أحدث المشاركات
صفحة 4 من 8 الأولىالأولى 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 31 إلى 40 من 74

الموضوع: حكاية ولد اسمه ورد - رواية في فصول

  1. #31
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    تغيير

    تغيير السكن العائلي كان في أول أعوام الجامعة , الأم ( خاتم ) تحب دائما السكن في منطقة أكثر حضرية , وطالما طالبت الأب ( الخير ) بشراء أراضي وبناء المساكن الأوسع , وفي أماكن أفضل , وكان الأب ميسور الحال وقادر على ذلك , لكنّه من النّوع الذي لا يميل إلى التغيير في نمط يوميّاته التي يبرمجها على حركات متكرّرة وفي أوقات دقيقة . لكن ضاق السّكن بالعائلة وكبر الأبناء , وأصبح اقتراح الأم أكثر ضرورة . انتقلت العائلة إلى بيت أكبر في حي حضري , قريب من وسط المدينة . ورد وسمير أعجبهما المكان , والحياة صارت أكثر سهولة ومتعة , أصبح لهما الكثير من الأصدقاء , الأم أيضا أعجبها الوضع الجديد , والأب الذي كان قد توقّف عن الشغل بالقصابة عندما أحس بتعب كبير وبوادر مرض ( الباركنسون ) , في السكن الجديد أحس براحة أكبر , حيث المسجد قريب , يذهب إليه في كل الصلوات , ويلتقي مع شيوخ يتبادلون أطراف الحديث , حتى أطفال الحي كانوا مؤدّبين ويصافحونه يُسلّمون عليه في الطريق , ويخرج صباحا يجلس في وسط البلد قرب السوق الذي اشتغل فيه طيلة عمره . فقط الإخوة الثلاثة الكبار بدؤوا يتذمّرون , ألفوا بيتهم في الحي الشعبي والرفاق الكثيرين الذين كانوا يجمعونهم , يقضون معهم أوقات السّمر والسّهر , وتهامسوا بخبث على أمّهم , قالوا أنّها جاءت بهم إلى هذا المسكن فقط لتكون قريبة من أكبر بناتها ( فاطمة ) , وهم مع سوء ظنّهم الدائم بأمّهم يرفضون كل شيء يأتي من جهتها , وكل تغيير .

    ورد الذي كان دائم التأسّف على أنّه لم يحفظ القرآن الكريم في المسجد حين كان طفلا صغيرا , كبقيّة أقرانه , وجد في وضعه الجديد فرصة كبيرة , ففي أول عطلة جامعية في الصّيف , دخل المدرسة القرآنية التابعة للمسجد , ودرّسه شيخ كبير , عالم فقيه له مكانته الكبيرة بين الناس , لاحظ الشيخ ذكاء ورد ومستواه العلمي فاهتم به , وأعطاه برنامجا خاصا به , فحفظ سريعا , وصل إلى ستّة أحزاب خلال فترة شهرين . نشط ورد مع بعض الرّفاق في الحي , الّذين كانوا يهدفون إلى إرشاد وتوعية الشباب , أقاموا الرّحلات الصّغيرة في المناطق السياحية القريبة , وساعدهم ورد كثيرا بمواهبه وذكائه , وهذا يفيد أي إصلاح وتغيير .

    بعد عامين جذع مشترك انتقل إلى دراسة التّخصص الجامعي في العاصمة , بمحض ارادته , وجد معه ثلاثة زملاء من جامعته الأولى , وسمع أنّ ( رنا ) تأسّفت كثيرا لمغادرته , وصاحت مرّة متذمّرة أنّ الجامعة لم يبق فيها شيء وورد قد غادرها , رغم أنّهما لم يلتقيا خارج قاعات الدّراسة ولم يعرفا بعض جيّدا . لم يرها بعد تلك الفترة , وقيل له أنّها رحلت بعد تخرّجها إلى مصر مع أمّها ( لبنى ) وأنّهما يعيشان هناك . في العاصمة تفتّقت مواهبه وازدهرت , وتألّق كثيرا , أصبح عضوا في اللجنة الوطنية للإعلام في النّقابة الطلابية التي ينشط فيها , رسم وخط الإعلانات والكاريكاتور التي طُبعت ووزّعت في كل جامعات الوطن , تحرّك كثيرا ونشط واشتهر , ورسم الجداريات الضّخمة , واحدة لمنصّة حفل كبير في ذكرى الثورة التحريرية , حضره عدد كبير من الوزراء , وبثّته التلفزة الوطنية في نشرة الثامنة الرئيسية . ظهرت جداريته البديعة , وظهر جليّا كل الوزراء الجالسين في الصف الأول مشرئبّة أعناقهم اليها , شغلتهم عن رؤية ما يُقدّم على منصة الحفل , لاحظ الناس ذلك وتكلّموا عنه . كانت الجزائر تعيش مرحلة حاسمة في تاريخها المعاصر وكان ورد في مقدّمة من يصنعون الأحداث , بإبداع هاديء يلطّف حدّة الصراعات القائمة , وربّ سلم يأتي به فن يترافق مع تغيير .

