كزهر النّارنْــج..
تشرق في دواوينِ البياض.. كسنبلةٍ وضعتْ على تاجها بعضي، واتفقتْ والخريف على ترحيلي إلى أبعد نقطة من خريطة روحك..لأكون بأقصى غيمة..
كيف لي أن أفتح ماتبقى من أغاني الحياة وقد غطاني الياسمين المغلق بالكحل؟ يامن سكنَ ظلي وأبعد عن وجهي المتعب كل أشيائي وأسمائي، لتحلّ بي الأشياءُ والأسماءُ طفلاً، يتعلم أول درس في البكاء....ويوقع على دفتر القلب توقيعاتٍ عامرية..
قبلكَ، كان البحرُ مثلي، يخبئ رماله المبتلّة بي، ويلقي بقصيده بين أطلال الهوى الجريح ليشتدّ عودُ قريحته....وبعدكَ أصبح البحرُ مثلي، لايكتب بمذكراته، غيرَ أسرار الكحل الذي وضعه الوردُ ليلةَ المغيب ..ولايقرأ في صحيفة الصباح، غير تفاصيل السفر وملامح أمي..ويقرأ أشياء أخرى، غير أنها تنكر كلّ شيء بِبريدِ الطّلّ إلاّك..وفي المساء تسألني الأكوان والأشياءُ، وحتى ظلي، عن آخرِ صفحة قرأتها من جريدةِ الألـم الصباحية، فأُخْبِرُها عن صديقتي، وعن جدتي، وذكريات الطفولة وأوراق الشجر وزهرة البنفسج التي سقطتْ مني..أخبرها عن مزرعة العائلة التي لم أزرها قطُّ، وعن احتفالاتِ السنونو بأعياد الجراح، وعن عيون أمي ومااغرورقَ فيها..أخبرها عن أهلي الذين صعدوا المسافاتِ ولم يعودوا..أخبرها عن الجامعة وزواياها التي كتبتْ أحلام الشباب الحبلى ..قبلَ الذبول ..أخبرها عن زمنٍ عامري راقدٍ بأهدابِ "الجميلة النائمة"، بالقلعة نفسها.. المخبّأة في غاباتِ القلب....أخبرها..عن زهرةِ اللوتس وقد كانتْ ترقعني على مهل، كلما غادرتُ مكتبة الشتاء إليــكَ...وبيديّ أربعة كتب، ثلاثتها عن أكبر سلسلة جبلية بالعالم، وأكبر نجمة بخمائل الحلم..وماأحببتُ الجغرافيا يوما..والرابعُ كتابٌ خبأتُه بالأدراج لئلاّ يسألني أستاذي عنه فأغرق فيك.. فكلما فتحتُ صفحة من صفحاته، يفضحني عطـرُك..وتنبتُ على حواشي الكتاب كلماتُكَ بنفسجـا وبحرا ونخيلا ..فيسألني الجميعُ ألاّ أقولكَ شِعــرا.. أخبرها عن موقع لإحدى الجزر التي غطاها الثلج منذ ألف ليل..ولازلتُ لاأعرفها، لأنني لاأسافر إلاّ حين يصير القمرُ قربك بدراً..أخبرها عن ثوبي الجديد الذي فرحتُ به بالأمس، وقد طرَّزَتْهُ رائحةُ البرتقال، واحتفلتُ به على رؤى كل نجمة، لأبدو في عينيكَ أغنيةً لاتغيب...أخبرها عن قصص حكتها لي أمي قبل أن تغادرني، وقد وضعتْ في مزهرية حجرتي تفاصيلها، وعلّقتْ بجدارِ أيامي عنقودا من العنب، لتتساقطَ حباتُه في حديقةِ اللانسيان، وحقيبة فتَحَتها لي قربَ النافذة القريبة من نور القمر، لأدفن فيها كلّ ماتبقى مني وأغلقها، قبل أن أعود إلى المغيب..أخبرها وأخبرها...وقد سكنتَ البحرَ المغرورقَ فيّ .. ففي بساتين بيتنا الريفي، نساءٌ يقطفن الحزن مني خلسة...ويغنين قرب النهر آخر عودة لي منك..وكانت صديقتي تخبرهن بأن الكهفَ المغطى بالشجر الملتف هناك، خلفَ ساقيةِ البيت، لم يكن لي..بل كتبه جدي في وصيته الأخيرة لجراحي وحدها..فهي وحدها من تملك حقَّ الاقتراب..
لكن النسوةَ..وأقولُ النسوة..لم يفهمن قصدَ جدي.. "ففي الصيف ضيّعنَ " الوجع !! .. ولكنني وضعتُ بسفينتي ابتسامةَ آخر يمامة زارتني..!!..وألقيتُ بين عيونهن المندهشة، وهنّ يلقين بعجين أيامي الناضج إلى أطفالهن، سؤالا شاخ قبلي: "لماذا تحبني فصــولُ الحزن حدَّ الولادة؟؟؟ لماذا تحفرني عقاربُ ساعتها على تجاعيدِ المدائـن كلها؟؟؟؟..."
قنديلٌ أنا لكلِّ العابرين إلى أوطانِ الوجـع..شمعةٌ اختزلتْ أحـزانَ النساء ..صمتٌ مُفرَغٌ في كؤوس العذاب ..هكذا أحفـــركَ على جلـدي وطنــاً لايسكنــه إلاّي...