهم من شبه الجزيرة الإيبيرية يستخدمون بمهارة السيف المقوس المعروف ب"الفلكاتا" Valcata، و12 ألف فارس يقودهم مهر بعل، وما يقارب 40 فيلا، ودعم جيشه برماة الحجارة والمنجنيق الذين جلبهم خصيصا من جزر "البليار" Islas Baleares، لكن قوة الحملة كانت تقدر ب 75 ألف من المشاة، اختار فيها هاته المرة مقاتلين يمكن الوثوق بهم وبإخلاصهم لتنفيذ خطته الجريئة التي تهدف إلى نقل الحرب إلى أرض أعدائه، لهذا اصطحب معه أكثرية من الليبيين ومرتزقة إيبيريين، بعد أن عين أخوه صدربعل قائدا على إيبيريا ليأمن من أي حركات انفصالية يمكن أن تضعف موقفه في المستقبل، ترك خلفه 11 ألف رجل في الحامية التي خلفها في هذه المواقع حتى يحافظ على الوضع، وسرح أكثر من 10 آلاف آخرين ممن أظهر الرغبة في العودة إلى دياره قبل تخطي جبال الألب لإستحالة الرحلة حسب رأيهم. وانطلقت حملته سنة 218 ق. م، وكان في طريقه إلى روما يقول لقادة أركان جيشه المكون من: هانو بن هاملقار، ومهر بعل أو ماربال )لأمازيغي، البربري)، المسن وهو قائد سلاح الفرسان النوميديين، الذي تقلد هذه القيادة منذ عهد والده، ويكن له حنبعل حبا فائقا، وهيرت، وسينهالوس المصري كبير الأطباء، والإغريقيين سوسيلوس وسلينوس، وبوح الهندي منجم الحملة، والإسبرطي سوسيليوس الذي علم حنبعل اليونانية: "في حالة وصولنا لنهر "البو" Po قبل فوات الأوان، نستطيع أن نمسك بتلابيب جيوش الغزو الرومانية داخل إيطاليا نفسها، فلا تصبح مدينة قرطاج ميدانا للحرب، وحينئذ تقع تكاليف الحرب ولأول مرة على الرومان وعلى بلادهم فيكتوون بآلامها، ويحرقون بنارها.. فالسرعة ثم السرعة".
كان يردد: "إما أن تقهر عدوك، وإما أن تقبل مصير المقهورين"، وتمكن من عبور جبال الألب Alpe بجيشه في خمسة عشر يوما، تقدم حنبعل من "موريان" Maurienne في اليوم الأول شمالا نحو "فيانا" Vienna للتمويه، ثم اتجه به شرقا نحو جبال الألب سالكا طريق السهول المفتوحة، دون أن يواجه أي معارضة من القبائل المحلية، ولقد كانت طبيعة جبال الألب مجهولة تماما لدى رجاله، منهم من سمع عنها من خلال بعض ما كتب عنها، ومنهم من سمع عنها من خلال الكثير من الشائعات التي راجت في ذلك الوقت، وبالرغم من أن مجال الإشاعات يفتح المجال للمبالغة إلا أنهم بدأو يتحققون منه بأنفسهم. الآن أمامهم القمم الشاهقة، المرتفعات المكسوة بالجليد والتي ترتفع لتعانق السماء، الطرق المنزلقة هناك في الأعالي، وليس آخرا، سكان هذه القبائل من الرجال الشعث الذين لا تبدو على هيئاتهم غير النظرات الحادة، وحتى الحيوانات الجبلية الضارية، كل هذا وأكثر يروه أمامهم على مرمى البصر، لايمكن للكلمات أن تصفه، وهناك عند أول تلة، كان اللقاء مع قبائل "الألوبروج" Les Allobroges وهي من قبائل السلتيك الحربية القوية المعروفة ببأسها الشديد في القتال، لقد كانت هذه القبائل تراقب جيش حنبعل وهو يدخل منطقة جبال الألب، فتربصت به رغبة منها في اصطياد الجيش بين الممرات الضيقة مما يعطيها فرصة كبيرة لمهاجمته وسلب غنائمه.
حنبعل الذي لم يكن يترك شاردة ولا واردة ولم يكن ليتكل على أدلائه الذين وعدوه بإرشاد الجيش إلى مسالك آمنة، قام بإعداد خطة محكمة وأمر الجيش بالتخييم في منطقة كانت عبارة عن سهل واسع بين الجبال، ثم اختار وفدا من أفراد القبائل الغولية الذي هم بأنفسهم رجال قبائل تعيش في الطرف الآخر من نهر "الرون" Rhône، وكانوا يعرفون لغة وعادات الألوبروج. أرسل حنبعل الوفد للقيام بمهمتين، الأولى: التفاوض مع هذه القبائل للمرور بسلام أو هكذا أراد حنبعل أن يعتقد أعدائه، والثانية: وهي المهمة الحقيقة، كانت تهدف إلى التعرف على هذه القبائل ومواطن قوتها وضعفها وعاداتها، وأخبر الوفد حنبعل بنتائج الزيارة، ومن ضمن النقاط التي ذكروها لحنبعل أن الألوبروج مصممون على القتال، إلا أنهم لا يقاتلون إلا نهارا، فإذا أسدل الليل خيوطه أقفلوا عائدين إلى قراهم وسكناهم حتى صباح اليوم التالي.
كانت هذه المعلومات كافية لحنبعل لكي يرسم خطته، ولما أقبل مساء اليوم الثاني، أمر الفرسان بوضع أمتعتهم في المخيم وبشكل واضح ليراهم الألوبروج، وأشار على جنوده بإيقاد النيران أكثر من المعتاد في سبيل تضليل قبائل الألوبروج، ثم أمر الجنود بالبقاء في خيامهم حتى يعتقد الألوبروج أنهم سوف يخيمون ولن يتحركوا في المساء.