  2. #32
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    صباح

    صباح الخير .. تحية صباحية رقيقة اعتاد ورد أن يسمعها من زميلة جميلة كلّما دخل مدرّج الجامعة صباحا . فتاة بيضاء البشرة مستديرة الوجه , لون شعرها يميل إلى البرتقالي كالنساء السوريّات والتركيّات . يرد التحيّة ويحضر الدّرس ولم يُعرها اهتماما لائقا . لكن ظلّت الفتاة ملتزمة بالتحية الصّباحية طيلة أيّام دراسته في العاصمة . وبعد عامين حين اقتربت نهاية الدّراسة , جاءته حين كان جالسا ينتظر حافلة النقل الجامعي . جلست قريبا جدا منه , تكاد تلتصق به , وتكلّمت معه بخجل , لم يتجاوز موضوع حديثها أن عبّرت عن قلقها وخوفها من مذكّرة التّخرّج وقالت أنّها باتت تراها كالجبل على كاهلها . ابتسم وتبادل معها الحديث الخفيف , ولم تكن الّا رغبة دفينة في الاقتراب منه والتّحدّث معه قبل أن يكمل دراسته , فيذهب ولا تراه في أي صباح .

    فترة الجامعة في العاصمة جاءت في عز ما أسموه لاحقا العشريّة السوداء . سكن الحي الجامعي الذي اعتبروه بؤرة التيّار المتطرّف الذي يغذّي الإرهاب , قاوم بفنّه وهزّ عرش هذا التيّار الذي سيطر على الحي منذ زمن , ساهم برسوماته الكاريكاتورية بفوز النقابة الطلابية في انتخابات لجنة الحي , يُلصق رسوماته وأحدهم ينزعها خلفه قائلا له بوقاحة شديدة : ديموقراطيتك أنّك تُعلّق وديموقراطيتي أنّني أنزع . كان الطلاب يتجمهرون حول رسوماته التي كان يعلّقها في الحملة الانتخابية , وتداول الطّلبة أفكاره السّاخرة فيما بينهم . زار نجما كوميديا شهيرا في بيته في تلك الفترة الصّعبة ودعاه إلى حضور حفلة فوزهم في الانتخابات , واشتهر في الحي أنّهم سيزورهم هذا الفنان الشهير المحبوب . نشط ورد في فترة كان يقٌتل فيها كل من يتحرّك ويمارس حقّه الطبيعي في الحياة , ولم يكن أحد يعرف من يقتل من . قتلوا أحد رفاقه في النقابة وهو ابن بلدته , أطلقو عليه النار في مطاردة بوليسية بالسيارات , وكم تأثّر لرؤية الورد في الطريق يضعونه في الأماكن التي وقعت فيها عمليّات تفجير وسقطت فيها أرواح أعزّاء أبرياء , ينام على صوت التّفجيرات , ويصحو ليذهب إلى دراسته كأنّ شيئا لم يكن , كل صباح .

    عاد بشهادة الليسانس في العلوم الاقتصادية , وكانت العائلة قد انتقلت من جديد إلى بيت آخر , فلم يهنأ بال الإخوة الثلاثة حتى غيّروا المسكن إلى حي قريب من حيّهم الشعبي . اختاروه بحجّة أنّه أوسع , فقد اقتطعوا منه أجزاء بنوا فيها بيوتا مستقلّة وتركوا نصف بيت للعائلة . لكن سبب اختيار هذا البيت كان استراتيجيا دقيقا ويحقق عدّة أهداف . الأخ الأوسط ( اسماعيل ) يُبعدهم عن مراقبته , لأنّه يذهب إلى بيت سيء السمعة في الحي الذي كانوا قد انتقلوا فيه , يمكث مع امرأة ساقطة تعيش مع أمّها , والأخ الأكبر ( أحمد ) يقترب من بيت أصهاره , وتقترب زوجته ( سجيّة ) من أمّها السّاحرة الكبيرة , وهي مع هوايتها في تخريب البيوت الفاضلة لا تقدر على فراق بيتها المخروب أصلا . والهدف الأكبر هو الإنتقام من الأم التي أبعدتهم عن حيّهم ورفاقهم حسب زعمهم , وإبعادها عن أكبر بناتها ( فاطمة ) وعزلها عن الدنيا والناس , فالمسكن الجديد متواجد في حي بعيد , في منطقة منزوية عن المدينة , يلفّها الصّمت القاتل مساء صباح .

