أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: تحت خط الاستواء .. قصة لمحمد محمود شعبان

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد محمود محمد شعبان أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    المشاركات : 2,176
    المواضيع : 158
    الردود : 2176
    المعدل اليومي : 0.49

    افتراضي تحت خط الاستواء .. قصة لمحمد محمود شعبان

    تحت خط الاستواء
    ===========
    قصة لـ / محمد محمود شعبان
    =================
    سرتُ وأذان العصر إلى الغرفة المنعزلة، التي بينها وبين المبنى الرئيسي مسافة كيلو، فوجدت ذا الكرش المكور المتدلى بين فخذيه يجلس بأبهته العهوده على مقعده الوثير وبجانبه حقيبة سفر مملوءة بالنقود، وقد عبأ الغرفة بأكوام من الدخان الخانق، يسعل ويبصق ويصرخ مستهينا بالجميع قائلا:ـ منكم كثير يا رمم، أنتم مالئين البلد، أنتم أكثر من الهم على القلب، أنتم ليس لكم سعر، أنا لو جئت بعمال هدد سيديرون هذا المكان أحسن منكم .
    يااااااه تذكرت الآن السنوات الخمس المنصرمة وتقصيري في أمور ما كان ينبغي أن أقصر فيها... مات عم ( سالم العيُّوطي) ولم أحضر غسله أوجنازته أو دفنه، ولا عزاءه حتى، لم أكن أتخيل أنني سأسمع خبر وفاته ويمر علي مرور اللامبالاة كأن لم يكن ذات يوم أستاذي ومعلمي وأبي الروحي وأكثر ... كانت وصيته واجبة التنفيذ، وطلبه بسيطا مقارنةً بكل ما قدمه لنا، فما فتئ الرجل الطيب يوصيني طوال حياته ويشدد علىَّ ووجهه ونظرات عينيه ونبرة صوته كلها تأثر وإلحاح وهو يقول:ـ بناتي صغيرات ـ يا بني ـ ولن يحسنّ التصرف يومها ووجودك لازم منذ اللحظة الأولى، وأنت أيضا الذي توصلني للقبر وتنزلني وتوجهني للقبلة، وتلقني الشهادتين وتسأل الله أن يثبتني عند سؤال الملكين ـ فاهم ـ يا ولد ـ؟.. فكنت أقول له :ـ ربنا يطيل عمرك يا عم سالم ... ما زلت أذكر شهامته مع أمي التي ترمَّلت مبكرا .. ولولا الرجل أيضا ما أحببت مادة الجبر أبدا فما أبغضت في حياتي مادة مثلما أبغضتها. لقد كان اليوم الذي يتضمن جدوله حصة جبر يجب أن أتغيبه وإلا مت حرجا بسبب استهزاء وقلة ذوق الأستاذ (حسين الصواف)، أو ( حسين أبو لُغْد ) كما كنا نحب أن نسميه في المدرسة الثانوية؛ لامتلاء رقبته بعشرة كيلوات من اللحم البلدي، لم أكن أتخيله إلا وهو تحت سكين جزار محترف مثل البقرة التي يضحى بها عم ( عزوز أبو زوزو ) تاجر أو (سفاح ) المواد التموينية، ورقة لحالنا كان يرسل لنا قطعة لحم لا تسمن ولا تغني من جوع، وكنت كلما نظرت للأستاذ حسين أقول في نفسي:ـ لماذا يغفل الجزارون عن أستاذ ( حسين أبو لغد ) في عيد الأضحى بصوته الذي يشبه صوت البقرة ولثغته التي تثير الضحك عندما يقول:ـ ثين أووث اتنين.. ويمد صوته البقري في الواو .. جعلني عم سالم أتنافس على أعلى الدرجات في مادة الجبر بفضل أسلوبه السهل في الشرح وتوصيل المعلومة رغم أنه لم يعمل يوما معلما ولا كان خريجا في كلية التربية. أذكر قوله لي :ـ أنت يا عماد ابني الذي لم أنجبه، وعملى كمهندس زراعي علمني أن أسير فوق خط الاستواء .. وكان يعني بذلك ( الصراط المستقيم ).. أحيل للمعاش قبل وفاته بشهر تقريبا، فلم يحتمل الرجل الذي عرف عنه النشاط والحيوية والعطاء أن ينزرع في البيت كأي قطعة أثاث بلا فائدة حتى تدهورت صحته تدهورا سريعا غريبا ومات.. لماذا تذكرتك الآن يا عم سالم؟! لماذا؟...