انطلت الحيلة على قبائل الألوبروج التي ما أن رأت النيران حتى انسحبت من مواقعها وعادت إلى قراها، وكانت هذه فرصة حنبعل التي انتظرها إذ ما أن انسحب الألوبروج وتأكد من تخليهم عن أماكنهم، حتى أمر الجيش بالتحرك على عجل نحو قمة "قاب" Gap، حتى اجتاز الأماكن الخطرة التي كانت تمثل خطرا على جيش محمل بالعتاد العسكري وذلك في ليلة اليوم الثالث.
ما أن أشرقت شمس اليوم الثالث حتى عادت قبائل الألوبروج لمواقعها التي كانت قد تركتها في الليلة الماضية، فتفاجأت بعدم وجود المخيم حيث تركته، بل وأصيبوا بحالة من الصدمة وهم يرون جزءا من جيش حنبعل هناك في الأعلى، وقد ارتقى في سيره مكانا أعلى من الذي كانوا يتجمعون فيه، بينما مازال بقية من الجيش تسير أدنى منهم.
راقبت هذه القبائل الصعوبات التي يمر بها جيش حنبعل في الممرات الضيقة، وقد فرقت الجيش بحكم ضيقها وكذلك عملت على إجفال الخيول التي لم تتعود السير على المرتفعات، فوجد الجيش القرطاجي نفسه أمام عدوين، الأول القبائل العنيدة المقاتلة التي تتربص به شرا، والثاني الظروف الصعبة التي تفرزها طبيعة جبال الألب، خصوصا عند المرور في تلك الممرات الضيقة، التي كانت تقطع الجيش إلى فرق بحكم ضيق المساحة المتوفرة للتحرك، حتى أصبح الأمر وكأنه على كل رجل من رجال حنبعل أن يحمي نفسه بنفسه. وكانت بعض الخيول الغير مدربة على مثل هذه المواطن، قد اعتراها الخوف من الضجيج الذي خلقه تحرك جيش في منطقة ضيقة بين الجبال، مما خلق صدى صوت يتردد بين جنبات الجبال المحيطة، ماأفزع الخيل وخلق بعد ذلك فوضى عارمة في الجيش.
عندما رأت قبائل الألوبروج هذه المصاعب التي يمر بها جيش حنبعل، زالت عنها حالة الصدمة، ومن ثم استجمعت تركيزها وثقتها وقواها مرة أخرى، وهجموا على مؤخرة الجيش. عندما وصل حنبعل مع مقدمة الجيش إلى قمة "القاب" Gap، وبدأت القبائل في رمي مؤخرة الجيش بالحجارة من مواقعهم العالية، فتسببت هذه الحجارة المتساقطة بزيادة جفول الخيول، وبالتالي المزيد من الفوضى التي ساهمت في سقوط الكثير من الرجال من على أطراف السفوح إلى الأرض، وبالتالي مزيد من الخسائر.
راقب حنبعل الموقف بهدوء، وقد أبقى مقاتليه الأشداء معه، رغم عظمة الموقف وصدمته لكل من يراه من الأعلى، إلا أنه علم أن النزول في تلك الممرات الضيقة لن يضيف الموقف إلا تعقيدا، حتى بدأ الرتل يتفكك وشعر أنه لا فائدة من مرور الرجال دون عدتهم وعتادهم، عندها أيقن أن الوقت حان للتحرك، لهذا نزل مع فرقة من الجنود الأشداء من الأعلى، وشق صفوف الألوبروج الذين انهزموا وانكفأو خاسرين، وبالرغم من أن نزوله إلى مؤخرة الجيش أضاف شيئا من الإرباك، إلا أن هذا لم يدم إلا دقائق معدودة حتى عاد النظام للجيش، وعاد الهدوء، وانفتحت أمام الجيش الطريق ليخرج من هذا المأزق بأمان.
قبض حنبعل على قائد القرية التي تمثل حصن هذه المقاطعة، بالإضافة للقرى المجاورة ووضعه تحت الحراسة، وكانت الغنائم التي غنمها من الأبقار والحبوب كافية لتغذية الجيش لمدة ثلاثة أيام متتالية.
في اليوم الرابع استمر الجيش في مسيره نحو قمة "مونجنيفرو" Monginevro لمدة ثلاثة أيام دون أي مشاكل تذكر، وهو الأمر الذي أعطى فرصة للجيش لكي يعوض ما فاته ويحرز تقدما كبيرا في مسيره.
مع وصول حنبعل إلى القمم الشاهقة داخل مناطق نفوذ قبائل "بريانزون" Brianzone في مساء اليوم السادس، كاد حنبعل أن يقع في فخ تم نصبه وكاد أن يفقد حياته، لولا الخبرة التي اكتسبها هو ورجاله من التعامل مع رجال هذه القبائل المخادعة، إذ بينما حنبعل يسير بالجيش، تقدم إليه رجال مسنين من أفراد القبائل التي تقطن تلك المنطقة، وهم يحملون في أيديهم أغصان الأشجار وعلى رؤوسهم أكاليل من الأزهار. عرض هؤلاء الرجال تقديم أبنائهم رهائن وإدلاء، لكي يعينوا حنبعل على استكشاف خط سيره، وكانت هذه الطريقة معروفة في ذلك الوقت كتعبير عن الخضوع والتماس الرفق والرحمة. استمع حنبعل لأقوالهم وهو يقرأ في عيونهم غير ذلك، إلا أنه شكرهم على قدومهم وعلى عرضهم، ولم يكن حنبعل يريد أن يبدأ هو المعركة، لأنه كان يفضل المرور بسلام دون أن يجهد رجاله في قتال لا طائل منه ولا يخدم أهدافه. لهذا رد على القوم بطريقة ودية، فوافق على الإحتفاظ بالرهائن، واستخدم ما قدم له من مؤن كان يحتاجها جيشه، وتبع دليلهم الذي عرضوه لكي يدل حنبعل على أنسب الطرق للوصول إلى هدفه. علم حنبعل أنهم ينوون الغدر به، لهذا قدم الفرسان إلى المقدمة مع الأفيال، ثم بقي هو مع قوة ضاربة من الفرسان والمشاة الأشداء لحماية مؤخرة الجيش.
