مقال مجمع ومنقح نفعكم الله به
بلغ التصوف غايته وذروته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث حيث استطاع الحسين بن منصور الحلاج أن يظهر معتقده على الملأ ولذلك أفتى علماء العصر بكفره وقتله فقتل سنة 309هـ وصلب على جسر بغداد، وسئل الصوفية الآخرون فلم يظهروا ما أظهر الحلاج
وفي منتصف القرن الرابع الهجري نشأت بدايات الطرق الصوفية التي سرعان ما انتشرت في العراق ومصر، والمغرب.
وفي القرن السادس ظهرت مجموعة من رجال التصوف كل منهم يزعم أنه من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم واستطاع كل منهم أن يقيم له طريقة صوفية خاصة وأتباعاً مخصوصين
وفي القرون السادس والسابع والثامن.. بلغت الفتنة الصوفية أقصاها وأنشئت فرق خاصة بالدراويش وظهر المجاذيب وبنيت القباب على القبور في كل ناحية، وذلك بقيام الدولة الفاطمية في مصر وبسط سيطرتها على أقاليم واسعة من العالم الإسلامي، وبنائها للمزارات والقبور المفتراة كقبر الحسين بن علي رضي الله عنهما في مصر والسيدة زينب، وإقامتهم بعد ذلك الموالد والبدع والخرافات الكثيرة، وتأليههم في النهاية للحاكم بأمر الله الفاطمي.
وأخيراً عم الخطب وطم في القرون المتأخرة التاسع والعاشر والحادي عشر إذ ظهرت آلاف الطرق الصوفية، وانتشرت العقيدة والشريعة الصوفية في الأمة، واستمر ذلك إلى عصر النهضة الإسلامية الحديثة.
لقد بدأت طلائع هذه النهضة ومقدماتها في آخر القرن السابع وبداية القرن الثامن على يد الإمام المجدد أحمد بن عبدالحليم بن تيمية الحراني الذي صاول كل العقائد المنحرفة بقلمه وبيانه ومن جملة ذلك عقائد المتصوفة وشرائعهم المبتدعة ولاقى في هذا ما لاقى (اقرأ الفصل الخاص بمناظرة ابن تيمية للرفاعية البطائحية) وجاء تلاميذه من بعده مجاهدين في هذا الصدد كابن القيم، وابن كثير، والحافظ الذهبي، والحافظ المزني، وغيرهم،..
تختلف العقيدة الصوفية في صورتها الأخيرة عن عقيدة الكتاب والسنة من كل وجه من حيث التلقي والمصادر أعني مصدر المعرفة الدينية.
ففي الإسلام لا تثبت عقيدة إلا بقرآن أو سنة
لكن في التصوف تثبت العقيدة بالإلهام والوحي المزعوم للأولياء والاتصال بالجن الذين يسمونهم الروحانيين، وبعروج الروح إلى السماوات، وبالفناء في الله، وانجلاء مرآة القلب حتى يظهر الغيب كله للولي الصوفي حسب زعمهم، وبالكشف، وبربط القلب بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث يستمد العلوم منه في زعمهم، وبلقاء الرسول عليه الصلاة والسلام في اليقظة والمنام حسب زعمهم، وبالرؤى..، وبالجملة فالمصادر الصوفية للغيب كثيرة جداً.
ولكن بعض الكتاب ظن أن هناك صلة بين التصوف والزهد، ولذلك نسب إلى التصوف كل من عرف بالزهد والرغبة عن الدنيا، والإقبال على الله كإبراهيم وكالفضل بن عياض، وعبدالله بن المبارك وبشر الحافي وإبراهيم بن أدهم ونحوهم من العباد والزهاد..
والذي ساعد في هذا الخلط بين الزهد والتصوف أن الذين وضعوا طبقات الصوفية جعلوا أمثال هؤلاء أئمة في هذا الشأن، بل تجاوز بعضهم الحدود من أمثال الشعراني، وجعل الخلفاء الراشدين هم أول رجال في طبقات الصوفية وحاشاهم..
والحال أنه شتان ما بين الزهد والتصوف
فالزهد في الدنيا فضيلة وعمل مشروع مستحب وهو خلق الأنبياء والأولياء وعباد الله الصالحين الذين يؤثرون ما عند الله على التنعم، والتلذذ والانشغال بالمباحات، بل يتركون بعض الطيبات في المباحات طمعاً فيما عند الله سبحانه وتعالى
كما قال تعالى: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}
وقال أيضاً: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}.
