وحدي مع الأيام
أنا لا أقصد هنا ديوان الشاعرة فدوى طوقان ، وإنما أقصد حال أحد الأصدقاء .. تعلم في الجامعة وتخرَّج فيها بأعلى الدرجات .. تزوج وأنجب بنين وبنات ، تعلموا أحسن تعليم ، ومعظمهم اشتغل وتزوج وأنجب .. وعاش الجميع في أحسن حال وأهنإ بال .9 / 4 / 2018 م
كان من بين أبناء هذا الصديق وبناته ، بنتٌ ذكية ، لمّاحة ، مؤدبة ، مهذبة ، خلوقة ، عفيفة طاهرة . كانت أقرب الجميع إلى قلب أبيها ، تفهم ما يريد دون أن ينبس ببنت شفة ، تناوله ما يريد في سرعة البرق ، تخدمه بعينيها قبل أن تخدمه بيديها .
تقدم لخطبة هذه الفتاة عدة شباب ، ولكن أباها كان يرفض لأتفه الأسباب ، وهو لا يكره لبنته السعادة ، ولكنه لم يتصور يومًا أن يفترق عن ابنته العزيزة الغالية . وأخيرًا اضطر لما لا بد منه ، فقد تقدم لخطبتها هذه المرة شاب أديب خلوق ، سأل عنه واستفسر ، فكان الإجماع على أنه أفضل من يتقدم لخطبة فتاة كابنته هذه . تمت الخطبة والزواج ، وكانت زيجة موفقة هانئة ، استمرت لأكثر من عشر سنوات ، ولم تبدر من الزوج أو عائلته ما يعكر صفوها ، والكل يحسدها على هذه الزيجة .
كان الأب يزور ابنته وتزوره ، وينعم بلقائها والحديث معها . وفي أحد الأيام بينما الأب يستعد لزيارة ابنته وإذ بصارخ يستغيث : الحقوا ، لقد هجمت عائلة فلان على أخي ، ولا يجد من ينقذه من بين أيديهم . هب الشيوخ قبل الشباب مدججين بما لاح لهم من سكاكين وأمواس وآلات حادة ، وانطلقوا إلى المكان المقصود . هناك كان الشيطان سيد الموقف، وما إن حضرت الشرطة حتى وقعت إصابات عديدة بين العائلتين ، إحداها إصابة حرجة ، وكانت في الطرف الآخر .
طبعًا عرفتم من السياق أن العائلة الأخرى كانت عائلة زوج ابنة صديقي هذا . اقتيد العديد من أفراد العائلتين إلى المعتقل ، ونشطت لجان الإصلاح والوجهاء والمخاتير لرأب الصدع ، وما إن وصلت الأمور إلى حافة الصلح ، حتى جاء الخبر بوفاة المصاب بإصابة حرجة ، فثارت النفوس مرةً أخرى ، وبدأت المساعي لدفع الدية وعدم القصاص ، على أساس أنه لم يكن قتلاً مع سبق الإصرار والترصد .
لا أطيل عليكم .. تمت الموافقة على أخذ الدية ، ولكن وضعت عدة شروط على العائلتين ، كان من بينها – ما يخص موضوعنا – عدم التواصل بين ابنة صديقي وبين أهلها ، وإلا يتم تطليقها ، فوقعت بين نارين : إما أن تضحي بأبنائها من أجل أهلها ، وإما أن تحرم من أهلها وإلى الأبد ، فاختارت الأولى على أساس أن الأيام كفيلة بتغيير النفوس .
كان هذا الشرط أصعب الشروط على صديقي ، كيف لا وهو قد كان لا يطيق أن يحرم رؤيتها يومًا واحدًا ، حتى أنها حرمت من الجوال الذي يمكن أن تتواصل به معه .. مرت الأيام واشتاق الأب لابنته ، واشتاقت هي لأسرتها – وخاصةً أبيها – فماذا يفعل ؟ اعتزل جميع أبنائه وبناته وزوجته ، وفضل العزلة في غرفته ، لا يكلم أحدًا ، ولا يأكل إلا وجبة واحدة صغيرة في اليوم ، ساءت صحته ، وخارت قواه ، ونحل جسمه ، وأصبح يهذي بكلمات غير مفهومة .
كنت أكثر من زيارته ، وأحاول أن أواسيه ، فأعود أنا حزينًا كئيبًا من حاله ، كنت أذكِّره بآيات الصبر والأحاديث النبوية التي تحض على الصبر ، وتبين ثواب الصابرين ، وأن الصبر نهايته الفرج لا محالة ، فتتحسن نفسيته قليلاً ، ولكن ما إن أعود من عنده حتى تأتيني الأنباء برجوعه إلى ما كان عليه ، فأشفق عليه . أرسلت من يقوم بالاطمئنان عن ابنته ، فلم يوفقوا بالوصول إليها ، والاطمئنان على وضعها ، بل بالعكس ، وجدوها تعامل وكأنها سجينة لديهم ، وفي أسوأ ما عرف التاريخ من سجون . أنا الآن – فعلاً- قد بدأتْ عدوى صديقي تصيبني حزنًا عليه ، فأين أنتم يا أهل الخير ؟ أين أنتِ يا لجان الإصلاح ؟ أين أنتم يا وجهاء البلد ؟ في أي عُرف وبأي منطق يُحرم أبٌ من رؤية ابنته ؟ وتحرم ابنة من رؤية أبيها ؟ وفي أي عرف وبأي منطق تعامل هذه المرأة معاملة السجناء ؟ أليست لكم بنات ؟ أليس لكم قلوب ؟ أليس عندكم إحساس ؟ أدركوا هذا الشيخ قبل أن يموت حزنًا على حال ابنته وشوقًا لرؤيتها . أدركوا هذه المرأة التي تعامل معاملة الأرِقّاء . اللهم إني قد بلَّغت .