  3. #33
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    جمال

    جمال ورد الظاهري والباطني , اعتبره أحد موقوّماته الأساسية في النّجاح . بعد أيّام فقط من تخرّجه ومكوثه في البيت , عرض عليه الأخ الأكبر ( أحمد ) العمل عند صديقه ( جمال ) الذي فتح مكتبا للإعلام الآلي مع مطبعة صغيرة , في حيّهم الشعبي القديم . قال له أنّه كلّمه , ووافق أن تعمل معه . جمال استغل شهرة ورد في الحي وسمعته الطيّبة عند الناس , وذكاءه ومواهبه , مع ذلك وظّفه بأجر زهيد جدّا . كان بخيلا وماكرا , من عائلة معروفة بهذه الأخلاق الوضيعة . يذهب ورد نشطا متأنّقا صباحا وفي فترة الظهيرة , مظهره الجميل ورشاقته , وحسن لباقته لفت اليه الأنظار , وجذب الزبائن . صمّم ورسم , وأنجز المطبوعات . حمل أعباء العمل كلّها على عاتقه , وتعب كثيرا , ومرّت قرابة الثلاثة أشهر ولم يقبض دينارا ولا درهما . ضاق عليه الحال وكلّمه مرّة بخجل عند مغادرته في المساء , وقد طلب مرّة منه أن يعطيه مبلغا بسيطا فقط ليسافر كي يمتحن في شهادة الماجستير ولا يُضيّع الفرصة , لكن رفض أن يعطيه حسدا وغيرة . وبعد أن ضاعت الفرصة ومرّت الأيام جاءه بأوراق نقديّة معدودة , وحين سلّمها له تناثرت وتبعثرت على الأرض , رفض ورد أن يجمعها وغادر المحل المقيت هذا بغير رجعة , وتذكّر قول عمّه ( أبي موسى ) حين أخبره أنّه بدأ يشتغل عنده , كيف انتفض من مكانه وهبّ فيه غاضبا : كيف تعمل عند جمال ؟؟

    بعدها سمع عن أستاذة ثانوية في متقن ليس بعيدا عن مسكنه قد خرجت في عطلة أمومة , ذهب لكي يعمل بدلها خلال فترة عطلتها كمتعاقد . درّس العلوم الإقتصادية والمحاسبة وهو تخصّصه , ووجد أنّ تلاميذه مثله في السن , لا يكبرهم الّا بشهور . أعجبوا التلاميذ بحسن صورة أستاذهم , وهم في فترة عمريّة يهتمّون فيها بجمال المظهر والملبس . وأعجبهم أدبه وحديثه اللبق , وأثنوا أيضا على جمال صوته , وتنافست الفتيات على المقاعد الأمامية التي تقابله , وحمل دفاتره وأقلامه الجميلة . في العام المقبل استدعته الثانوية بسبب شغور منصب حتى بعد عودة الأستاذة . درّس قرابة العامين , اجتهد ونجح , وأثّر في شباب كانوا غير مهتمّين , ويشتهرون بشغبهم . عندما حضّر لهم امتحانات البكالوريا البيضاء جاء بكل الحوليات السّابقة , وفكّر بذكائه الفطري فخرج لهم بامتحانات تكاد تكون مطابقة لما جاءهم لاحقا في شهادة البكالوريا , وطبّق ونجح فعلا في نظريّة التعليم بجمال .

    عمله أثار غيرة الإخوة الكبار الذين فرضوا جوّا بائسا في البيت , وكانوا قد بدؤوا يُطبّقون خطّتهم الإنتقامية على أمّهم التي تحمّلت المسؤولية بعد مرض وتقاعد الأب . عمل ورد أعاد لها الحياة من جديد , وهي دائما تنشط وتستقوي به , وهذا ما يثير غيرتهم وحقدهم . قبل قبض أول أجرة شهريّة جلس معها على كنبة وسط الدار , أخذ ورقة وقلما وقال لها أن تعدّ له كل احتياجاتها في البيت , وكم عظّمت هذه الحركة وفرحت بها , وحكتها بالهاتف لبناتها الكبار , كعادتها في الافتخار به , وهذا ما يثير غيرتهن أيضا ويقارّنه بأبنائهن . ومرّة جاءته وهو متّكيء يشاهد برنامجا في التلفزيون بقلادة ذهبية كبيرة أعجبتها ليراها فقط , وقد عرضتها عليها قريبة لهم تبيع المصوغات في البيوت , فقال لها بكم تبيعها ؟ خذيها . وعندما ربح الأخ الاصغر سمير شهادة البكالوريا أقام له وليمة وذبح شاة , استدعى كل الأقارب والأحباب , حتى الأخت ( أميمة ) السّاكنة في المدينة المجاورة شمالا . كانت البلاد تعيش أحلك فترات الإرهاب وقد خيّم الحزن وندرت الأفراح , لكن إرهاب الإخوة الكبار كان أشد , فقد أشعلو البيت شجارا ليفسدوا الحفل , منع ( أحمد ) صحاب الكاميرا الذي استدعوه , من التّصوير , وبصوت غاضب وسباب دين ورب ( تقدّست أسماؤه ) نادى زوجته وابنه الكبير ليخرجوا من البيت . وكان ورد قد حضّر كل شيء لفرحة هذا الحفل حتّى الديكور والشموع , واشترى قميصا خاصّا باللون الأزرق الجذّاب , لسمير اختاره له بكل ذوق وجمال .