وأما التصوف فمنهج آخر لأن الصوفي إذا تحقق في صوفيته يصبح الزهد عنده شيئاً لا معنى له، فهو قد يحتاج الزهد فقط في أول الطريق الصوفي ثم في النهاية عليه أن يعب من كل ما قدر عليه ولو كان حراماً في الشرع خمراً أو زنا، أو حتى إتياناً للذكران لأن عقيدة وحدة الوجود لا تجعل في النهاية فرقاً بين الزنديق والصديق، ولا بين الأخت والأجنبية، ولا بين الملَك والشيطان، بل ولا بين العبد والرب على حد قول ابن عربي المهندس الأخير للفكر الصوفي:
العبد رب والرب عبد ياليت شعري من المكلف؟!
إن قلت عبد فذاك ربُّ وإن قلت رب أنى يكلف؟!
" والزهد لم يذمه أحد وقد ذموا التصوف" ابن الجوزي: تلبيس إبليس/165 .
"والذين اكتفوا بحسن الخلق والزهد في الدنيا والتأدب بآداب الشرع لقبوا بالنساك والقراء والزهاد والعباد, والذين أقبلوا على دراسة النفوس وآفاتها وما يرد على القلب من خواطر وحرصوا على الصيغة المذهبية لقبوا بالصوفية" زكي مبارك: التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق 2/21.
فالقضية ليست قضية سلوك وإنما هي أساليب مستحدثة مخترعة أعجمية في الرياضات الروحية أدت إلى الشطح والقول على الله بغير علم.
ولذلك فنحن لا نعتبر أعلام الزهاد والعباد كإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وأمثالهم داخلين في الصوفية بهذا المعنى الذي نقرره، فضلاً عن أن نعتبر أمثال الحسن البصري ومن قبله كما يحاول الصوفية أن يقرروا وبدون حياء كما يصفهم ابن الجوزي.
1- عقيدتهم في الله:
يعتقد المتصوفة في الله عقائد شتى منها الحلول كما هو مذهب الحلاج، ومنها وحدة الوجود حيث لا انفصال بين الخالق والمخلوق وهذه هي العقيدة الأخيرة التي انتشرت منذ القرن الثالث وإلى يومنا هذا وأطبق عليها أخيراً كل رجال التصوف وأعلام هذه العقيدة كابن عربي وابن سبعين، والتلمساني، وعبدالكريم الجيلي، وعبدالغني النابلسي، وعامة رجال الطرق الصوفية المحدثين.
2- وفي الرسول صلى الله عليه وسلم:
يعتقد الصوفية في الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً عقائد شتى فمنهم من يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصل إلى مرتبتهم وحالهم، وأنه كان جاهلاً بعلوم رجال التصوف كما قال البسطامي: (خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله) ومنهم من يعتقد أن الرسول محمد هو قبة الكون وهو الله المستوي على العرش وأن السماوات والأرض والعرش والكرسي وكل الكائنات خلقت من نوره وأنه هو أول موجود وهو المستوي على عرش الله وهذه عقيدة ابن عربي ومن جاء بعده.
3- وفي الأولياء:
يعتقد الصوفية في الأولياء عقائد شتى فمنهم من يفضل الولي على النبي وعامتهم يجعل الولي مساوياً لله في كل صفاته فهو يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون ولهم تقسيمات للولاية فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدال السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع بأمر الغوث والنجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصائر الخلق
ولهم ديوان يجتمعون فيه في غار حراء كل ليلة ينظرون في المقادير، وباختصار؛ الأولياء عالم خرافي كامل.
هذا بالطبع خلاف الولاية في الإسلام التي تقوم على الدين والتقوى وعمل الصالحات والعبودية الكاملة لله والفقر إليه وأن الولي لا يملك من أمر نفسه شيئاً فضلاً عن أنه يملك لغيره قال تعالى لرسوله {قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً} (الجن:21).
5- وفي إبليس وفرعون:
وأما إبليس فيعتقد عامة الصوفية أنه أكمل العباد وأفضل الخلق توحيداً لأنه لم يسجد إلا لله بزعمهم وأن الله قد غفر له ذنوبه وأدخله الجنة، وكذلك فرعون عندهم أفضل الموحدين لأنه قال {أنا ربكم الأعلى} فعرف الحقيقة لأن كل موجود هو الله ثم هو في زعمهم من آمن ودخل الجنة.