وما أن أشرقت شمس اليوم السابع وتحرك حنبعل، حتى أظهرت الأحداث صدق حدسه، فتحول أولائك الخاضعين إلى ذئاب جائعة تتبع مؤخرة الجيش القرطاجي، وما أن دخل الجيش في ممر "أكسيون" Actionالضيق، الصعب، حتى ظهر رجال القبائل من مخابئهم وقد شنوا هجوما على الجيش من المقدمة والمؤخرة، وهم يرمون بنبالهم وحرابهم الجيش. في ذلك المساء اشتد هجوم تلك القبائل وكان الضغط الأكبر موجها نحو حنبعل في المؤخرة، وتمكنت القبائل من فصل مقدمة الجيش عن المؤخرة، مستغلة الطرق الضيقة، ولأول ليلة {ليلة الثامن} وجد حنبعل نفسه مفصولا عن فرسانه في المقدمة مع عتادهم الحربي، إلا أنه تكفل وهو وفرسانه بصد الهجوم وكبد القبائل الكثير من الخسائر.
في اليوم الثامن وبعد هزيمة قبائل برينزون وهو في طريقه إلى قمة مونجنيفرو، تحولت جموع منهم إلى ذئاب جريحة جائعة ضلت تتبع الجيش القرطاجي من على سفوح الجبال، لكي تتحين الفرصة لترمي الجيش بالصخور من الجبال العالية، أو تبطش بكل من تأخر عن الجيش لمرض أو لسبب آخر، عندها قرر حنبعل بنفسه الدفاع عن مؤخرة الجيش، فصعد بهم إلى السفح المطل على وادي هاته القبائل الذي يسير فيه الجيش، وجعل ظهره مواجها للجبال والصخور، متأهبا لأي تحرك من تلك الفلول التي مازالت تطارد جيشه، حتى مر آخر جندي من الجيش من ممرات أكسيون الضيقة، والحقيقة لولا براعته وعبقريته الحربية وفطنته لما تمثله هذه القبائل من خطر، ولولا اختياره المؤخرة، لما أمكن حماية الجيش القرطاجي من بطش هذه القبائل المتمرسة على الحرب في تلك التضاريس القاسية.
بعد أن تخطى قمة مونجينيفرو عبر ممر أكسيون في صباح اليوم العشرين من شهر سبتمبر، وهو اليوم التاسع من مسيرته، استمر في السير عبر معابر جبلية لم تطرق من قبل، أحيانا لخطأ الإدلاء، وأحيانا كانت طرق مدروسة، تاركا وراءه مونجينيفرو حتى ظهرت له قمة جبل "مونشينيزيو" أو قمة "سينيس" بالفرنسية colle del Moncenisio أو Mont-Cenis، عندها أمر الجيش بالإستراحة حتى الظهر، ثم استأنف مسيره حتى قرب الغروب، فأمرهم بالتخيم.
في صباح اليوم العاشر عندما قام حنبعل رأى منظرا أفرحه ومطمئن في نفس الوقت، ألا وهو عودة المئات من رجاله الذين حسبوا مفقودين، في حين أنهم تأخروا من التعب والإرهاق والتيه بسبب الظلام وهم يعبرون الممرات الضيقة، بالإضافة إلى هجمات القبائل على مؤخرة الجيش التي فرقت البعض منهم، ولم يكن الأمر مقتصرا على الرجال فقط، بل تبعهم عدد لا يقل من الخيول والبغال والأبقار، التي كانت قد طرحت أحمالها ونفرت بين الأودية والجبال، إلا أنها عادت مدفوعة بالغريزة الحيوانية حتى استهدت لموقع الجيش.
خيم حنبعل لمدة يوم إضافي على القمة، حتى يعطي رجاله الوقت لكي يرتاحوا من المصاعب الجمة التي رافقت رحلة الصعود، وكذلك من المعارك التي خاضوها ضد رجال القبائل الشرسين في الممرات الضيقة.
في اليوم الثاني عشر، عند وصوله قمة مونشينيزيو كان الجو في ذلك اليوم صافيا جميلا، تمكن حنبعل من أن يرى من بعيد خضرة السهول الإيطالية البديعة، ووادي ال"بو" Po يلوح في الأفق، وهي لأول مرة يرى فيها أرض أعدائه أمامه، بمروجها وحقولها ومراعيها، فانشرح قلبه وامتلأ سعادة لا توصف، إلا أنه وعندما شاهد رجاله سواء من التحق به لتوه أو من هو معه وقد اكتساهم القلق والوهن والشرود، أمرهم بالتجمع فوق القمة.
هناك في القمة، وأمام هذه الجموع الشاردة، والمجموعات البشرية الغريبة على المكان، وقد بدا عليهم الوهن والشرود، يرتدون أسمالا ويجرون أثقالا على كواهلهم، ورؤوسهم لا تكاد ترتفع عن صدورهم من المشقات والمصاعب، التي واجهوها وهم يسيرون في رحم المجهول. وقف حنبعل بهمة ونشاط دون كلل أو ملل، تحسبه لم يمر بما مر به القوم من أهوال وصعاب، وهو الذي من ذاك المعدن الأصيل الذي كلما دعكته الظروف ازداد بريقا ولمعانا، أشار بيده إلى السهول والوديان وصرخ بهم: "انظروا..."
