أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: أي بُنيّ 5...

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي أي بُنيّ 5...


    لعلّك مازلتَ تسمعني على ما في كلامي من المَلالة، والحقّ أنّ السُّيوف _على متانتها_ تضعف منَ الكَلالة، وكما أنّ قوّةَ البديهة وحضورَها قدرةٌ روحانيّة، فالغفلة وتراخي الذّهن كلاهما جِبِلّة بشريّة، فاصبرَنّ على هذا الكلام، ولا تُكثر الشّكوى والمَلام، فقد يأتي عليك حينٌ من الدّهر لن يستأنس بوجودك من العوامّ إلا مستدقُّ الكائنات من خَشاش الأرض والهوامّ...
    وبعد، فقد رأيتُكَ تفزع من هول ما تراه في يومك، ولبثتَ تعي في ثوان ما لم تُعلّمه إيّاك السِّنون في صحائف كُتبك، لتتيقّن أنّ الأخذ عن خبرة وتجربهْ خير من العكوف سواد الليالي وبياض النُّهُرِ في ألف مكتبَهْ؛ وإذا قال راجِزُنا الأوّل : " ما العلمُ إلاّ ما وعاهُ الصّدرُ "، فإنّنا _ على ما في كلامه من سلامة المعنى _ نقول : ماذا يُغني المرءَ امتلاكُه جنانا صلباً ومعرفةً بأدقّ شؤون الحرب ولم تجتمع أصابع كفّه على مقبض سيفٍ قطُّ ؟ وماذا تغني المرء قراءة مجلّدات في علم السّباحة إذا كانت فرائصه ترتعد في ضَحْضاحٍ من ماء ؟
    إنّ الحياة يا بنيّ ستفتح عينيك غداً أمام حقيقة لا لُبس فيها، ظاهرُها كباطنها وليلها كنهارها، مفادها أنّ مِلاكَ أمرٍ ما إنّما يتأتّى بحجم ما تنفقه من أجله جهداً وعرقاً وتمريناً، ولا ينقاد لك الشيء إلاّ إذا انغمستَ فيه روحا وعقلا، حتّى إذا أحسستَ بغلبةٍ عليه وقدرة على إحكام مَقادته، آنئذ يمكنك الاطمئنان على أمرك معه، فإن أردتَ خَفْضه خفضت، وإن شئتَ رفْعه رفعت، وإن اشتهيتَ تثبيته ثَبَّتت؛ وليكن حالك جُملةً كحال مُتعهّد أحصنة، فإذا لم يأنَس الحصانُ من راكِبِهِ قوّةً في إحكام اللّجام وخفّةَ حركةٍ، جَمَحَ ونفَرَ من طبعه وألقى بالرّاكب أرضاً ! فكذاك كلّ أمر أردت مزاولته ، فإمّا أن تقتُله خبرة وعلماً أو يقتلك سذاجة وجهلاً، ولا أرى لك منزلةً بين المَنزِلتين...
    يا بنيّ، دونَك أصحاب الصّنائع وما أوجدت أكفُّهم وسواعدهم من بدائع، سَلْهُم يُجيبوك كيف تمّ لهم ذلك، أوَحْيٌ من السّماء جاءهم وهم راقدون، فأصبحوا في طرفة عينٍ مُنْشِئين مَكينين، أم أنّ لهؤلاء قوّة إرادةٍ في قضاء الوقت في التّمَهُّر واكتساب الخبرة مع افتراض تكرار الخطأ وتجاوزه وإعادة السقوط والنهوض ؟ سلهم يا بنيّ كيف يكون البنّاء بنّاءً والخزفيّ خزفيّاً والنّجّار نجّاراً والجصّاص جصّاصاً والكاتبُ كاتباً والفارسُ فارساً ؟ بذهنٍ وَقّادٍ ويقظةٍ حاضرة وسواعد إلى العمل الدؤوب مُسْرِعهْ، أم بتكرار " أنا الذي..." السبيكة الصّوتيّة المعروفة، وملء الدّنيا كالأطفال بالصّياح والجعجعهْ ؟
    وبعد، فإذا كان المقال يَضَحُ بالمثال، فإننا نذكّرك بإرنِست رِينان أكبر أساتيذ الأدب في عصره، الذي تقدّم للانتخابات، متعوّداً مخاطبة الجماهير المثقّفة، فلمّا واجه سواد الشّعب غابَ وجهُ الصّواب لديه والتبس عليه الأمر، ناسياً أنّ التمرّس على مخاطبة العامّة من النّاس بقدر عقولهم وحاجاتهم أسبق من التّرشح منتخَباً، غافلاً أنّ السّياسة محضُ لسانٍ ذَلِقٍ ومكرٍ ودهاء، وافتح كتاب مثالب الوزيرين واستزد، وقد صدق الأوّل منشداً :