وأما الشعائر الصوفية:
1- ففي العبادات:
يعتقد الصوفية أن الصلاة والصوم والحج والزكاة هي عبادات العوام وأما هم فيسمون أنفسهم الخاصة، أو خاصة الخاصة ولذلك فإن لهم عبادات مخصوصة.
وقد شرع كل قوم منهم شرائع خاصة بهم كالذكر المخصوص بهيئات مخصوصة، والخلوة والأطعمة المخصوصة، والملابس المخصوصة والحلقات الخاصة.
وإذا كانت العبادات في الإسلام لتزكية النفس وتطهير المجتمع فإن العبادات في التصوف هدفها ربط القلب بالله للتلقي عنه مباشرة حسب زعمهم، والفناء فيه واستمداد الغيب من الرسول والتخلق بأخلاق الله حتى يقول الصوفي للشيء كن فيكون ويطلع على أسرار الخلق، وينظر في كل الملكوت، ويتصرف في الكون.
ولا يهم في التصوف أن تخالف الشريعة الصوفية ظاهر الشريعة المحمدية الإسلامية. فالحشيش والخمر واختلاط النساء بالرجال في الموالد وحلقات الذكر كل ذلك لا يهم لأن للولي شريعته تلقاها من الله مباشرة فلا يهم أن يوافق ما شرعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأن لكل واحد شريعته فشريعة محمد للعوام وشريعة الصوفي للخواص.
2- وفي الحلال والحرام:
وكذلك الشأن في الحلال والحرام فأهل وحدة الوجود في الصوفية لا شيء يحرم عندهم لأن لكل عين واحدة.. ولذلك كان منهم الزناة واللوطية، ومن يأتون الحمير جهاراً نهاراً. ومنهم من اعتقد أن الله قد أسقط عنه التكاليف وأحل له كل ما حرم على غيره.
3- وفي الحكم والسلطان والسياسة:
وأما في الحكم والسلطان والسياسة فإن المنهج الصوفي هو عدم جواز مقاومة الشر ومغالبة السلاطين لأن الله في زعمهم أقام العباد فيما أراد.
وقد قسمنا مراحل تطور الصوفية إلى ثلاثة مراحل مسبوقة بتمهيد لها وهو ظهور طبقة العباد والزهاد في المجتمع الإسلامي.
نشأ المجتمع الإسلامي الأول نشأة طبيعية متكاملة غير متكلفة, جمعت بين بقايا من الفطرة السليمة والوحي المنزل من عند الله سبحانه وتعالى.
وعندما همّ ثلاثة من الصحابة بترك الدنيا من نساء وأموال بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردهم إلى الطريق الوسط قائلاً لهم: " أما أنا فأصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني " (رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وليس فيه صعود المنبر وجمع الناس)
وكانت حياة الصحابة حياة طبيعية تجمع بين العلم والعمل والجهاد في سبيل الله, وبينما هو متعلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هو بين أهله وولده وضيعة يمارس حياته اليومية المعتادة.
فهم كما وصفهم الإمام الجويني: " ولم يرهق وجوههم الكريمة وهج البدع والأهواء ولم يقتحموا جراثيم اختلاف الآراء كالبيضة التي لا تتشظى" عبد الملك بن عبد الله الجويني: الغيائي/42.
وكان التابعون وكثير من تابعي التابعين على مثل ذلك, يجمعون بين العلم والعمل, بين العبادة والبعد عن الناس مع علمهم وفضلهم والتزامهم بآداب الشريعة, ولأسباب معينة قد يغلب على أحدهم الخوف الشديد والبكاء المستمر, فهؤلاء وإن كانت أحوالهم عالية جداً, ولكن أحوال الصحابة ومن اقتفى أثرهم من التابعين أفضل, ولذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: " أنتم أكثر صوماً وصلاة من أصحاب محمد وهم كانوا خيراً منكم قالوا: لم يا أبا عبد الرحمن؟ قال: لأنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة" ابن تيمية: الفتاوى 22/304 .
ومن هؤلاء العباد في المدينة:
عامر بن عبد الله بن الزبير: كان يواصل في الصوم فيقول والده: رأيت أبا بكر وعمر ولم يكونا هكذا ( الإمام الذهبي: سير أعلام النبلاء 5/219).