  4. #34
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    توقّف

    توقّف ورد عن مهنة التدريس الثانوي لم يكن بإرادته , لقد استحسنته المؤسسة وأعطاه المدير العلامة الكاملة في تقييم الكفاءة , كما أنّ المهنة أعجبته , واعتبرها ولا يزال من أجمل فترات حياته . لكنّه وجيله واجه أصعب الفترات ومرّت عليهم أسوء الإجراءات الإدارية والقوانين المُحبطة , عندما جاء موعد ترسيمه صدر القانون الذي يشترط الخدمة الوطنية . وكانت الخدمة الوطنيّة هاجسه الذي يخاف منه , مع ميله إلى حياة الحريّة ورفضه القيود ورتابة الرّوتين منذ صغره , كان يشعر بارتخاء وكسل في جسمه , وزاد من تأزّم الأمر أنّه ربط شعوره بالخمول مع إحساسه بضعف غريزته الجنسيّة حسب اعتقاده , رأى أنّه لا يهتم بالجنس , وهذا الخلط مع وحدته وعدم الإفصاح عن أفكاره ومشاعره , عقّد نفسيته . رأى أنّ الخدمة الوطنية مستحيلة بالنسبة له , كبرت هذه الوساوس بعد خروجه من وظيفة التّدريس , أحسّ بفراغ وكان أصعب توقّف .

    بعد فترة , سجّل في مسابقة توظيف نظّمتها شركة الكهرباء والغاز , ذهب متأنّقا موقنا أنّ المظهر يفيده في مثل هذه المسابقات . أجرى الإمتحانات الكتابية , عبارة عن ألعاب رياضية في دفتر كبير تقيس درجة الذّكاء , أعجبته كثيرا وحلّها كلّها حتّى اندهش منه الأستاذ المشرف عن الإمتحان وسأله ان كان أصله من هذه المنطقة , ربّما اعتقد أنّ المستوى يكون متواضعا في مدن الجنوب , أكّد له ورد أنّ أصله من هنا . فاز في هذه المسابقة مع مرشّحين اثنين , كانت على منصب مرموق في الشركة ووظيفة سامية تؤهّله إلى أن يكون مديرا في أحد مراكزها . أدخلوهم الثلاثة الفائزين في منصب إطار مكلّف بالدّراسات , وأعطوهم فترة عام يلفّون فيه على كل مهام الشركة ووظائفها , ووحداتها , على أن يُقدّموا تقريرا في نهاية الدّورة . وبدأ عمله الذي توقّع أن يستقر فيه ويتحسّن وضعه . في أول يوم دخل عليه أخوه ( اسماعيل ) غرفته , وقف وقال له : بدأت العمل في شركة الكهرباء والغاز ؟ ثم انصرف . فرحت الأم بعمله وقد كانت مهمومة من حالة اليأس والملل التي عاشها بعد توقّفه عن التدريس في الثانوية . تعد له الفطور في الصّباح , تجلس تفطر معه , تتحدّث وتسلّي نفسها , فقد قاطعها الأبناء الكبار وفرضوا حصارا في البيت . كم أمّلت في وظيفته الجديدة أن تعيد إليها حياتها ونشاطها , وخاب أملها , لأنّه بعد شهور معدودة تكرّرت مأساته في خروج من عمل , وتوقّف .

    كان يذهب كارها العمل كل صباح , يحس بآلام في بطنه , ينزل كثيرا من حافلة النقل قبل وصوله مقر العمل , ويتقيّأ . انزوى عن العالم الخارجي , عاش كالحاضر الغائب , يكلّمونه في الشغل ولا يسمعهم , يطيل الصّمت ولا يتكلّم أبدا . بدأ العمّال يتغامزون عليه , شعر بالضّيق والإحراج , وأكثر من تعذّره بالعطل المرضيّة . في البيت يمكث ممدّدا منعزلا عن كل شيء , إلى أن كتب استقالته وقدّمها بنفسه إلى مدير الشركة الذي استغرب جدا من هذا التّصرّف . عرف بعد سنوات عديدة أكلت نصف عمره , عند أحد الرّقاة , حين كانت أخته سعاد مغمّضة العينين تصف له ما تُشاهد ولم تكن تعرف شيئا , أنّ خروجه من شركة الكهرباء والغاز سببه سحر دبّره شخصان يعملان في المكتب الذي زاره في دورته الإستطلاعية , أحدهما من أصحاب الصّف الأول في المسجد . خافا على منصبيهما لأنّهما كانا يقومان بسرقات ممنهجة , واتفقا مع متربّصة تعمل معهما في المكتب وضعت سحرا في قطعة حلويّات , قدّمتها له في العمل وأكلها . أمّا اخفاقاته المتكرّرة في العمل والوظائف , والشعور الذي كان موسوسا به بخصوص صحّته الجنسية , سببه سحر وربط عن الزوّاج قامت به سجيّة زوجة الأخ الأكبر أحمد , منذ بلغ سن الثامنة عشر أو قبلها قليلا , ولا زالت في سحرها ومكرها بلا توقّف .

