ابن طباطبا العلوي وفن قول الشعر:
الشعر وأدواته
يقول ابن طباطبا الشعر كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطراب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه. وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصت عليه أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة.
فمنها: التوسع في علم اللغة، والبراعة في فهم الإعراب، والرواية لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم، ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على مذاهب العرب في تأسيس الشعر، والتصرف في معانيه، في كل فن قالته العرب فيه؛ وسلوك مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها، والسنن المستدلة منها، وتعريضها، وإطنابها وتقصيرها، وإطالتها وإيجازها، ولطفها وخلابتها، وعذوبة ألفاظها، وجزالة معانيها وحسن مبانيها، وحلاوة مقاطعها، وإيفاء كل معنى حظه من العبارة، وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة. وأجتناب ما يشينه من سفساف الكلام وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة، والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثة، حتى لا يكون متفاوتا مرقوعاً، بل يكون كالسبيكة المفرغة، والوشي المنمنم والعقد المنظم، واللباس الرائق، فتسابق معانيه ألفاظه، فيلتذ الفهم بحسن معانيه كالتذاذ السمع بمونق لفظه، وتكون قوافيه كالقوالب لمعانيه، وتكون قواعد للبناء يتركب عليها ويعلو فوقها، فيكون ما قبلها مسوقاً إليها، ولا تكون مسوقة إليه، فتقلق في مواضعها، ولا توافق ما يتصل بها، وتكون الألفاظ منقادة لما تراد له، غير مستكرهة، ولا متعبة، لطيفة الموالج، سهلة المخارج.
وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد، ولزوم العدل وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها.
فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق للشعر وترتيب لفنون القول فيه؛ بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظاماً لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته، يستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول، وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله، ويكون كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئاً منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين الرائق، ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها. وكذلك الشاعر إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة الصعبة القيادة، ويقف على مراتب القول، والوصف في فن بعد فن، ويتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجة وإبداع نظمه.
ويسلك منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في مكاتباتهم، فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، ومن وصف الرعود والبروق إلى وصف الرياض والرواد ومن وصف الظلمان والأعيار إلى وصف الخيل والأسلحة، ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصيد، ومن وصف الليل والنجوم إلى وصف الموارد والمياه والهواجر والآل، والحرابي والجنادب. ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الإباء والاعتياض إلى الإجابة والتسمح، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله، بل يكون متصلا به وممنزجاً معه، فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق القول بأبسر وصف وأخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره.
والشعر على تحصيل جنسه ومعرفة أسمه، متشابه الجملة، متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم، وحظوظهم وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في الحسن على تساويها في الجنس؛ ومواقعها من اختيار الناس إياها كمواقع الصور الحسنة عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها. ولكل اختيار يؤثره، وهوى يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا يؤثر سواها.
وقد جمعنا ما اخترناه من أشعار الشعراء في كتاب سميناه تهذيب الطبع يرتاض من تعاطى قول الشعر بالنظر فيه، ويسلك المنهاج الذي سلكه الشعراء، ويتناول المعاني اللطيفة كتناولهم إياها، فيحتذي على تلك الأمثلة في الفنون التي طرقوا أقوالهم فيها. واقتصرنا على ما أخترناه من غير نفي لما تركناه، بل لاستحسان له خصصناه به دون ما سواه، وقد شذ عنا الكثير مما وجب اختياره وإيثاره، وإذا استنفدناه ألحقناه بما اخترناه إن شاء الله تعالى.

ابن طباطبا العلوي و صناعة الشعر
ينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسي السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت، فلا يباعد كلمة من أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله؟، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة والناقلين له فيسمعون على جهة ويؤدونه على غيرها سهواً، ولايتذكرون حقيقة ما سمعوه منه، كقول أمرئ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
هكذا الرواية وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروي:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم وأتبطن كاعباً ذات خلخال
وكقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحاً
كتاركة بيضها في العراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقال الفرزدق:
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب اذاعته رياح السمائم
كان يجب أن يكون بيت لابن هرمة مع بيت للفرزدق، وبيت للفرزدق مع بيت لابن هرمة فيقال:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم
ويقال:
وإنك إذا تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق العمائم
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً وإلا كان تشبيهاً بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها أبياتاً مختلفة المصاريع. كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم ارفد
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، كقول الأعشى:
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فيأف تنوفات وبهماء خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله.
وكقوله:
أغر أبيض يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول وإن كان كل واحد منهما قائما بنفسه. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاما يتسق به أوله مع آخره على ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض تأليفها، فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجا وحسنا وفصاحة، وجزالة ألفاظ، ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني خروجا لطيفا على ما شرطناه في أول الكتاب، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة إفراغا، كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقض في معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون ما بعدها متعلقا بها مفتقرا إليها. فإذا كان الشعر على هذا المثال سبق السامع إلى قوافيه قبل أن ينتهي إليها رواية، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه إصرارا يوجبه تأسيس الشعر كقول البحتري:
سليل البيض قبرها فأقاموا ... لظباها التأويل والتنزيلا
فيقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه: وإذا سالموا أعزوا ذليلا وكقوله:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة صب في نحول عظامي
صلي مغرما قد واتر الشوق دمعه ... سجاما على الخدين بعد سجام
فليس الذي حللته بمحلل.
يقتضي أن يكون تمامه: وليس الذي حرمته بحرام.
وأحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق المعنى الذي أريدت له ويكون شاهدها معها لا تحتاج إلى تفسير من غير ذاتها كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمت يا عمرو لو نبأك ... إذا نبها منك داه عضالا
إذا نبها ليث عريسة ... مقيتا، مفيدا نفوسا ومالا
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
فتأمل تنسيق هذا الكلام وحسنه. وقولها مقيتا ثم فسرت ذلك فقالت نفوسا ومالا، ووصفته نهارا بالشمس، وليلا بالهلال، فعلى هذا المثال يجب أن ينسق الكلام صدقا لا كذب فيه، وحقيقة لا مجاز معها فلسفيا كقول القائل:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا دار أيها هاج لي كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم الحب في قلبي؟
القوافي
وسألت أسعدك الله عن حدود القوافي، وعلى كم وجه تتصرف قوافي الشعر؟ قوافي الشعر كلها تنقسم على سبعة أقسام: أما أن تكون على فاعل مثل كاتب وحاسب وضارب، أو على فعال مثل كتاب وحساب وجواب، أو على مفعل مثل مكتب ومضرب ومركب، أو على فعيل مثل حبيب وكئيب وطبيب. أو على فعل مثل ذهب، وحسب وطرب، أو على فعل مثل ضرب، وقلب، وقطب. أو على فعيل مثل كليب، ونصيب وعذيب. على هذا حتى تأتي على الحروف الثمانية والعشرين، فمنها ما يطلق ومنها ما يقيد ثم يضاف كل بناء منها إلى هائها المذكر أو المئنث، فيقول كاتبه أو كاتبها، أو كتابها، أو مركبة، أو مركبها، أو حبيبه، أو حبيبها، أو ذهبه أو ذهبها أو ضربه أو ضربها، أو كليبه أو كليبها، ويتفق هذا في الرجز. فهذه حدود القوافي التي لم يذكرها أحد ممن تقدم، فأدرها على جميع الحروف واختر من بيتها أعذبها وأشكلها للمعنى الذي تروم بناء الشعر عليه إن شاء الله.