صفوان بن سليم: من الثقات قال عنه أحمد بن حنبل: يستشفى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره, وكان يصلي على السطح في الليلة الباردة لئلا يجيئه النوم, وقد أعطى الله عهداً أن لا يضع جنبه على فراش حتى يلحق بربه, توفي سنة 132هـ . فإذا كان ما أورده الذهبي صحيحاً فهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم ( وأصلي وأنام ).
ومنهم في البصرة طلق بن حبيب العنزي, من كبار العاملين, وعطاء السلمي بكى حتى عمش( سير أعلام النبلاء 4/601).
ومنهم كرز بن وبر الحارثي نزيل جرجان: من العباد والزهاد قال عنه الذهبي:" هكذا كان زهاد السلف وعبادهم أصحاب خوف وخشوع وتعبد وقنوع لا يدخلون في الدنيا وشهواتها ولا في عبارات أحدثها المتأخرون من الفناء والاتحاد" ( سير أعلام النبلاء 6/86) .
ومنهم في الكوفة: الأسود بن يزيد بن قيس: كان يجهد نفسه في الصوم والعبادة حتى يصفرَّ جسمه . (ابن الجوزي: صفة الصفوة 3/23)
وداود الطائي, يذكر عنه أنه ورث بيتاً فكان لا يعمره إذا خربت ناحية منه حتى خرب البيت كله وجلس في زاوية منه, وقد نحل جداً من قلة الأكل(ابن الجوزي: صفة الصفوة3/139) .
ويبدو أن من أسباب ظهور طبقة العباد والزهاد في القرن الثاني الهجري هو إقبال الناس على الدنيا يجمعون منها ويتفاخرون (ابن خلدون: المقدمة/467), فكانت ردة الفعل عند البعض هي الابتعاد الكلي عنها, ولا بد أن هناك أسباباً أخرى قد تكون شخصية, وقد تكون من أثر إقليم معين أو مدينة معينة, فإن من الخطأ تفسير ظاهرة ما بسبب واحد.
ثم حدثت مرحلة انتقالية بين هذا الزهد المشروع وبين التصوف حين أصبح له تآليف خاصة, ويمثل هذه النقلة مالك دينار فنراه يدعو إلى أمور ليست عند الزهاد السابقين, منها التجرد أي ترك الزواج, وهو نفسه امتنع عن الزواج وكان يقول: " لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب"
(سير أعلام النبلاء 8/156, عبد الرحمن بدوي : تاريخ التصوف 198ـ حلية الأولياء 2/359. وقد علق محقق السير الشيخ شعيب على هذا الكلام فقال: " منزلة الصديقين لا تنال بهذا النسك الأعجمي المخالف لما صح عنه صلى الله عليه وسلم من ترك التبتل والرهبنة".)
وربما يكون عبد الواحد بن زيد ورابعة العدوية (انظر : ابن كثير/ البداية والنهاية 10/186) من أقطاب هذه المرحلة الانتقالية, واستحدثت كلمة العشق للتعبير عن المحبة بين العبد والرب ويرددون أحاديث باطلة في ذلك مثل: " إذا كان الغالب على عبدي الاشتغال بي جعلت نعيمه ولذته في ذكري عشقني وعشقته "
وبدأ الكلام حول العبادة لا طمعاً في الجنة ولا خوفاً من النار, وإنما قصد الحب الإلهي, وهذا مخالف للآية الكريمة: " يدعوننا رغبا ورهباً ".
ومثل قول رابعة لرجل رأته يضم صبياً من أهله ويقبله : " ما كنت أحسب أن في قلبك موضعاً فارغً لمحبة غيره تبارك اسمه " (سير أعلام النبلاء 8/156 ) . وهذا تعمق وتكلف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقبل أولاد ابنته ويحبهم .
يقول ابن تيمية : ملاحظاً هذا التطور : " في أواخر عصر التابعين حدث ثلاثة أشياء : الرأي , والكلام, والتصوف, فكان جمهور الرأي في الكوفة, وكان جمهور الكلام والتصوف في البصرة, فإنه بعد موت الحسن وابن سيرين ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وظهر أحمد بن علي الهجيمي وبنى دويرة للصوفية وهي أول ما بني في الإسلام ( أي دار خاصة للالتقاء على ذكر أو سماع ) وصار لهم من التعبد المحدث طريق يتمسكون به, مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع, وصار لهم حال من السماع والصوت, وكان أهل المدينة أقرب من هؤلاء في القول والعمل, وأما الشاميون فكان غالبهم مجاهدين " الفتاوى : 10/359.