  5. #35
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    انتحار

    انتحار ورد صار وشيكا , والله لطف , وما أعظم وأكثر ألطافه سبحانه وتعالى . الأزمة التي عاشها في وظيفته الجديدة ودفعته إلى تقديم استقالته , والوساوس التي صاحبتها , جعلته يُقدم على زيارة طبيب نفسي , في جلسة أو جلستين لا أكثر , أعطاه بعض الأدوية المهدّئة . وتزامن هذا مع ضغط كبير يعيشه في البيت , حيث فرض الإخوة الكبار جوّا من الحزن والبؤس في البيت . لم يعد يُكلّم أحدا , يقضي وقته وحيدا في غرفته . في ليلة شتويّة بلغ اليأس فيها أوجّه , لم يُفكّر في شيء , أفرغ كل علب الأدوية في كأس ماء , شربه ونام . دخل في غيبوبة ثلاثة أيام في العناية المركّزة , حين أفاق أحس بأصغر اخوته الكبار ( نذير ) يهمس في أذنه : اسمحلي . ووجد أمه جالسة على كرسي بجانبه لم تقم منه منذ دخل المستشفى , قضت الليالي الطوال ساهرة تنتظر استفاقته . جاءته طبيبة تضحك تقول له : ورد انهض لا تتعب وتحيِّر أمك أكثر , والتفتت للأم تقول لها : ابنك جميل واسمه جميل . عندما عاد إلى البيت كلّمه أخوه اسماعيل , طلب منه أن لا يهتم بموضوع العمل , قال له لا تشتغل ان كان هذا يجعلك تفعل هكذا بنفسك , وكان كثيرا ما يحاول أن يقنعه أنّ العمل ليس مهمّا وليس أمرا جيّدا أن يعمل , وظل يعيد عليه هذه العبارات حتى أدخلها ذهنه , وفعلا عاش بعدها ورد لسنوات يجنح إلى البطالة ولا يهمّه أمر الشغل . لم تمر هذه الحادثة في صمت رغم تكتّم العائلة الشّديد , وشاع في البلد وتكلّم الناس أنّ ورد قد أقدم على محاولة انتحار .

    أقنعت الأم كل من سألها بفضول أنّ ورد شرب دواء الضرس , وكان فعلا يستعمله في تلك الأيام , ومعروف أنّ هذا الدواء يسبّب حالات الإغماء . بدأ يعيش ورد في تيه وغربة , لم تعد أيّامه مليئة بالبهجة والأصحاب . يخرج صباحا يمشي في طرقات البلد وحيدا بلا مقصد ولا غاية , والدنيا تعج بالحركة , الطلاب في مدارسهم والعمال في أشغالهم , وضاعت أهدافه وطموحاته في محيط الفراغ . كان في بداية انتقالهم إلى المسكن الجديد , اعتكف على إنجاز قصة للأطفال بالشريط المرسوم , أسماها " زهرة الحياة " وقصد هذا العنوان في وقت كان الإرهاب يصنع الموت في يوميّات النّاس . القصة بديعة الرسم والألوان , فكّر في طباعتها , لف بها مطابع البلد ولم يجد تشجيعا ولا تجاوبا , المطابع تمتلكها طائفة عنصرية , تعجبهم قصته لكن يخشون من نجاحه ويُعجِزونه بطلب مبالغ ضخمة . لم يتوقّف وأنجز قصّة أخرى بعنوان " سلّة الفرولة " , بنفس الشخصيات , وأرادها أن تكون سلسلة , لكنه توقّف عندما واجهته صعوبة الطبع والنشر , ولم يكمل ما كان يحلم به ويطمح اليه . ماتت فيه تلك الحماسة والنشاط , واستسلم للتيه والفراغ , وهذا بالنسبة للمبدع بعض انتحار .

    عرض القصتين في قاعة عرض كبيرة في وسط المدينة , في مناسبة وطنية استدعوه إلى المشاركة فيها , زارها وفد من السلطات المحلية رفيع المستوى . تقدّم اليه رجل ببدلة رسمية , سأله عن القصتين وقد انبهر بهما , ثم سأله ماذا يفعل الآن بالنسبة للشغل أو الدراسة , أجابه : لا شيء . عرض عليه أن يأتي يشتغل عنده في الإدارة المحليّة التي يرأس أحد مكاتبها , شغل فقط في الشبكة الإجتماعية , النظام الذي يساعد البطالين بتشغيلهم في الإدارات العمومية ومنحهم مبلغا رمزيا , مع مساعدته في طبع قصّته . لم يكن أمام ورد أي اختيار , ودخل يشتغل في مكتبه , في هذه الإدارة . علّق هذا المسؤول أوراق قصّة على باب مكتبه الخارجي يراها كل من يدخل ويخرج , منبهرا ومفتونا بجمال الرسومات والألوان , وأخذ القصّة الأخرى , قال أنّه أرسلها إلى العاصمة ليطبعها . لم يكن يشتغل ورد شيئا الّا أنّه يجلس على كرسي في المكتب , ويأتيه المسؤول كل مرة يطلب منه أن يرسم له شيئا لمصلحة معيّنة , كأن يرسم ( كاريكاتور ) عن النظافة , يعلّقها كي يراها العمال والموظفون فيلتزمون بنظافة مكاتبهم , ويمن عليه دائما أنّ عليه أن يحمد الله أنّ مسؤوله فنانا , وهو مجرد صعلوك جاء من إحدى مدن الشرق , يسهر مع أصحابه بآلات الموسيقى , مع خمر وحشيش , وقد خرج من السجن بعد تورّطه في فساد وسرقات , فجاء هاربا إلى الجنوب يختبيء فيه . في كل مرّة يسأله فيها ورد عن قصّته ومصيرها يجيبه بأجوبة لا قيمة ولا معنى لها , حتّى أحسّ أنّ هناك تماطلا مقصودا في الأمر , فذهب اليه مرة يسأله بحزم أن يخبره عن أخبار قصّته أو يرجعها له , فقابله بغضب وطرده من مكتبه , وانتحر مشروعه في مهده , ابداعاته ورسوماته الملوّنة آلت بدورها إلى انتحار .