ساد الصمت المكان، ورفع الفرسان والجنود أبصارهم نحو الأفق بعيدا، وكأنهم يقولون: أي حنبعل إلى ماذا ننظر؟ لم تكن تظهر لديهم غير سهول بعيدة خالية من أي لون بهيج، ولم يكن يظهر لهم منها شي بعد.
لكن حنبعل لم يكن ليترك لليأس فرصة ليجد مكانا له في قلوب رجاله، بل استطرد بخطبة عصماء شحذ فيها الهمم، وهو يعرف ما في نفوسهم منذ زمن بعيد قائلا: "يا رجالي... أيها الجنود البواسل... لقد تجاوزتم الحدود التي كانت تحمي إيطاليا، ليس هذا فقط، بل إنكم تمشون على أسوار روما العالية، من الآن فصاعدا لن يكون هناك جبال تتسلقونها، وبعد معركة أو اثنتين سوف تكون لكم عاصمة إيطاليا، حصن روما لتحتظنونها بذراعيكم، لقد وصلتم إلى مشارف إيطاليا وهي تلوح أمامكم، أنتم اليوم جائعون خائرو القوى، لكن هناك ستدخلون مدنا عامرة تزخر باللذائذ، من أصناف الطعام والشراب، وتعج بالكنوز والتحف الثمينة، أنتم هنا تفترشون التراب وتتوسدون الحجارة والصخور، بينما تنتظركم هناك الأسرة الوثيرة لتمنحكم السعادة والدفء، عوضا عن الليالي الباردة والمطيرة التي قضيتموها في سيركم."
ومد يده نحو الأفق وهو يقول: "كل هذا ينتظركم هناك، كل هذا سيكون لكم، وهاهي الطريق مفتوحة أمامكم لتركعوا روما، ولتكونوا أبطالا تستحقون المجد."
ما إن أكمل حنبعل كلامه حتى عادت الألوان للصورة، وعادت الحياة تدب في نفوس وعقول الجنود، وبدؤوا يرون ما لم يكن يرونه قبل دقائق، وكأن كلماته مطايا امتطوها، فجالوا من خلالها على كل سهول ووديان ومدن إيطاليا. لقد لامست كلماته قلوب الرجال، وملأتهم عزيمة وقوة، وإصرار على تحقيق المستحيل، فتحرك الجيش بعدها وواصل المسير نزولا من جبال الألب دون أي اعتراض وكل منهم يمني نفسه بالنصر والمجد.
النزول من سفوح جبال الألب الشرقية، وكما ذكر المؤرخين كان في أحيان كثيرة أصعب من الصعود من الجهة الغربية لجبال الألب، خصوصا أن الوقت كان في آخر أسبوع من شهر سبتمبر حيث الرياح القوية التي تهب من الشمال، وهو موسم بداية سقوط الثلوج التي كانت تعيق حركتهم، وبالتالي واجهت الجيش الكثير من المشاكل مع الأرض الزلقة التي لم يكن أي منهم قد تعود عليها، كانت كذلك الممرات مثلها مثل الصعود ضيقة وزلقة، وتعرض بعض الرجال للسقوط منها، وسرعان ما وجد الجيش نفسه يسير في ممر له منحدر سحيق من كلا الجانبين، وهو أمر يستعصي حتى على الأفراد الذين لا يحملون معهم أي متاع، فما بالك بجيش أخذ منه الجهد كل مأخذ، حتى توقفت مقدمة الجيش أمام انهيار، سد عليهم الطريق، وهو أمر معتاد في تلك المناطق الجبلية، وعندما توقف الجيش، رجع حنبعل ليرى بنفسه الموقف، فقرر أن يتخذ طريقا آخر يلتف به من هذه المعضلة حتى يكمل المسير، إلا أن هذا الخيار أدخل الجيش في طريق من المنحدرات أكثر صعوبة.
في تلك المنحدرات كانت الأرض قد اكتستها طبقتين من الجليد، الجليد القديم، والجديد الذي سقط مؤخرا، في إشارة لدخول فصل الشتاء، وبالرغم من أن هذا الوضع في البداية أتاح موطئ قدم للسير، لكن ما أن كانت تدوسها وتفرقها أقدام كل هؤلاء الرجال والحيوانات المصاحبة لهم من الخيول، والبغال والأبقار، حتى كانت النتيجة مرعبة، إذ خلق هذا الأمر جليد غير مستقر تحت أقدام الجيش، وهو ما أدى للكثير من الإنزلاقات، حيث لم يكن هناك أشجار يمكن أن تستخدم جذوعها لتثبيت الأرضية التي يسير عليها الجيش، مما سهل أمام الكثير من أفراد الجيش التدحرج والإنزلاق مع الجليد الذائب.
وأكثر ماعانت من هذا الوضع هي البغال، إذ أنها كانت تغوص بحوافرها في طبقة الجليد، وكانت في مسعاها للخروج من هذه الطبقة ترفس وتتحرك بقوة، الأمر الذي كان يزيد من غوصها في الجليد، حتى غرقت الكثير منها وماتت. ومع حلول المساء، أمر حنبعل الجيش بالتوقف، والحفر لخلق مساحة مناسبة للعبور، بالرغم من حجم الجليد الذي تساقط على المنطقة، حتى يخفف من عبء الطريق، ثم خيم الجيش ذلك المساء على قمة تلة عالية.
