تغيير
تغيير السكن العائلي كان في أول أعوام الجامعة , الأم ( خاتم ) تحب دائما السكن في منطقة أكثر حضرية , وطالما طالبت الأب ( الخير ) بشراء أراضي وبناء المساكن الأوسع , وفي أماكن أفضل , وكان الأب ميسور الحال وقادر على ذلك , لكنّه من النّوع الذي لا يميل إلى التغيير في نمط يوميّاته التي يبرمجها على حركات متكرّرة وفي أوقات دقيقة . لكن ضاق السّكن بالعائلة وكبر الأبناء , وأصبح اقتراح الأم أكثر ضرورة . انتقلت العائلة إلى بيت أكبر في حي حضري , قريب من وسط المدينة . ورد وسمير أعجبهما المكان , والحياة صارت أكثر سهولة ومتعة , أصبح لهما الكثير من الأصدقاء , الأم أيضا أعجبها الوضع الجديد , والأب الذي كان قد توقّف عن الشغل بالقصابة عندما أحس بتعب كبير وبوادر مرض ( الباركنسون ) , في السكن الجديد أحس براحة أكبر , حيث المسجد قريب , يذهب إليه في كل الصلوات , ويلتقي مع شيوخ يتبادلون أطراف الحديث , حتى أطفال الحي كانوا مؤدّبين ويصافحونه يُسلّمون عليه في الطريق , ويخرج صباحا يجلس في وسط البلد قرب السوق الذي اشتغل فيه طيلة عمره . فقط الإخوة الثلاثة الكبار بدؤوا يتذمّرون , ألفوا بيتهم في الحي الشعبي والرفاق الكثيرين الذين كانوا يجمعونهم , يقضون معهم أوقات السّمر والسّهر , وتهامسوا بخبث على أمّهم , قالوا أنّها جاءت بهم إلى هذا المسكن فقط لتكون قريبة من أكبر بناتها ( فاطمة ) , وهم مع سوء ظنّهم الدائم بأمّهم يرفضون كل شيء يأتي من جهتها , وكل تغيير .
ورد الذي كان دائم التأسّف على أنّه لم يحفظ القرآن الكريم في المسجد حين كان طفلا صغيرا , كبقيّة أقرانه , وجد في وضعه الجديد فرصة كبيرة , ففي أول عطلة جامعية في الصّيف , دخل المدرسة القرآنية التابعة للمسجد , ودرّسه شيخ كبير , عالم فقيه له مكانته الكبيرة بين الناس , لاحظ الشيخ ذكاء ورد ومستواه العلمي فاهتم به , وأعطاه برنامجا خاصا به , فحفظ سريعا , وصل إلى ستّة أحزاب خلال فترة شهرين . نشط ورد مع بعض الرّفاق في الحي , الّذين كانوا يهدفون إلى إرشاد وتوعية الشباب , أقاموا الرّحلات الصّغيرة في المناطق السياحية القريبة , وساعدهم ورد كثيرا بمواهبه وذكائه , وهذا يفيد أي إصلاح وتغيير .
بعد عامين جذع مشترك انتقل إلى دراسة التّخصص الجامعي في العاصمة , بمحض ارادته , وجد معه ثلاثة زملاء من جامعته الأولى , وسمع أنّ ( رنا ) تأسّفت كثيرا لمغادرته , وصاحت مرّة متذمّرة أنّ الجامعة لم يبق فيها شيء وورد قد غادرها , رغم أنّهما لم يلتقيا خارج قاعات الدّراسة ولم يعرفا بعض جيّدا . لم يرها بعد تلك الفترة , وقيل له أنّها رحلت بعد تخرّجها إلى مصر مع أمّها ( لبنى ) وأنّهما يعيشان هناك . في العاصمة تفتّقت مواهبه وازدهرت , وتألّق كثيرا , أصبح عضوا في اللجنة الوطنية للإعلام في النّقابة الطلابية التي ينشط فيها , رسم وخط الإعلانات والكاريكاتور التي طُبعت ووزّعت في كل جامعات الوطن , تحرّك كثيرا ونشط واشتهر , ورسم الجداريات الضّخمة , واحدة لمنصّة حفل كبير في ذكرى الثورة التحريرية , حضره عدد كبير من الوزراء , وبثّته التلفزة الوطنية في نشرة الثامنة الرئيسية . ظهرت جداريته البديعة , وظهر جليّا كل الوزراء الجالسين في الصف الأول مشرئبّة أعناقهم اليها , شغلتهم عن رؤية ما يُقدّم على منصة الحفل , لاحظ الناس ذلك وتكلّموا عنه . كانت الجزائر تعيش مرحلة حاسمة في تاريخها المعاصر وكان ورد في مقدّمة من يصنعون الأحداث , بإبداع هاديء يلطّف حدّة الصراعات القائمة , وربّ سلم يأتي به فن يترافق مع تغيير .