  6. #36
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    واحة

    واحة الأم ( خاتم ) .. ورد , تستظل في أفياء فنّه وخياله , بعدما قست عليها الحياة , وحوّلها الأبناء الكبار إلى صحراء قاحلة . تجلس بجانبه حين يكون منهمكا في رسم أو كتابة , تؤنسه وتحدّثه , وتبقى معه إلى آخر ساعة في الليل . لم تتذمّر من بطالته التي طال أمدها واخفاقاته المتكرّرة في ميادين الشغل والوظيفة , لكنّها خافت عليه وعلى مستقبله , أحبّته كثيرا , وصرّحت في أكثر من مرّة أنّه أحب الأبناء اليها , وهو أيضا شديد التّعلّق بها , وحتى دون أن تصرّح كل القريبين منها يدركون ذلك . تحكي لصديقاتها في الأعراس عنه وتضحكهن من مغامراته ومواقفه الطّريفة . يميل ورد إلى الهوايات الفنيّة ويتطلّع إلى ماهو جديد , يُبدع ويملأ فراغ وقته , قرأ مرّة في مجلّة نسويّة جزائريّة حوارا مطوّلا مع مصمّمة أزياء تستعمل الرّسم على الحرير , أعجبه هذا الفن وأراد أن يعرفه أكثر . أخذ عنوان هذه المصمّمة من المجلّة , رسمها بقلم الرّصاص وأهداها هذا البورتريه مع الرّسالة التي سألها فيها أن تعرّفه بهذه التقنية وضمّنها رقم هاتف البيت , وأرسلها بالبريد . ردّت السّيّدة على رسالته , كتبت له المواد التي يستعملها وأرشدته إلى الطّريقة , ثم كلّمته بالهاتف , هي من العاصمة وكانت أيّام كارثة فيضان وزلزال باب الواد , فكانت تضحك في الهاتف فرحا ودهشة , كونها نجت وكردّة فعل عن صدمتها . رسم ورد بهذه التقنية , الكثير من فساتين الأعراس التي تخيطها الأم , ورسم مخدّات الأرائك واللوحات الفنية للديكور , شارك في عرض المهرجان الرّبيعي للحرف والصّناعات التقليدية , انبهر النّاس بهذا الفن الجديد , والسوّاح من مدن الشمال , الذين يجدون ما يعرفونه في الساحل وأكثر , في واحة .

    " واحة " جريدة محليّة , هي الرّائدة في الجنوب , ذهب اليها ورد , قابل رئيسها عارضا عليه ابداعاته الأدبية والفنيّة , وما نشرته له الصحف الوطنية . أعجِب به و طلب منه أن يعمل في الجريدة , مشرفا على الصفحة الأدبية . اشتغل ورد بدوام , يأتي في الفترة الصّباحية والمسائية . أشرف على عمله , يقرأ الرّسائل الواردة , يختار منها المواضيع الأدبية الصّالحة للنشر , ويرد على الرسائل الأخرى في ركن بريد القراء , يعبّر برسومات ترافق الأشعار أو الخواطر المنشورة , ويكتب عمودا لتشجيع المواهب أسماه " نقطة البداية " , عمود مختصر ومركّز بتعابير أدبية جميلة مع كم من المعلومات , ويختمه كل مرّة بعبارة نقطة بداية . أبدع في تصميم الصّفحة ومحتواها أيّما إبداع , ولاقت نجاحا كبيرا , قيل له كثيرا أنّنا نشتري الجريدة من أجل صفحتك , ومرة كان في مخيّم صيفي جاء بعض المتخيّمين في الجوار يسألون عن ورد صاحب الصفحة الأدبية , عرف أنّ له جمهورا ومتابعين . صاحب الجريدة يكتب عموده نقلا ( نسخ ولصق ) من أعمدة المجلات التي تصله من المشرق والخليج , ينزع فقط اسم صاحبها ويكتب اسمه . بدأ يكلّفه بكل الأشغال , يصّور ويغطّي الأحداث ويسافر , ويحرّر . صوّر مرّة وزيرة السياحة الفرنسية كانت في زيارة للواحة , لمّا رأته يريد تصويرها وقفت في وضعيّة جيّدة وابتسمت مازحة معه , وتعجّب حينها من بساطتهم وسهولة التعامل , فلو طلب تصوير رئيس بلديّته أو رئيس لجنة حيّه لردّه ورفض تصويره . اكتشف مرّة أنّه كتب وحده أكثر من تسعين في المائة من هذا العدد , اشتغل هكذا لعدّة سنوات ولم يقبض منه دينارا واحدا , رغم التّلميحات الجارحة التي يسمعها من إخوته الكبار في البيت , خاصّة من ( نذير ) الذي يندفع دائما في كلامه وحركاته , فهويجمع بين الغباء والتّهوّر . تعلّم كثيرا من هذه التّجربة , أخذ خبرة جيّدة وتعرّف عليه النّاس , وهذا ما استفاده من جريدة " واحة " .

