حكاية ولد اسمه ورد
بداية
الإحساس بالنجاح , مع التكريم والحفاوة , لا يعادله إحساس آخر , وهذا التكريم بالذات يختلف عن كل ما سبقه وأهم من كل ما حصل عليه من جوائز وشهادات , على الأقل بالنسبة له . في قاعة السينما , المكان الذي تقام فيه أهم الإحتفالات في هذه البلدية العميقة في جنوب الوطن , أقيمت حفلة تتويج الفنانين وتقديم بطاقة الفنان للبعض منهم , بحضور أهم الشخصيات الثقافية والفنية مع مسؤولين محليين وممثلين عن جمعيات ونشطاء , وبقدوم وفد رفيع المستوى من وزارة الثقافة جلسوا أمام طاولة مستطيلة على المنصة , نادوا على اسمه فتقدّم رشيق الخطوات أنيق الهيئة , على كتفه حقيبة جلدية خفيفة متناسقة مع زيّه , صافح المسؤول الكبير الذّي يقدّم البطاقات والشهادات , وهو شخصيّة وطنيّة معروفة عنده العديد من المؤلفات الهامة حول التعريف بالفنانين المغنيين والموسيقيين الرّواد , ويتم استدعاؤه عادة في التلفزيون الوطني خاصة في البرامج التي تتحدّث عن هؤلاء الفنانين والتّعريف بهم , سلّم له بطاقة الفنان وشهادة من وزارة الثقافة , وقف معه والتقطت لهما العديد من الصور , وأخذ لنفسه صورة طبعا لينشرها في الفيسبوك مع بعض الأسطر التي يتفنن عادة في كتابتها .
في الحفلة كانت تعطى بعض الكلمات لأشخاص يطلبونها , تردّد كثيرا في البوح بشيء آلمه منذ فترة ورأى أنّ الظّرف مناسبا لطرح الموضوع أمام هذه الهيئة الحكومية وهذا الحشد الهام من النخبة , طلب الكلمة وجاء دوره , حمل الميكرفون , وبدأ بمقدّمة بسيطة في تعريف الفن , قال جملة من تأليفه وهي " الفن لغة الجمال " , ثم ذكر تعريفا للفن أعجبه كثيرا حين قرأه في كتاب لمؤلّف من بلدته وهو فنان تشكيلي وكاتب معروف , و أستاذه في التربية الفنية في دراسته الثانوية , وكان حاضرا في الحفل , ذكر اسمه واسم الكتاب وأشاد به , التعريف ملخّص في جملة بليغة عميقة المعنى : الفن ليس نقلا للأشياء الجميلة بل هو نقل جميل للأشياء . ثم أشار إلى مدينته التي تتميّز بالتراث والعراقة , وقال : هي في الحقيقة معرض فني مفتوح , أعجبه أنّ هذه الجملة اقتبسها فيما بعد المسؤول الثقافي الكبير الذي قدّم له البطاقة في كلمته في الحفلة . رغم أنّ هذا الأخير كان يهز رأسه إعجابا بما يقوله ويظهر من حركة يده وملامح وجهه الإهتمام بالكلام , لكن قاطعه طالبا منه الإختصار لأنّ هناك مداخلات أخرى والوقت لا يتّسع للجميع , هنا تحتّم عليه قول كلمته التي أرادها , اختار عمدا عبارة صادمة وقال : لقد تعرّضت لتمييز عنصري , طلب منه المسؤول الإفصاح أكثر , قال : استدعيت للمشاركة في مهرجان دولي خارج الوطن وعطّلوا اخراج جواز السّفر عن قصد لأنّي أنتمي إلى فئة معيّنة في هذا البلد , هزّ المسؤول رأسه ايذانا منه بأنّه فهم الموضوع .
في طريق عودته إلى البيت وكعادته عندما يسرح بخياله من نافذة مركبة النقل , وتصبح المناظر المتتابعة في الطريق وكأنّها ذكريات صور حياته , تتابعت أمام عينيه . لماذا فرح كثيرا بحصوله على بطاقة الفنان ؟ لأنّه لم يعرف عن نفسه منذ عرف الدنيا وعرفته إلاّ أنّه فنانا , ولأنّه تعب كثيرا وعاش في التهميش وحتّى الإحتقار والظلم . هذه البطاقة عنت له كثيرا , أعطاها قيمتها في نفسه بأنّها اعترافا رسميّا به , وأحسّ بكل عمق أنّه يُعتبر الآن فنانا جزائريا , وعرف قيمة هذا اللقب , بكل ما يحمله من ميزة ومن مسؤولية , وعرضت عليه صفحات الذكريات في سجل أيام حياته , صفحة صفحة , أربعون سنة هذه التي عاشها في الحياة , وكأنّه عاش ثلاثة أعمار أو أكثر , كتاب حافل , مهرجان كبير من الصور الملوّنة , منها الفاتح الضاحك , ومنها الداكن الباكي , منها ما عاشه بكل حواسه , ومنها ما حكي له أو حتى تخيّله في أمور كلّها تعنيه , وأجمل ما في الحياة بداية .. بداية .