    يااااه تذكرت أيضا الآن كيف هانت زوجتي المسكينة فتركتها وحدها ذلك اليوم المشؤوم تتولى استقبال السباك ومساعده ، والسكن في هذه المنطقة المنعزلة عن العمار مخيف، حتى انفرد الكلبان بالمسكينة وتتابعا على اغتصابها وهي تستغيث وتصرخ ولا مجيب، وسرقا هاتفها، وحليها الذهبية، وكل ما خف وزنه وغلا ثمنه. عدت يومها، في ساعة متأخرة من الليل، وأذكر هذه الليلة جيدا، كنت منهكا متعبا جدا، فوجدت المسكينة تتقلب وتتلوى ألما،.. لم أحزن لأن هذين الكلبين لم ينالا عقابا يذكر ـ بل كدت أنا وهي نسجن بتهمة البلاغ الكيدي بسبب محاميهما ( العقر )، وشهودهما الزور فاضطررنا للتنازل عن البلاغ ـ إنما كرهت نفسي أنا، وأنا للمرة الثانية أقصر، وأقصر هذه المرة في حق من ؟!، في حق زوجتي المسكينة، التي ألحت عليَّ كي أتغيب يومها عن العمل، فرفضت، رفضت وأصررت ألا أتغيب تفانيا وإخلاصا في العمل (هههههههه). لم أحتمل أن أنظر إليها بعد هذا الحادث الأليم فطلقتها، ومع إدراكي التام لعدم رغبتها في الطلاق إلا أنني لم أحتمل الحياة معها بعد هذا الحادث، لا أدري ما الذي كان يدور في ذهني؟!، ألست أنا المتسبب في هذا الحادث المهين لها؟،نعم . ألم يكن من الواجب أن أقف بجانب هذه المسكينة التي هتك عرضها وهي في بيتي؟، نعم. ربما كان يجب عليَّ هذا وأمور أكثر من هذا، لكنني وجدت الطلاق أفضل.
    يااااه! يوم آخر كان ينبغي أن أتغيب فيه عن العمل!، يوم سافر ( هشام الصغير ) أعز أصدقائي، لم أستطع أن ألتقيه قبلها بيومين، وكان يتمنى أن أصحبه للمطار، واستأجر (ميكروباص) يجمع كل الأصدقاء لوداعه. ظل طيلة مكثه بالكويت لا يحادثني ولا يرد على هواتفي، حتى عاد مشحونا في تابوت إثر قضائه ـ كما قيل لنا ـ تحت إطارات سيارة أحد الأمراء هناك .. أما كان ينبغي أن أتغيب عن (العمل ! ) يوما بالخصم وأضحي بثلاثين جنيها أجرة يوم لأودع صديق عمري ورفيق الكلية والخدمة الإجبارية بالجيش، وأيضا رفيق أيام العطالة والبطالة والتسكع على المقاهي، كان حضوري لوداعه سيعفيني من هذا الألم النفسي الذي أعانيه الآن بسبب تقصيري في حق صديق لم يقصر يوما معي؟، أتذكَّر ( ليلة دخلتي ) أنه استأجر سيارة أحدث موديل ليزفني بها، وكذلك ليلة العشرية السوداء ـ كما أحب أن أسميها ـ، ليلة رأس سنة ألفين وعشرة، ليلة تعرضت أمي لأزمة قلبية حادة، ودُرْنَا بها في سيارة الإسعاف على كل غرف العناية المركزة فلم نجد لها بكل المدينة غرفة عناية مركزة واحدة شاغرة، لم يفارقني هشام ليلتها حتى اتصل بأخيه الدكتور ( حسام ) ووفر لأمي غرفة عناية خاصة مجانا في المستشفى الخاص الذي يعمل به. ماذا أقول وماذا أقول عن ( هشام الصغير)؟ ومهما تذكرت فلن أحصي أفضاله. ولا أدري حقا أكان ذلك رد فعل لشعور خفي بالحسد لم أدركه حينها؟، أم أنه محاولة عقاب وهمي أوحت به نفسي الأمارة بالسوء لأنه سافر وتركني هنا أعاني وحدي؟ لا أدري سببا واضحا لهذا أيضا، لا أدري، لا أدري لماذا هان قدر كل هؤلاء في عيني وعلى نفسي؟! ربما أنا مجنون أستحق علاجا نفسيا!!
    أليس من الأكرم لك أن تغادر هذه الغرفة المعبأة بالدخان القذر الخانق الذي يسقم الصدر؟، أليس من الأولى أن تغادرهذا ( السِّرْك ) الخاص كله ـ كما تحب أن تسميه ـ ومجازا يسمونه هنا(مدرسة خاصة)؟.. أما زلت ـ يا عماد ـ تود أن تبقى هنا شبه معلم للرياضيات أو ( شبه منحرف ) كما يدعوك صاحب المدرسة ذو الكرش المكور.. خمس سنوات أفنيت من عمرك ـ يا غبي ـ في هذا المستنقع الآسن براتب ألف جنيه لا يفي حتى إيجارا للشقة؟، كيف قبلت أن تعمل لديه ( كاميرا مراقبة ) تنقل له كل أخبار المدرسة، وكيف هانت عليك نفسك لتجلس بعد انتهاء كل يوم دراسي ترص له أنت وزملاؤك الفحم الملتهب، وهو يلثم ( الشيشة ) وينفث الدخان في وجوهكم التي شاهت، أما تحسَّرتم يوما ـ يا رعاع ـ لوضعكم التافه هذا؟، ولولا وجود أمثالكم من الخانعين تحت خط الاستواء لما كان لمثل هذا الكرش أن يتكور ويتضخم بهذا الشكل المخيف ... لكن قل لي ـ يا عماد ـ أين سنذهب؟ وماذا سنعمل؟، ولا مناص من هنا سوى الالتحاق بنقابة العاطلين المتسكعين على المقاهي وفي الشوارع أو نقابة البلطجية، أو نقابة الباعة الجائلين الذي يرتعبون ويفرون من شرطة المرافق ويختبئون في كل حارةٍ وعطفةٍ كالفئران. بقاؤك هنا حاليا كـ( كاميرا مراقبة ) وترص الفحم الملتهب خير الأمَرَّين.
    أسعدني بإضافة facebook
    mohammad shaban

