نفس المكان الذي شاهده في الحلم قبل إحدى عشرة سنة , وفي نفس تاريخ اليوم , ذكرى وفاة أمّه , ونفس اليوم أيضا , ونفس التوقيت , عصر الجمعة . كان يكنس شرفة المحل الجديد وسط البلد ولفت انتباهه أنّ هذا المشهد قد مرّ على مخيّلته بكل تفاصيله , السيارة البيضاء ذاتها , والإسم الذي سمع شخصا ما ينادي به في أسفل الشرفة : عبد الرزاق ! .
وتذكّر حلم تلك الليلة التي بات فيها وحيدا غريبا , كعصفور اقتلعوه من عشّه ونفشوا جناحيه , ورموه في العراء . حين كان يدرس في الجامعة في بلد بعيد , وجاءته مكالمة هاتفيّة عصر الجمعة تخبره أنّ أمّه المريضة قد توفّيت مع آذان صلاة الجمعة , وبات الليلة وحيدا في غرفته ينتظر الصباح لكي يذهب ويحضر مراسيم الدّفن , ولعلّه يلحق النّظرة الأخيرة لوجه أمّه , ولم يكن هناك نقل في ذلك المساء .
كان الحي الجامعي فارغا الاّ من بعض الطلبة الأجانب , فقد انتهى العام الدّراسي وعاد الطلاب إلى بلدانهم وبيوتهم . وفي غفوة نوم رأى شخصا اسمه ( الحُرمة ) مع زوجته , ولم يكن الشخص مهما في حياته , تكلّم معه قليلا واقفين , ثم رأى شخصا آخر اسمه عبد الرزاق , ولم يكن أيضا مهمّا , ركب سيارة بيضاء , حيّاه مبتسما وانطلق .
مرّت سنين صعبة بعد هذا الحلم الذي لم يلقِ له بالا , نسي فيها نفسه , ودخل في دوّامة حزن انعزل فيها , وانقطع عن العالم والدنيا , حتى شكّوا في صحّته النفسية والعقلية , ولفّ به اخوته الكبار ( وكان قد توفي والده أيضا قبل سنة من وفاة أمّه ) عند الرّقاة والمشايخ , وأطباء النفس , وعرف فيما بعد أنّه تأثّر من صدمة فقدان والدته , اذ كانت كل شيء في حياته , وبالنسبة لها أيضا , كانا كالأصحاب , وبمقدار برّه وحبّه لها كانت تحبّه وتسانده .
وقبل ثلاث سنين فقط انفتحت نافذة الفرج أمامه , حيث فتح مشروعا مهمّا , واستأجر له محلاّ فخما في وسط المدينة , وبدأ يلمس تحقّق الأحلام التي طالما داعبته منذ كان صغيرا . عبد الرزاق الذي سمع اسمه في الأسفل قبل قليل , صعد السيارة البيضاء , التفت اليه مبتسما وانطلق , ولم يكن يعرفه , وما هي الاّ لحظات حتى سمع خطوات أرجل على السّلّم , واذا به ( الحرمة ) دخل مع زوجته , وهنّأه بالمحل والمشروع الجديد .