قبل بزوغ الفجر , وفي حلكة الظلام الدّامس , تمتمت المرأة المسكينة تحاول مواساة زوجها الذي قضى الليل كله ساهرا مهموما : أخشى عليك أن تموت حزنا وغمّا أكثر ممّا أخاف من هدم البيت فوق رؤوسنا , لن يستطع ابن صاحب الحقل فعل هذا , ورمينا في العراء مع صغارنا وقد قضينا حياتنا في خدمة والده . تكلّم أول مرّة , وكسر بصوت مرتفع صمت الليل الطّويل : يستطيع وسيفعل , لقد عاش مغتربا , وقد أخبروني عن سوء أخلاقه , وغلظته مع عمّال الحقل , طرد الجميع ويريد أن يحوّل المكان كلّه إلى منتجع سياحي . كانت المرأة مشفقة فقط على الرّجل , فقد كان قلقها وهمّها أكبر , وضعت يدها الحانية على أبنائها الصّغار , وقد غطّتهم بلحاف رقيق , وتأمّلت بعينين غائرتين تبلّلهما الدّموع تلك الوجوه البريئة النّائمة التي تنتظر في أي لحظة من يفزعها وينتزعها من عالم الأحلام .
بعيدا عن البيت القصديري حيث قضت الأسرة المهدّدة ليلها , وفي الحقل الشاسع المترامي الأطراف , وفي ساحة خالية نزل الغربان يعقدون محكمتهم , نزل القاضي متأهّبا , ونزل المتّهم الجاني مع حراسة مشدّدة , ووقف الغراب المظلوم حزينا , نكس الغراب المتّهم رأسه وخفض جناحيه , وأمسك عن النّعيق اعترافا بذنبه , ثمّ تكلّم رئيس المحكمة : لقد ارتكب هذا الغراب جريمتين في حقّ هذا الغراب المسكين , لا جريمة واحدة , لقد اغتصب طعام فراخه الصّغار , وهدمّ عشّه , قال القاضي : إنّ لكل جريمة عقوبتها : جريمة اغتصاب الطّعام يُعاقب عليها بنتف ريشه , وجريمة هدم العش يعاقب عليها بإلزامه ببناء عشا جديدا , لذلك سنلزمه الآن ببناء العش الجديد , ثم ننتف ريشه . وهكذا قضى الغراب الجاني النّهار في بناء عشّا جديدا للغراب الضّحيّة وصغاره .
في المساء جاءت قوّة أمنيّة أخرجت المرأة وزوجها وصغارها من البيت القصديري الصّغير , ورمتهم في العراء , ثمّ جاءت قوّة أخرى هدمت البيت , وابتسم الرجل ابن صاحب الحقول , الذي توفي قبل أيّام وجاء هو من الغربة , حيث كان يلاحظ كل شيء من زجاج سيّارته الفاخرة , ثم انطلق تاركا المكان فارغا .
وفي الليل , وفي فراغ وهدوء المكان نزلت الغربان من جديد , عادوا بالغراب الجاني بعدما أتمّ بناء العش الجديد , تجمّع حوله الغربان , ونتقوا ريشه .