  7. #37
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    ( سبع صنايع والبخت ضايع)
    هذا المثل ينطبق على ورد بكل المعايير
    الغيرة والحسد والمكر شكلا علامة مميزة في حياته والمؤسف إنه
    من أقرب الناس إليه .. ليعيد للإذهان قصة أخوة يوسف عليه السلام
    وترسم القصة خطا موازيا في تسجيل الأحداث السياسية المؤلمة التي مرت بها الجزائر
    لتعرفنا عليها بصورة عرضية من خلال أحداث القصة
    مستمتعة بما أقرأ ـ وبكل الاهتمام متابعة معك
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #38
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    شكرا جزيلا الأستاذة نادية محمد الجابي , متابعتك واهتمامك شرف كبير لي , وتعليقك يهمني جدا ويوجّهني بارك الله فيك , خالص تحياتي وتقديري

  9. #39
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    أسماء

    أسماء المواليد الجدد عند الإخوة والأخوات توكل مسؤوليّتها إلى ورد , عنده ذوق خاص بالأسماء , واستمرّت العادة حتى بالنّسبة لمواليد أبنائهم , وستبقى إلى أبناء أبنائهم وهكذا , وليتهم قدّروا أو وفّوا . يأتونه يختار لهم اسما وكأنّهم هم من يُقدّمون له خدمة , وخدمة كبيرة أيضا . هم في الأساس يريدنه هكذا , يتبرّكون به , وليس له الحق في تكوين أسرة وتسمية أبنائه . مع مسيرة ورد في حياته تسمّى باسمه الكثير من المواليد , من المعارف , وممّن التقى بهم مرّة واحدة فقط , أعجبهم اسمه وشخصيّته , عدّهم مرّة وجدهم فوق العشرين شخصا . مع انطلاق بث الإذاعة المحليّة , تقدّم ورد إليها , وجد مدير الإنتاج يعرفه من خلال كتاباته في جريدة " واحة " وقد كان قارئا معجبا ووفيّا . فكّر ورد في برنامج يقدّمه في الإذاعة . وصل إلى فكرة طريفة , وهي برنامج أسبوعي ثقافي ترفيهي يتعلّق بعالم الأسماء الجميل , اختار له عنوان " عاشت الأسامي " . فسحة اذاعية فيها الكثير من الفقرات المتنوّعة , الإسم في تراثنا , أحاديث نبويّة عن الأسماء , وما أكثرها , واهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم باختيار الأسماء الحسنة , طرائف الأسماء , أسماء أشخاص , أماكن , أشياء , ومعانيها , وفي آخر الحلقة يختار أغنية تُذكر فيها كلمة اسم , أو أسماء .

    تسجيل أول حلقة من البرنامج في الإذاعة , ممتع للغاية . صوت جميل , يتكلّم بعذوبة وفصاحة , انتقل بين الفقرات والموسيقى كأنّه محترف ذو خبرة وتجربة . أول حلقة بثّتها الإذاعة لاقت استحسان الناس وإعجابهم . وصلته رسائل عديدة تشكره وتحيّيه , رسالة مطوّله لفتت انتباهه مكتوبة بخط جميل وتعبير جيّد , قال صاحبها أنّه استمع إلى كثير من البرامج قديما وحديثا , في الوطن وخارجه , ولم يجد برنامجا أروع من هذا , في فكرته وتقديمه , ومضمونه الثري بالمعلومات , وأسلوبه الفني الجميل . في الإحتفال السنوي بذكرى تأسيس الإذاعة علّقوا لوحة كبيرة , كُتبت فيها كل البرامج التي تبثّها الإذاعة مرتّبة حسب عدد الرّسائل التي تصلها من الجمهور , وهذا لقياس درجة تفاعل سكان المنطقة مع إذاعتهم الجديدة , وحاز برنامج " عاشت الأسامي " المرتبة الأولى , سبقه فقط برنامج التحيّات والإهداءات اليومي . ككل فكرة تبدأ بسيطة ثم تتطوّر وتكبر , أصبحت فسحة ورد الإذاعية فيها كل أنواع الإعلام , يستضيف شخصيّة يحاورها , يسأل الناس في الشارع , ويرد على المكالمات على المباشر . تعب كثيرا , الحلقة التي لا تتجاوز أربعين دقيقة عادة ما يُحضّرها في أسبوع كامل , ولم يقبض أجرا رغم عمله الرّسمي كمنتج ومتعاون , الّا مرّة واحدة جمعوا له الكثير من الحلقات . بقي صامدا بضع سنوات ولم يستطع الإستمرار , رغم اعجاب الناس , واعجاب ادارة الإذاعة الذين أثنوا عليه كثيرا حتى في غيبته , على انضباطه ونشاطه في الشغل , ورغم اعجابه هو بعمله في الإذاعة , حيث يخرج بعد تسجيل كل حلقة طائرا محلّقا بجناحي السّعادة . لكن التّعب الكبير بلا مقابل , لا تشفع له جاذبية اذاعة , ولا جمال أسماء .