    وقد يَقرضُ الشّعرَ البكيءُ لسانهُ // وتُعيي القوافي المرءَ وهْوَ لبيبُ
    فلو سأل رينانُ السّياسيَّ المحنّك كيف يغيّبُ وعي الجمهور لأعطاه أسرار معجزته ! كذلك كان أبو الطّيّب المتنبّي الذي تغنّى بالسّيف وبالفروسيّة وبساحات الحرب والبطولات، ولكنّه تغنٍّ وقعقعةُ لسانٍ وقوافٍ لا بالدروع وبالسّيوف، ككلّ من غاصت أقدامهم في الأوحال لكنهم يقارعون النّاس بأرنبات الأنوف... ولعلّك تدري أنّه أُرسِل إلى القبر في أبسط نزال، فلو كان يشحذ سيفه ويدرّب نفسه كما درّب لسانه المدّاح والهجّاء لوافقت ادعاءاتُه فِعالَه، ولكن الشعراء يقولون ما لا يفعلون، فأنصفَ الدّهرُ ضُبّهْ، وخُلِّدتْ مع أبي الطّيّب السُّبّهْ، والفروسيّة لا تُنال بأبيات حِسانٍ من الشّعر وإنّما بألفِ ضربةٍ وضربَهْ...
    هذا حال من أراد قبساً من السياسة والفروسيّة، أمّا إذا استهوتك فنون الكلام واستلبك المعنى واللفظ والأسلوب والتّمهّر في الكتابة نثراً وشعراً، فسَل أبا هلال العسكريّ يُجِبْكَ أن الكتابة صناعة كأيّة صناعة تحتاج المِران والجهد والعمل غير المنقطع حتّى تأتيك العبارات المشتهاة طيّعة منقادة، فكلّ كلام مرتّب سليمٍ وقع في النفس وفي العقل موقعاً حسناً، فبهر الإحساس وبثَّ الإيناس كما يُقال، فاعلم أنّ قوّةً عاملة وذاتاً عالمة قد سبقتاهُ إلى سمعك وبصرك، أمّا إذا اهتزّ اللفظ مكانه و تفكّك المعنى، وقيل في حَرِّ الصّيف ما يُقال في قَرّ الشّتاء، فاعلم أنّ سوء الصّناعة من فساد البضاعة وضعف المهارة و قلّة البراعة، والطّعنُ في المصنوع طعنٌ في عقل صاحبه؛ ولعلّه تناهى إلى سمعك قول عليّ بن الجهم _ والخبر موضوع رُبّما_ في مدح الخليفة المتوكّل :
    أَنتَ كَالكَلبِ في حِفاظِكَ لِلوُدْ // دِ وَكَالتَّيسِ في قِراعِ الخُطوبِ
    أَنتَ كَالدَلوِ لا عَدِمناكَ دَلواً // مِن كِبارِ الدِّلا كَثيرَ الذَّنوبِ
    فعلى براءة في هذا البدويّ المطبوع وفي كلامه الطّريف، كانت تُعوزه خبرة بمجالس الملوك بقدر ما ملك خبرة بمجالس الرُّعاة؛ فقِسْ على هذا وذاك في كافّة صنائع البشر. وأخيرا تذكّر أنّ كلّ إجادةٍ من العِباد لابدّ مسبوقة بكُلْفَة فاعلٍ ومعاناةِ صانِعٍ وخرطِ قتاد...

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,131
    المواضيع : 318
    الردود : 21131
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    مرور تحية وتصفيق لهذا السيل من الجمال
    رائع ما حملت حروفك من حس وصورة بلغة استمدت من الأصالة رقيها
    وفكرا غمرنا بالدهشة.
    تنسج من نول الحروف كلمات من نور لنقرأ أدبا رفيعا بلغة متمكنة، ومضامين رائعة.
    أبدعت سيدي أدبا ولغة وحبكة وفكرا ـ فما أروع حروفك المصبوغة بالألوان
    اللغوية الراقية لتشكل عقدا فريدا من أدب جميل فتنشر عطر المعاني.
    دمت بخير وألق وسعادة
    ودام هذا النبض المتجدد.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    شكرا لك أستاذتنا على طيب المرور والتوقيع...