خاطرة
الذئب والحية
16 / 5 / 2018
رحمكِ الله يا جدتي .. لقد اشتقتُ إليكِ .. اشتقتُ إلى قصصكِ اللذيذة ، وحكاياتكِ التي تنبض بالحكمة .. اشتقتُ إليكِ وأنتِ – من خلال هذه القصص والحكايات _ كأنكِ كنتِ ترسمين لي ملامح مستقبلي ، وتقولين لي بلسان الحال : خذ من هذه القصص والحكايات زادًا لحياتك المستقبلية .
آهٍ يا جدتي .. كلما مرت بي محنة أتذكر قصةً من قصصك اللذيذة ، قصةً تكاد تنطبق تمام الانطباق على ما أعاني وأكابد ، فأترحم عليكِ ، وأقول: لو أن الله أطال في عمركِ وأبقاكِ لأنهل من معين نبع حكمتك الذي لا ينضب ، وأجد تخفيفًا لما أعاني ، وحلاً لما أكابد .
تحضرني اليوم يا جدتي قصتان معبرتان من قصصك الحكيمة .. تقول القصة الأولى بأن فتىً من فتيان القرية رأى ذئبًا صغيرًا ، فأعجبه وأحبه ، وأخذه معه إلى البيت ، وصار يطعمه ويلاعبه وينظفه ويعتني به غاية الاعتناء ، فأصبح هو وهذا الذئب الصغير صديقين حميمين ، لا يطيق أحدهما أن يفارق الآخر.
كبر الذئب ، ولكنه لم ينسَ طبيعته وطبيعة آبائه المتوحشة ، فكلما كان يرى صديقه من بعيد ، يهمُّ بافتراسه ، ولكنه سرعان ما يتذكر ما قدمه له صديقه من خدمات جليلة ، فيقرع طبيعته المتوحشة ، ويعود إلى ملاطفته وملاعبته ، والفتى يرى تصرفات الذئب فيحسن الظن به ، ويفسر نظراته المتوحشة بأنها نوع من المداعبة ، وأن قلبه طيب ، ولا يمكن أن يفكر بأن يؤذيه أو يسيء إليه .
وذات مرة وقع الفتى فجرحت ساقه ، وسال منها الدم ، والذئب ينظر ويرى المشهد ، وما إن رأى الدم حتى نسي صداقة الفتى ، ونسي كل ما قدمه له ، وتغلبت عليه طبيعته المتوحشة ، وانقض على صديقه ، والتهم قدمه التي يسيل منها الدم فقطعها وأكلها ، دون أن يبالي بصراخ صديقه .
أما القصة الثانية فتقول بأن فلاحًا غُرّاً ، رأى في حقله حيةً تكاد تتجمد من شدة البرد ، فأشفق عليها وحملها ، وشعر بنعومة جلدها ، فقال في نفسه إن نعومة جلدها يدل على أنها طيبة وبنت حلال ، ولا يمكن أن تؤذيني ، خاصةً أنني سأدفئها وأطعمها وأربيها في بيتي .
وبالفعل ، أخذها لبيته وأوقد بجانبها نارًا تدفئها ، وما كادت تحس بالدفء حتى انقضت عليه ونهشته بأسنانها ، وأفرغت سمها في جسمه ، ففارق الحياة على الفور.
آهٍ يا جدتي .. فأنا الآن أعيش مع الذئب ومع الحية .. وأتوقع الشر منهما في كل لحظة .. ومما يزيد الطين بلة أنني لا أستطيع التخلص منهما .. الذئب الذي عاش عندي فترة ليست بالقصيرة .. ها هو بين الفينة والأخرى يعود إلى طبيعته وينسى صداقتي ، وأنا أخشى أن تأتي اللحظة التي قد يفترسني فيها ، إما بجلطة مميتة ، أو سكتةٍ قلبية ، أو عاهةٍ مستديمة .
أما الحية فرغم كل ما قدمته لها ، فهي تنسى كل ذلك ، وتهاجمني دون وازع من خلق أو دين . وأخشى أن يأتي اليوم الذي تفرغ في جسمي كل سمومها ، فلا أقوم من مقامي .
أجل .. لقد كنتُ ذلك الفتى ، وكنتُ ذلك الفلاح ، ولم أدر بحقيقة وضعي إلا بعد فوات الأوان .. ولكن لي عزاء وحيد .. أنني ما قصرت مع أحد ، وما تعمدت أن أؤذي أحدًا ، فإن خاب ظني في العبد ، فإن ظني بالله ثابت ثبات الجبال الرواسي ، وكلي ثقة بأنه سبحانه سيدخر لي ذلك في الآخرة .. ولولا هذا الشعور لمتُّ كمدًا وحسرة .. اللهم اكتب لنا أجر الصابرين.