في صباح اليوم الثالث عشر استكمل الجيش مهمته في بناء طريق يمكن للجيش السير عليه، دون أن يتعرض للغوص في الجليد، حتى ظهرت صخرة في ممرهم أعاقت تقدم الجيش، وكان من الضروري أن يمر الجيش من ذلك الممر، فاستنبط حنبعل حل، عندما طلب من بعض الجنود جلب بعض أغصان الأشجار وقطعها ووضعها حوالي الصخرة، ثم بمساعدة الرياح تم إضرام النيران حوالي الصخرة العظيمة، حتى اشتدت حرارتها، ثم أمرهم بصب النبيذ عليها فتفتتت، فانفتحت الطريق أمامهم وأكملوا مسيرهم حتى اليوم الخامس عشر، حتى وصلوا قرابة وادي "نوفلازا" Novalesa، فأمر جيشه بالتخييم هناك، وأعطاهم فترة ثلاثة أيام ليستريحوا فيها من عناء ما كابدوا، بالرغم من عدم توفر الطعام والشراب في تلك المنطقة التي كان يغطيها الجليد، وبعد انقضاء الثلاثة أيام نزل حنبعل بجيشه ووصل إلى وادي نوفلازا، وقد نقص عددهم وعتادهم.
عملية الصعود والهبوط التي اجتاز فيها قمم جبال الألب لم تستغرق أكثر من 15 يوما كما يقول أغلب المؤرخين، وهي معجزة عسكرية مازالت تسلب لب الكثير من الباحثين في الإستراتيجيات العسكرية قديما وحديثا، والذين أطلقوا على حنبعل بعد ذلك لقب أبو الإستراتيجية العسكرية، لتغطي رحلته ما يقارب من 16 ألف كيلومتر خلال سلسلة جبال البيريني Pirenei، مخترقة نهر الرينو Reno، ومارة بالقمم الجليدية لجبال الألب، وأخيرا إلى قلب إيطاليا.
ومن نوادره وهو في طريق نزوله في إحدى الليالي، عندما أرادوا تطويق القرطاجيين وأخذهم على حين غرة، وبعد أن تفطن حنبعل للشرك الذي كان يقع تحضيره، طمأن بعض مرافيقه المذعورين قائلا لهم: "سوف نجد حلا، أو سنصنع واحدا"، ثم أمسك بقطيع من الأغنام وربط في قرونها المشاعل الملتهبة ثم أطلقها فلما رأت القبائل الموالية للرومان المشاعل ظنوا أن الجيش القرطاجي يتحرك ليلا فذهبوا وراءهم بينما كان حنبعل وجيشه يعبرون الطريق بسلام، وكلما مر بقبيلة أو منطقة حشد من رجالها مااستطاع معتمدا على كرههم جميعا لروما، حيث تقابل حنبعل مع الجيش الروماني القوي بقيادة القائد "بوبليو كورناليو شيبيوني" Publio Cornelio Scipione أو "شيبيوني الإفريقي" Scipione l'Africano، الذي كان بانتظاره قرب نهر تيشينو Ticino )وهو رافد من روافد نهر البو يلتقي به عند بافيا Pavia (، رغم أن جيش حنبعل استنزفته المسيرة القاسية خلال الألب، فقد دارت المعركة في السهول الغربية لنهر تيشينو، حيث ساد فرسان حنبعل المعركة وأصيب القائد شيبيوني إصابات بالغة مما اضطره للهرب وتراجعت قواته، على الرغم من أن جيش حنبعل استنزفته المسيرة القاسية خلال الألب.
مباشرة بعدها في 14 جوان معركة "ترازيمينو" Trasimeno التي لقن فيها القرطاجنيون الرومان درسا قاسيا في عقر دارهم، وقتلوا منهم 30 ألف مقاتل بقيادة "قايو فلامينيو نيبوتي" Gaio Flaminio Nepote، واستطاع حنبعل ومعه جزء من جيشه أن يخدع جيش قايو فيستدرجه إلى سهل تكتنفه التلال والغابات اختبأ فيها معظم جنوده، فلما ضمه هذا السهل أشار إلى طوابيره المختبئة فانقضت على الرومان من كل الجهات وأفنتهم عن آخرهم تقريبا، وقتل قايو نفسه.
ولم تمر سنة حتى هزم القرطاجيون الرومان مرة أخرى على الضفة الغربية لنهر تريبيا Trebbia، وكان مكان المعركة سهل غمره الفيضان فأوحلت تربته ولم يره خصمه، اختاره وهو يردد قول أبيه أميلكار: "دع الأرض تقاتل عنك"، فازداد دعم القبائل لحنبعل، كقبائل الغال واللٌيقوريون، Gauls - Celti e Liguri، وقد زودوا حنبعل ب 40 ألف مقاتل، كما أن قبائل "البوي"I Boi (sing. Boio)، رأوا فيه منقذا لهم، فتحالفوا معه وانضووا تحت لوائه، وكان عدد مقاتيليهم 14 ألف، فاستقبلهم حنبعل وهو يردد قولته الشهيرة: "إذا أحرزت نصرا انضم إليك الجميع حتى خصومك، أما إذا حاقت بك الهزيمة تخلى عنك حتى محبوك"، وواصل حنبعل تقدمه حتى وصل نهر أرنو Arno، والذي وبرغم انتصاره عند بحيرة ترازيمينو، فقد تراجع عن قيادة قواته المنهكة للهجوم على روما.
