ولتتضح الحالة أكثر فأساس تفكير الرأسماليين في العيش تفكير أناني اجرامي كان من نتائجه أن جلب للحياة الإنسانية كلها تعاسة وشقاء ، وأدق من وضح وفسّرَ ذلك بجلاء كان المفكر والعالم الجليل تقي الدين النبهاني رحمه الله في كتابه القيم "التفكير": ( إن التفكير بالعيش هو الذي يصوغ الحياة للفرد، وهو الذي يصوغ الحياة للعائلة والعشيرة، وهو الذي يصوغ الحياة للقوم، وهو الذي يصوغ الحياة للأمة، وهو فوق كل ذلك يصوغ الحياة للإنسانية، صياغة معينة، فيجعلها شكل قرد أو خنزير، ويجعلها من ذهب أو من قصدير، أي يجعلها حياة عز ورفاهية وطمأنينة دائمة، أو يجعلها حياة شقاء وتعاسة وركض وراء الرغيف. ونظرة واحدة للتفكير الرأسمالي بالعيش، وما صاغ به الحياة للإنسانية كلها من صياغة معينة، تُري ما جلبت هذه الصياغة لحياة الإنسانية كلها من تعاسة وشقاء وجعل الإنسان بقضي حياته كلها يركض وراء الرغيف. وكيف جعلت العلاقات بين الناس علاقات خصام دائم، هي علاقة الرغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحدنا الرغيف ويحرم الآخر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه على الحياة ليوفر باقي الرغيف للآخر ويزيد خبزه. فنظرة واحدة لهذه الصياغة التي صاغها التفكير الرأسمالي للحياة، تُري كيف جعلت الحياة الدنيا دار شقاء وتعاسة، ودار خصام دائم بين الناس. ذلك أن التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي وإن كان بناه على نظرة معينة في الحياة، فإنه وإن حقق نهضة للشعوب والأمم التي سارت على هذا التفكير بالعيش، فإنه أشقى تلك الشعوب والأمم، وأشقى الإنسانية بأجمعها. فهو الذي أوجد فكرة الاستعمار والاستغلال، وهو الذي أتاح لأفراد أن يعيشوا في مستوى هيأ لهم أن يأخذوا الرسائل التي تأتيهم على طبق من ذهب يقدمه إليهم الخدم، أي العبيد، وحرم أفراداً حتى من أن يكونوا خدماً أو عبيداً لأبناء عائلاتهم أو عشيرتهم أو أمتهم، يستطيعون أن ينعموا بفضلات العيش. وفي أمريكا الغنية، وإنجلترا التي تحلم بالإمبراطورية، وفرنسا التي يسبح خيالها بالعظمة والمجد، نماذج عديدة من هذه الحياة، فضلاً عما فعلته فكرة الاستعمار والاستغلال في غير أروبا وأمريكا من استعباد ومص دماء. وكل هذا إنما كان، لأن التفكير بالعيش ليس تفكيراً مسؤولاً، أي ليس تفكيراً فيه المسؤولية عن الغير، وإنما هو خال من المسؤولية الحقيقية، حتى وإن كانت تظهر فيه المسؤولية عن العائلة أو العشيرة أو القوم أو الأمة، ولكنه في حقيقته خال من المسؤولية، لأنه ليس فيه إلا ما يضمن الإشباع.)