كما لخص هذا التطور الإمام ابن الجوزي فقال : " في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم, ثم نشأت كلمة زاهد وعابد, ثم نشأ أقوام وتعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها, هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن " تلبيس إبليس /161
هؤلاء الذين اتخذوا طريقة تفردوا بها ويسميهم ابن الجوزي (أوائل القوم) الذين جمعوا بين الزهد وبين التعمق والتشدد والتفتيش على الوساوس والخطرات مما لم يكن على عهد السلف الأول
ولكن مما يجدر التنبيه عليه أنه قد نُسب إلى هؤلاء الزهاد من الأقوال المرذولة والشطحات المستنكرة ما لم يثبت عنهم بشكل قاطع كما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية.
تطورت الصوفية حتى وصلت إلى الغلو, من البدع العملية إلى البدع القولية الإعتقادية, بعد أن دخلت عليها عناصر خارجية.
وهي كأي تفرق يبدأ بسيطاً ساذجاً ثم ينتقل إلى التأصيل والتفريع ثم الإيغال في الضلال.
ويمكن تقسيم هذا التطور إلى ثلاث مراحل:
أوائل الصوفية ومن مشى على طريقتهم
ثم تقيد الصوفية بمصطلحات خاصة
ثم دخول الفلسفة الغنوصية وظهور نظريات الاتحاد ووحدة الوجود.
هذه المراحل أو الطبقات ليست منفصلة عن بعضها وغير محددة بزمن معين وانتهت, بحيث أن كل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها, ولكن هذا التطور حصل في العصور الإسلامية فكان الغالب على بدايات التصوف عدم الغلو.
ثم إن التصوف بلغ قمة الانحراف في القرن السابع على يد ابن عربي وابن الفارض وأمثالهما.
وصوفية اليوم مزيج من الانحراف العملي والعلمي فلا يزال يوجد من يردد أقوال الغلاة عن علم وعن غير علم.
إن من أعلام المرحلة الأولى من هو في القرن الثالث كالجنيد, (انظر صفة الصفوة 2/416 ) والسري السقطي (انظر : طبقات الشعراني 1/74).
ومنهم في القرن الرابع كأبي طالب المكي. (انظر: البداية والنهاية 11/319 )
وبداية القرن الخامس كأبي عبد الرحمن السلمي( انظر : سير أعلام النبلاء 17/247)
كما أنه ظهر مبكراً من يقول بالحلول كالحلاج ولكن هذا كان شاذاً بالنسبة لانتشار الغلو في القرون المتأخرة . فالقصد أن هذا التقسيم هو للغالب على كل مرحلة .
عرف التصوف في بداياته بأنه رياضات نفسية ومجاهدات للطباع , وكسر لشهوات النفوس وتعذيب للجسد كي تصفو الروح , وإذا كان هذا الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء , وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس.
ومن ميزات هذه المرحلة :
1- استحداث ما يسمونه ( السماع ) وهو الاستماع إلى القصائد الزهدية المرققة , أو إلى قصائد ظاهرها الغزل ويقولون : نحن نقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم
إن السماع الذي استحدثوه هو الذي أنكره الشافعي رضي الله عنه عندما زار بغداد وقال: "خلفت ببغداد شيئاً يسمونه التغيير يصدون به الناس عن القرآن"
يقول ابن القيم : " فإذا كان هذا قول الشافعي في التغيير وهو شعر يزهد في الدنيا ولكنه ينشد بألحان فليت شعري ما يقول في سماع التغيير عنده تفلة في بحر. (انظر: إغاثة اللهفان 1/239.)
ويقول ابن تيمية: "وهذا حدث في أواخر المائة الثانية وكان أهله من خيار الصوفية" الاستقامة 1/297.
ويقول أيضاً: "وهذه القصائد الملحنة والاجتماع عليها لم يحضرها أكابر الشيوخ كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم
والكرخي , وقد حضرها طائفة منهم ثم تابوا وكان الجنيد لا يحضره في آخر عمره " الفتاوى 11/534 , والمقصود بـ (لا يحضره) ما يسمى عند الصوفية بالسماع.