وفي صيف عام 216 ق. م، تقابل 16 فيلقا رومانيا به ما يفوق 88 ألف جندي مشاة و6000 فارس، مع حنبعل عند تخوم مدينة "كانييا" Cannea )محافظة بوليا(، حيث حشد القائد والكاتب الروماني "ماركو تيرينسيو فاروني" Marco Terenzio Varrone أو باللاتينية Marcus Terentius Varro{كتب 490 كتابا معظمها في الأدب}، وخدع حنبعل فاروني حتى جعله يحاربه في سهل متسع هو أحسن المواضع لحرب الفرسان، فوضع الغاليين في القلب لظنه أنهم سيتخلون عن مواقعهم، وقد صدق ظنه فتراجعوا واقتفى الرومان أثرهم في الثغرة التي حدثت بانسحابهم، مع توزيع الفرسان على الجانبين، في توزيع تقليدي للجيش، ومع تقدم الجيش الروماني إلى القلب تفوق الجانبان، ومن ثم تم تطويق الجيش الروماني مع قطع الطريق على أي محاولة للتراجع بإرسال فرسان للمؤخرة، استخدم فيها تكتيك الكماشة التي لم يكن يعرفها أحد من قبل إلا حنبعل. فأبيد الجيش الروماني في تلك المعركة عن بكرة أبيه، بما فيهم ثمانون من أعضاء مجلس الشيوخ الذين تطوعوا في الجيش، كان الرومان يرون الخيالة تبحر نحوهم كأنهم برق، يكرون، يدبرون، يقبلون من جديد، وينأوا بأجسامهم كأنهم رياح، ففر عشرة آلاف إلى "كانوزا" Canosa، ومن بينهم فاروني وشيبيوني. مما سبب انشقاق العديد من الحلفاء لروما وتحولهم إلى التحالف مع قرطاج القوية، وميدان معركة كانييا لازال يسمى إلى اليوم بميدان الدماء Campo de Sanguin. وكان نصره هذا شاهدا فذا على براعته في القيادة التي لم يتفوق عليه أحدا فيها في التاريخ، ولم يعد الرومان بعد هذا النصر يعتمدون قط على الجنود المشاة، كما أن هذا النصر وجه الخطط العسكرية وجهة جديدة لم تألفها طيلة ألفي عام.
في فترة وجيزة من الزمن، أصبح الرومان في حالة فوضى كاملة، فقد دمرت أفضل جيوشهم في شبه الجزيرة الإيطالية، التي كان تعدادها في الحرب ضد حنبعل ب300 ألف من المشاة، و14 ألف فارس، و456 ألف احتياطي، إذ اعتبر أنه أكبر جيش على الإطلاق جمعته روما في تاريخها، وانخفضت الروح المعنوية بشدة، وفقدت الثقة تماما في فاروني، وأعلن الحداد الوطني على الضحايا، فلم يكن هناك بيتا واحدا في روما، لم يفقد أحد أفراده في المعركة، وتم تشكيل كتيبتين من الجنود الرومان الناجين في كانييا، وأرسلوا إلى صقلية للفترة المتبقية من الحرب عقابا لهم على الفرار المهين من ساحة المعركة، وقد استطاع رجال حنبعل جمع أكثر من 200 خاتم ذهبي من الجثث في ساحلة المعركة وأرسل بها إلى قرطاج، كدليل على انتصاره، إذ كان ارتداء خاتم من الذهب دليل على انتماء الشخص إلى الطبقات العليا من المجتمع الروماني.
بانتصاره في كانييا هزم حنبعل ما يعادل ثمانية جيوش رومانية في 20 شهرا، وخسرت روما أكثر من 150 ألف رجلا، وهو ما يعادل خمس مجموع مواطني روما، فألغت جميع مدن الجنوب الإيطالي ولائهم لروما، وأعلنوا ولائهم لحنبعل. وخلال السنة نفسها أعلنت المدن اليونانية في صقلية الثورة على السيطرة الرومانية، كما تعهد الملك المقدوني فيليب الخامس، بتقديم الدعم لحنبعل، فأشعل ذلك نار الحرب المقدونية الأولى ضد روما.
اعتبر مهر بعل في تلك الفترة أن وقت الهجوم على روما قد حان، وهو الحل الأنسب لإجبارها على الإستسلام نهائيا، فصاح غضبا: "حنبعل.. إسمع لي جيدا، في خمسة أيام يستطيع الجيش أن يتناول هذه الوجبة في روما نفسها، سيسبقك فرساني كالبرق إليها، فيكتشف الرومانيون بحلولك بينهم من خلال هؤلاء الفرسان المردة قبل أن يعلموا بخروجك إليهم.." ونظر حنبعل مليا في وجه مساعده العجوز، ثم أجابه: "هذا مما يسهل قوله، ويبهج القلب سماعه، يا عمنا البطل، لكن إمعان التفكير في الأمر وتقليبه على عدة وجوه، يحتاج إلى وقت طويل." وهنا لم يتمالك مهر بعل نفسه فصاح فيه ثانية، وقال له قولته المعروفة: "حنبعل.. لقد حبتك الآلهة بنعم كثيرة، فأنت تعرف كيف تحرز النصر، ولكنك لا تعرف كيف تستخدمه وتستغله.." واستمع حنبعل لمساعده الأمازيغي العجوز رفيق وصديق والده، ومعلمه سائر أنواع القتال والفروسية والرياضة، تمعن مليا فيه ثم أمر باطعام الرجال، وإراحتهم لأنهم كانوا يعانون من داء الإسقربوط، وعاد إلى مقر قيادته لينام نوما عميقا بين حراسه، بعد جولة تفتيشية. وبالفعل أنصف التاريخ القائد البربري، وأعادت روما بناء جيشها وتجهيزه في وقت وجيز.