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    يبدو أن الفقر والحاجة والبطالة .. أو الخوف من البطالة ـ حتى لو كان العمل
    مما يهين الكرامة ويسحق الكبرياء ـ فهل كل هذه العوامل تقتل الضمير؟؟
    أو هى خسة في الطبع اجتمعت مع كل هذه العوامل لتنسيه وعوده لأستاذه
    ومعلمه ووصيته التي أأتمنه عليها ـ وتجعله يتخلى عن زوجته بعد أن كان
    سببا في تعرضها لحادث أليم بهتك عرضها لمجرد رفضه التغيب عن العمل.
    وحتى لا يتغيب عن العمل هان عليه أعز أصدقاءه والذي يدين له بالكثير.
    ويظل خانعا تحت خط الأستواء لصاحب العمل .. خوفا من فقد هذا العمل
    ليلتحق بنقابة العاطلين والبلطجية.
    قاص محترف ، ونص مائز بسرديته ـ وواقعيته ورسالته
    وقصة معبرة ومؤثرة ومؤلمة
    تحياتي وودي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد محمود محمد شعبان أديب
    تاريخ التسجيل : Jan 2012
    المشاركات : 2,176
    المواضيع : 158
    الردود : 2176
    المعدل اليومي : 0.49

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ناديه محمد الجابي مشاهدة المشاركة
    يبدو أن الفقر والحاجة والبطالة .. أو الخوف من البطالة ـ حتى لو كان العمل
    مما يهين الكرامة ويسحق الكبرياء ـ فهل كل هذه العوامل تقتل الضمير؟؟
    أو هى خسة في الطبع اجتمعت مع كل هذه العوامل لتنسيه وعوده لأستاذه
    ومعلمه ووصيته التي أأتمنه عليها ـ وتجعله يتخلى عن زوجته بعد أن كان
    سببا في تعرضها لحادث أليم بهتك عرضها لمجرد رفضه التغيب عن العمل.
    وحتى لا يتغيب عن العمل هان عليه أعز أصدقاءه والذي يدين له بالكثير.
    ويظل خانعا تحت خط الأستواء لصاحب العمل .. خوفا من فقد هذا العمل
    ليلتحق بنقابة العاطلين والبلطجية.
    قاص محترف ، ونص مائز بسرديته ـ وواقعيته ورسالته
    وقصة معبرة ومؤثرة ومؤلمة
    تحياتي وودي.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    سعيد جدا إذ راقك نصي الفقير أديبتنا الفاضلة
    جزاك الله خيرا وبوركت جهودك