2- بدأ الكلام عن كيان خاص مميز يسمى ( الصوفية ) وظهرت كلمات مثل ( طريقتنا ) و ( مذهبنا ) و ( علمنا)
"والانتساب قد يكون محموداً شرعاً مثل المهاجرون والأنصار وقد يكون مباحاً كالانتساب إلى القبائل والأمصار بقصد التعريف فقط , وقد يكون مكروهاً أو محرماً كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية" ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /71
3- صنفت الكتب التي تجمع أخبار الزهد والزهاد وتخلط الصحيح بغير الصحيح وتتكلم عن خطرات النفوس والقلوب والدعوة إلى الفقر وتنقل عن أهل الكتاب , مثل كتب الحارث المحاسبي , وأبي طالب المكي في (قوت القلوب ) , وصنف لهم أبو عبد الرحمن السلمي في التفسير , وأبو نعيم الأصفهاني في ( حلية الأولياء ) .
يقول ابن خلدون : " أصل طريقتهم محاسبة النفس والكلام في هذه الأذواق ثم ترقوا إلى التأليف في هذا الفن فألفوا في الورع والمحاسبة كما فعل القشيري في ( الرسالة ) وذلك بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط "
قال ابن الجوزي عن كتاب (قوت القلوب): ذكر فيه الأحاديث الباطلة والموضوعة
وقال عن ( حلية الأولياء ) لأبي نعيم : لم يستح أن يذكر في الصوفية أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسادات الصحابة
(تلبيس إبليس / 165)
وسئل أبو زرعة عن كتب المحاسبي فقال : إياك وهذه الكتب , فقيل له : في هذه عبرة , قال : من لم يكن له في كتاب الله عز وجل عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة. ( تلبيس إبليس/ 167)
4- السياحة في البراري
يقول ابن تيمية : "وأما السياحة التي هي الخروج في البرية فليست من عمل هذه الأمة" (ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم /105 وقد نقل كلام الإمام أحمد بن حنبل)
وقول الإمام الذهبي: "الطريقة المثلي هي المحمدية , وهو الأخذ من الطيبات , وتناول الشهوات المباحة من غير إسراف , فلم يشرع لنا الرهبانية ولا الوصال ولا صوم الدهر والجوع أبو جاد الترهب" (سير أعلام النبلاء 12/89 ويعني بكلمة (أبو جاد) البداية والمقدمة)
وقد لُبِّس عليهم في ترك المال كله , وكانت مقاصدهم حسنة وأفعالهم خطأ
إن السلف عندما فهموا الإسلام فهماً صحيحاً لم يتعمقوا ويشددوا على أنفسهم , فهذا سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول له مولاه برد : ما رأيت أحسن ما يصنع هؤلاء , قال سعيد : ما يصنعون ؟ قال : يصلي أحدهم الظهر ثم لا يزال صافاً رجليه يصلي حتى العصر , قال سعيد : ويحك يا برد, أما والله ما هي بالعبادة , تدري ما العبادة ؟ إنما العبادة التفكر في أمر الله والكف عن محارم الله. (ابن سعد : الطبقات 5/135)
"والوصول إلى العبادة لا يكون إلا بالحياة الدنيا ولا سبيل إلى ذلك إلا بحفظ البدن" (الذريعة إلى مكارم الشريعة / 53 لراغب الأصفهاني)
" ومجرد ترك الدنيا ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه وما فيه ضرر في الدنيا مذموم إذا لم يكن نافعاً في الآخرة " (ابن تيمية: الفتاوى 20/148)
إن الزهد الحقيقي هو الزهد في الدنيا حتى يستوي عنده ذهبها وترابها والزهد في مدح الناس أو ذمهم , فمن كان هكذا فهو من أطباء القلوب , فإن بدا منه ما يخالف الشريعة نَرُدَّ عليه بدعته ونضربها في وجهه. (أبجد العلوم: 2/ 374 للقنوجي نقلاً عن الشوكاني)
وقد مدح الخليفة العباسي المنصور عمرو بن عبيد المعتزلي على زهده فعلق ابن كثير : " الزهد لا يدل على صلاح فإن بعض الرهبان قد يكون عنده من الزهد مالا يطيقه عمرو ولا كثير من المسلمين ". (البداية والنهاية: 10/80)