خلال 16 عام، إحتل حنبعل معظم إيطاليا، ولكنه كان يعرف أن أمامه عدوا عنيدا يبلغ عدده عشرة أضعاف عدد رجاله، وكان أمله الوحيد في التغلب على هذا العدو هو أن يقنع بعض الولايات الإيطالية بالخروج على روما، فأطلق سراح كل من وقع في أسره من أحلاف روما، وقال إنه لم يأت ليحارب إيطاليا بل جاء ليحررها من الإستعمار، ثم خاض "إتروريا" Etruria التي كانت تغمرها المياه، وظل أربعة أيام كاملة لا يجد أرضا جافة يقيم فيها معسكره، فعبر سلسلة جبال "الأبننينو"Appennino إلى شاطئ البحر الأدرياتيكي، حيث سمح لجنوده أن يقضوا فترة طويلة يستعيدون فيها نشاطهم، ويداوون فيها جراحهم، وكان هو نفسه مصابا برمد خطير في عينيه، ولكنه لم يعالجه فانتهى بفقدان إحداهما، وبعد أن استراح جيشه اتجه به نحو الجنوب بمحاذاة ساحل إيطاليا الشرقي، وأخذ يعرض على القبائل الإيطالية أن تنضوي تحت لوائه، ولكن ولا واحدة استجابت لدعوته، بل فعلت عكس هذا فكانت كل مدينة تغلق أبوابها دونه وتتأهب للقتال، وحينما اتجه إلى الجنوب أخذ حلفاؤه الغاليون يتخلون عنه لأنهم لم يكن يعنيهم إلا مصير موطنهم في الشمال، وبلغ من كثرة المؤامرات التي دبرت لإغتياله أن صار يتخفى في كل يوم بشكل جديد، فبدأ الرومان في التجمع مرة أخرى في جنوب إيطاليا، تحت قيادة شيبيوني، والجنرال "فابيو ماسيمو الخامس" Quinto Fabio Massimo، والذي استخدم تكتيكات حذرة ليصد قوات حنبعل، مما مكنه من استرداد قدر من الأراضي، فطالب حنبعل قرطاج بالإمداد لكن مجلس الشيوخ رد بقوله: "إذا كان حنبعل ينتصر فهو لا يحتاج إلى المساعدة، وإذا كان لا ينتصر فهو لا يستحق المساعدة"، وفي شمال إيطاليا هزمت القوات الرومانية جيش الإمداد بقيادة صدربعل شقيق حنبعل، والذي عبر جبال الألب لمساعدة أخيه، كما استدعى شيبيوني الإمدادات البشرية من روما ليشن هجوما على قرطاج الأم بعد قرطاجنة الجديدة كما يسميها الرومان، إثر تحالفه مع القائد النوميدي "ماسينيسا" Massinissa الذي كان في السابق حليفا لقرطاج ولكن مساندتها لخصمه النوميدي "سيفاكس" Syphax {مؤسس مدينة صفاقس}، مما أجبر حنبعل على سحب قواته من جنوب إيطاليا، للدفاع عن وطنه الأم قرطاج، حيث التقى حنبعل مع قوات شيبيوني على تخوم مدينة زاما أو جاما يوم 19 أكتوبر 202 ق.م. والتي تبعد حوالي 12 كيلومتر عن مدينة سليانة، و120 كيلومترا فقط عن قرطاج، وكانت هاته المرة القوات الرومانية بمساعدة حلفائهم من القبائل البربرية، ومن بقي خارج الإمبراطورية القرطاجنية المتكونة من 45 ألف جندي، هم من يحاصرون ال35 ألف جندي من القرطاجنيين، وقد رسم شيبيوني خطة تحد من خطورة الفيلة الحربية التي كانت في مقدمة الجيش القرطاجي، حيث أمر جنوده المشاة بإحداث صخب بالأبواق، وفتح ممرات بينهم، لتمر منها الفيلة الهائجة دون أن تهاجمهم، بل إن بعضها إستدار لمهاجمة الجنود القرطاجيين مما أربك خطة حنبعل العسكرية منذ البداية، وأكمل المهمة فرسان ماسينيسا الذي طوق الجيش القرطاجي، وإلحاق أول هزيمة بقائده السابق، وقتلوا من جيش حنبعل ما يقارب 20 ألف جندي، مقابل خسارة 1500 جندي فقط، وقتل الرومان كل رجال المدينة، وباع النساء، والأطفال في سوق الرقيق، ومحقوا باقي المدن، ونثروا الملح بعد أن أحرقواالحقول والمزارع والأبنية، وكل ماله أثر للقرطاجيين، بل أنهوا وجود مدينة قرطاج أو قرطاجة سابقا، وإمبراطورية الفينيقين الغربية، وتكريما لفوزه الكبير مُنح شيبيوني لقب "الإفريقي" l'Africano، ويقول بعض المؤرخين لو لم ينقل الرومان كل حجارة قرطاج ليبنوا بها مدنهم، ولو لم يحرقوا كل ماتبقى مما يمت لقرطاج بصلة، لكانت تونس اليوم أغنى بلاد الله آثارا، بل تتقدم على إيطاليا التي تعتبر اليوم هي الأولى في عدد الأماكن والمدن الأثرية بأشواط.
وقع القرطاجيون بعد هزيمتهم مع روما اتفاقية السلام التي أنهت الحرب البونيقية الثانية، حيث سمح لقرطاجة أن تحتفظ بحدودها في إفريقية فقط، لكنها خسرت كل مناطق نفوذها الخارجية للأبد، بما في ذلك كل شمال إفريقيا، وقرطاجة الجديدة، أي إسبانيا وفرنسا، كما أُجبرت على تسليم أسطولها، ودفع تعويض ضخم من الفضة، بالإضافة للموافقة على عدم إعادة التسليح، أو إعلان الحرب مرة أخرى بدون موافقة روما.
