شبكة «فيسبوك» وأخواته لم تعد الآن مجرد مواقع تواصل تتسم بصفة تأثير شخصية ومحدودة، بل صارت ذات تأثير وحضور قوي بميادين الفكر والتربية والسياسة والإعلام، وذات توسع شمولي لجميع الآراء البارزة، بل صار كنفًا تأوي إليه أصوات من لا صوت لهم، ومحط اهتمام بالغ لنشر الأفكار والرؤى والتوجهات بشتى تباينها واختلافاتها، بل تعدت هذه المواقع نطاقها (الافتراضي) إلى التأثير في مجريات الواقع وملابساته، والمساهمة في عدة تغيرات شهدتها الساحة العربية وغيرها. وهو أمر مشاهد لم يعد باستطاعة أحد إنكاره.
لكن ومع كل هذا الزخم الملموس والمكانة التي اكتسبتها في مختلف الأوساط، لم ترق بها بعد مجهوداتنا إلى حيث المفروض أن يبلغ تأثيرها بالوسط العربي. فما نشاهده من تشرذم في تلك الشبكات الاجتماعية صار مما يزيد هوة الاختلاف الموجودة عمقا، بل يقيم حواجز جديدة من التحزب والتكتل والتنابز والحرب الضروس، سواء على المستوى الشخصي أو الجماعي أو على مستوى المبادئ والعقائد والانتماءات ونحو ذلك. وغاب في ظل ذاك الصراع المحموم استثمارها لأن تكون حلقة وصل لتلاقح الأفكار وتقاربها، ولبنة لتوسيع بناء الرؤى والانفتاح الفكري.
وكل ذلك وغيره من هذه الأدواء المتنوعة التي قد تلاصق من يلتحق بركبها وتُعديه، إلا من رحم ما هي برأيي إلا نتيجة حتمية لركوب هذا المستجد، بلا تأصيل يؤسس للانطلاق فيه فكرًا ووعيًا وتربية، وتجليًا لغياب التحلي بسوار الحماية منه، من حيث بناء الهدف المرجو تحقيقه والثمرة المستهدف قطفها من الخوض في غماره، فباتت وللأسف أو كادت مجرد آلية لزيادة حجم التطبيل وتعميق هوة التفريق، ودوامة للتهافت على المتهافت المتهالك، وضاع في خضم ذلك الفكر الهادف الجميل بجميع تجلياته. فصار لزامًا على المثقف العربي التفاعل وبحكمة مع هذا الوضع الذي فرض نفسه، والسعي بجد لتأسيس وبث وعي ناضج يدرك مواطن الجودة ومكامنها ويستفيد منها.
وها هنا تكمن إشكالية أخرى تبسط غيومها الكالحة على الجميع. أين ذاك المثقف؟ أين المثقف الذي يشيد البناء الفكري ويبث الوعي ببصيرة وحكمة؟
فإشكالية المثقفين من غياب دورهم وانحسار تأثيرهم الإيجابي عن محيطهم شملت الواقع (الافتراضي) كما شملت قبله واقعهم المباشر، بل نخشى أنهم باتوا جزءًا فاعلًا أو مساهمًا في توسيع هذا التشرذم، ومعول هدم لكل حس جميل وفكر نبيل، وما ذاك إلا من تجليات المحضن الذي تبلورت من خلاله تكويناتهم، فتأثرت به صياغة كيانهم ورؤيتهم، فبدلًا عن أن يكون الفكر منهم مؤثرًا في واقعهم صار تابعًا وخادمًا له، يبث عجره وبجره بيننا. فنرى الغالبية منهم إنما يعكسون في أعمالهم المختلفة مجتمعاتهم بصحيحها وسقيمها وغثها وسمينها، دونما تنوير وتصحيح، فيطبعون الفساد المستشري بعقول عامة رواد وضحايا تلك المواقع للأسف.
فلا زلنا نفتقد المثقف المؤثر الذي يضع بصمة التغيير راسخة ويدير عجلة الحياة نحو التقدم. فهو غريب بيننا عزيز الوجود. قد تاهت به دروب الحياة والتمسك بإغراءاتها والزحف خلف سفاسفها. فاقدًا لبوصلة أهدافه عريًا من الغايات السامية.
لذا يجب على المثقفين بتنوع مجالاتهم أن يؤمنوا وبجدية بخطورة دورهم، وصدق المحك الذي هم فيه. فتكون حياتهم وقلمهم وتحركهم رسالة يؤدونها، وليست مجرد ترف فكري، وحصدًا للإعجاب هنا، والشهرة هناك. أو إرضاء لهذا وابتغاء الوسيلة لذاك. فإذا ما آمنوا بأهمية دورهم وما أنيط بهم من مسؤوليات تجاه محيطهم فستكون تلك أول خطوة في بناء إحساسهم بما تخلل واقعهم من سلوكيات فجة، وأذواق منحطة وأمراض فكرية وعملية قاتلة شذت بالناس عن سبيل الجادة، وستصير خطوة ثابتة في تشييد إدراك بصير من أجل تحصيل ما يساهم في إصلاح ذلك والرقي به من متطلبات. وعندها لن يقف في سيرورة البناء الحقيقي للذات على كل المستويات شيء. وسيكون هذا الأزرق وأخواته لبنة في صرح التغيير ومشعلًا من مشاعل التنوير. لا مضيعة للوقت وهدمًا. وساحة لتحريك المعارك الفاشلة.
فهل هو حلم عابر بليلة موحشة أم أن تحقيقه وارد مع صعوبة مناله؟