  10. #40
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Oct 2016
    المشاركات : 594
    المواضيع : 97
    الردود : 594
    المعدل اليومي : 0.22

    افتراضي

    فراغ

    فراغ الوقت من شغل وظيفة معيّنة , عند شاب متعدّد المواهب والاهتمامات , يفتح المجال واسعا لكل شيء . اهتم ورد منذ صغره ببعض الهوايات الجميلة , كجمع الطوابع البريدية والعملات القديمة , وجمع الكثير . دخل أيضا مجال التعارف والمراسلة , حين بدأ يتابع بعض المجلات الشبابية , وتبادل الرّسائل مع شباب عرب . تعرّف على شاب سوري رئيس نادي المراسلة , توطّدت العلاقة بينهما أكثر حين صار يتكلّم معه بالهاتف , قبل الحرب , وانقطع الاتصال بينهما ثم التقيا في لقاء عجيب على شبكات التواصل الإجتماعي . تزوّج أصغر الإخوة الكبار ( نذير ) من ( الزهرة ) صديقة الأخت ( مريم ) وسكن في الجزء الذي اقتطعه من بيت العائلة . صوّر ورد العرس بالفيديو , وتفنّن في تصويره ومونتاجه , حتّى قالوا ( الحمد لله أنّ الكاميرا بيد ورد ) . وفي ليلة تتويج العريس ربط الكاميرا بالتلفزيون لتشاهد النساء وقائع التتويج على المباشر , وكم أعجبتهن هذه الحركة . وصوّر فيديو خاص لأول مولود لابنة اخته الكبيرة ( بركة ) , بدأه في غرفتها في المستشفى , حتى وصولها إلى البيت , وصوّر أخواتها يحضّرن الحلويات في المطبخ , صوّر حتى الإهداء الذي أرسله إلى الإذاعة , حين بثّته الإذاعة وهم يستمعون إليه في وسط الدار . ابنة الأخت التي أهداها في عرسها الكثير من الهدايا الثمينة التي اختارها بذوق وفن , وأختها التي كان يقدّم لها الهدايا وهي طفلة صغيرة , وأسعدهن عندما كبرن , حيث يحدّثهن في الثقافة والحياة ويفتح مخيّلتهن إلى كل ما هو جديد و جميل . لم يكن يعلم أنّ ما قدّمه من ورد سيحصده أشواكا , وسيندم على كل ما بذله من جهد بلا جدوى , وما ملأه من فراغ .

    كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إذا كان الشغل مجهدة فإنّ الفراغ مفسدة " , تمر أحلى أيام العمر وتتناثر الأوراق الخضراء من الدّوحة المعطاء , التي قدرها أنّها موجودة وقت الخريف وفي الصّحراء . التقى بصديقه ( زكريا ) من جديد , وصار يقضي معه أغلب أوقاته . أول ما فتحت مقاهي الأنترنت سكنها مع صديقه صباح مساء , يعود منها حتى ساعات الصباح الأولى . بدأ بالدردشات ثم المنتديات . سجّل في منتدى أدبي كبير , وتعلّم كتابة الشعر الموزون , بتفعيلاته السليمة والبحور , وشارك في منتدى عالمي أسّسه بعض الشباب العربي , أبدع بمشاركاته الفنيّة وكتاباته , حتى عيّنوه مسؤول الركن الفني فيه . في البيت لم يستطع أن يُقدّم شيئا للأم التي أثقلت كاهلها المسؤوليات , والأب أتعبه مرض ( الباركنسون ) , لزم الفراش , ولا يتحرّك الّا بمساعدة . تفرّغت الأم للإعتناء به , ويقاطعها أبناؤها الكبار بلا رحمة . في الوقت الذي تتناول فيه العجائن في وجبة الغذاء يوميّا , تبعث أم ( العالية ) صاحبة ( اسماعيل ) رسائل على الهاتف تطلب منه أن يأتيها بنوع معيّن من الشوكلاطة والتفاح الأصفر . يتكلّم معها ( عالية ) بالهاتف بصوت مرتفع , وينام البيت على صوته وهما يتحدّثان إلى وقت متأخّر من الليل , كلام فاحش وأحيانا خصومات وسباب , يسمعه ورد في غرفته مع سمير , تسمعه الأم , ويسمعه الأب . هؤلاء الابناء الذين تربّوا مدلّلين , أعطوهم الحرية الكاملة وأعطوهم كل شيء , هذا ما يفعلوه الآن , ولا شيء يأتي من فراغ .

صفحة 4 من 8 الأولىالأولى 12345678 الأخيرةالأخيرة