وعلى الرغم من انتهاء حرب قرطاج وروما، إلا أن حنبعل احتفظ برغبته في الإنتقام من الرومان، ففر باتجاه سوريا، واجتاز على ظهر جواده مائة وخمسين ميلا حتى وصل إلى"تابسو" Tapso أو Thapsus وركب منها سفينة إلى أنطاكيا، وحرض "أنطيوكو الثالث" Antioco III حاكم سوريا على حمل السلاح ضد روما، ثم بعدما هزم الرومانيون أنطيوكو الثالث في "مانييزيا"Magnesia 189 ق.م، كان أحد شروط معاهدة السلام هو استسلام حنبعل، ولتجنب هذا المصير فقد فر إلى جزيرة "كريتا" Creta، ثم ذهب وحمل السلاح مع القوات المتمردة ضد روما في أرمينيا، وعندما وجد حنبعل نفسه غير قادر على الهرب، انتحر بتجرعه للسم في قرية "بيتينيا"Bitinia عام 183 ق. م.
هو واحد من أعظم القادة العسكريين في العصور القديمة، بل أعتبره في سباق على المرتبة الأولى مع خالد بن الوليد، رغم أن خالد أنهى بسيفه أكبر إمبراطوريتين في وقته هما الفرس والروم، يتبعهما الإسكندر الأكبر، وثالثهم "جوليو شيزر" Giulio Cesare ومحمد الفاتح، ورابعهم "فابيو ماسيمو الخامس" Quinto Fabio Massimo، واللافت إلى أن الكثير من قادة العصر الحديث أمثال "نابليون بونابرت" Napoleone Bonaparte، و"دوكا ولينجتون" duca di Wellingtonأو Arthur Wellesley ، يعتبرون حنبعل قائدا استراتيجيا موهوبا، وأطلقوا عليه الكثير من الألقاب، فتارة هو الساحر، وتارة هو أبو الإستراتيجية العسكرية، موضحين أن حنبعل امتاز بشخصية ماكرة وذكية، هذا إلى جانب التفوق الإستراتيجي، والمرونة أثناء المعارك، ما أهله لأن يقود إحدى أشهر الحملات العسكرية على مدار التاريخ، والتي حقق خلالها أكثر من اثني عشر انتصارا، منها أربع انتصارات كبرى، لم يرى الرومان فيها شمسا، وهي:"تريبيا" و"ترازيمينو" و"كانييا" و"التَيشينو"، قصمت ظهر الإمبراطورية الرومانية وجعلتها في حالة من الفوضى والخوف لامثيل لهما، كما كانت هاته المعارك دليلا على كون حنبعل أفضل قائد أثناء الحروب البونيقية.
كان قد جمع حنبعل إلى ثقافة السادة القرطاجنيين وتمكنهم من لغتي فينيقية وآدابهما وتاريخهما، تدريبا عسكريا في الميادين، أدب من خلاله نفسه أحسن تأديب، فعود جسمه شظف العيش ومغالبة الصعاب، وأخضع شهواته لعقله، وعود لسانه السكوت، كما عود أفكاره أن تركز فيما يهدف إليه من الأغراض، ولم يكن يضارعه أحد في الجري أو في سباق الخيل، وكان في مقدوره أن يخرج إلى الصيد أو القتال مع أشجع الشجعان، كان يحتفط بقاروة تراب من كل معركة خاضها، ولولا الموقف المخجل من أعضاء مجلس الشيوخ القرطاجي المتكون من 300 عضو، حين رفضوا طلبه في التعزيزات لمحاصرة روما توجسا مما سيفعله بهم بعد نجاحاته المستمرة، لأستطاع دخول روما في مدة وجيزة. وهذا الإختيار سطر مصيره وترك جرحا تاريخيا كبيرا.. إذ لو دعم حنبعل لكان تاريخ البحر الأبيض المتوسط مختلفا جدا! وأن حدود تونس السياسية اليوم يمكن أن تكون غير ماهي عليه اليوم.
حنبعل قائد فذ وعبقري في فهم نفسية رجاله، وكان يعرف متى يتحدث إليهم كصديق ومتى يصدر لهم الأوامر كقائد، كيف لا وهو قد عاشرهم طويلا وخبر نفوسهم وروحهم القتالية، حتى أصبح يعرف كيف يقودهم إلى المجهول دون خوف من أي اعتراض منهم. وقد قال فيه "نورمان شوارزكوف" Norman Schwarzkopf قائد حملة "ثعلب الصحراء" في العراق ضد صدام حسين أنه طبق مايعرف عند حنبعل ب"المقص" ضد جنود صدام..
حنبعل من القادة العسكريين القلائل الذين غيروا مجرى التاريخ، ينام اليوم في أرض غير أرضه وفي وطن غير وطنه، العالم بأسره ينحني أمام ما أنجزه، وأحفاده في تونس يجهلونه.
الأدب الفرنسي حول الهزيمة العسكرية لنابليون في معركة "واترلو" Waterloo إلى إنتصار ثقافي لفرنسا، فكيف نجح الفرنسيون في صنع أيقونة نابليون وفشلنا نحن في صنع أيقونة حنبعل؟
لماذا لم تكتب أقلامنا حول ملحمة قرطاج رواية في روعة رواية "صلامبو" ل"غوستاف فلوبير" Gustave Flaubert؟
لماذا لم ترسم ريشة أحد رسامينا لوحة في جمال لوحة الرسام الإنقليزي "وليام ترنر" William Turner، التي رسمها سنة 1812 وأطلق عليها إسم "عاصفة الثلج أو حنبعل يعبر الآلب"، أو لوحة الرسام الإسباني "فرانسيسكو دي قويا" Francisco de Goya، الذي أبدع بريشته وسماها "حنبعل المنتصر يتأمل للمرة الأولى إيطاليا من جبال الآلب"؟