الوصلوالفصل من علوم البلاغة يقولالخطيب القزويني عن الوصل والفصل هو عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه وتمييزموضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر صعب المسلكدقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العربطبعا سليما ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ولهذا قصر بعض علماء البلاغة علىمعرفة الفصل من الوصل وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك إنما حاول بذلك التنبيه علىمزيد غموضه وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقهعلى أبلغ وجه في البيان فنقول والله المستعان إذا أتت جملة بعد جملة فالأولى منهاإما أن يكون لها محل من الإعراب أو لا وعلى الأول إن قصد التشريك بينها وبينالثانية في حكم الإعراب عطفت عليها وهذا كعطف المفرد على المفرد لأن الجملة لايكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد فكما يشترط في كون العطفبالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة كمافي قوله تعالى ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرجفيها ) يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك كقولك زيد يكتبويشعر أو يعطي ويمنع وعليه قوله تعالى ( والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) ولهذاعيب على أبي تمام قوله
( لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم )
إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر وإن لميقصد ذلك ترك عطفها عليها كقوله تعالى ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكمإنما نحن مستهزئون الله يستهزىء بهم ) لم يعطف الله يستهزىء بهم على إنا معكم لأنهلو عطف عليه لكان من مقول المنافقين وليس منه وكذا قوله تعالى ( وإذا قيل لهم لاتفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ) وكذا قوله ( وإذاقيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاءولكن لا يعلمون ) وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعضحروف العطف سوى الواو عطفت عليها بذلك الحرف فتقول دخل زيد فخرج عمرو إذا أردت أنتخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة وتقول خرجت ثم خرج زيد إذا أردت أنتخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة وتقول يعطيك زيد دينارا أو يكسوك جبة إذاأردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه وعليه قوله تعالى ( سننظر أصدقت أم كنتمن الكاذبين ) وإن لم يقصد ذلك فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية تعينالفصل كقوله تعالى ( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئونالله يستهزىء بهم ) لم يعطف الله يستهزىء بهم على قالوا لئلا يشاركه في الاختصاصبالظرف المقدم وهو قوله ( وإذا خلوا إلى شياطينهم ) فإن استهزاء الله تعالى بهموهو إن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون متصل لاينقطع بكل حال خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليهم وكذلك في الآيتين الأخيرتينفإنهم مفسدون في جميع الأحيان قيل لهم لا تفسدوا أولا وسفهاء في جميع الأوقات قيللهم آمنوا أولا وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاعوليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي أو كمال الاتصال أو كانت الثانيةبمنزلة المنقطعة عن الأولى أو بمنزلة المتصلة بها فكذلك يتعين الفصل أما في الصورةالأولى فلأن الواو للجمع والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر أما فيالثانية فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أن العطف يقتضي المغايرةبين المعطوف والمعطوف عليه وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر وأما كمالالانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه الأول أن تختلف الجملتان خبراوإنشاء لفظا ومعنى كقولهم لا تدن من الأسد يأكلك وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرةبالرفع فيهما
وقول الشاعر
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... فكل حتف امرىء يجري بمقدار )
أو معنى لا لفظا كقولك مات فلان رحمه الله وأما قول اليزيدي
( ملكته حبلي ولكنه ... ألقاه من زهد على غاربي )
( وقال إني في الهوى كاذب ... انتقم الله من الكاذب )
فعده السكاكي رحمه الله من هذا الضرب وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله علىالاستئناف بتقدير قلت الثاني أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي
وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة
الأول أن تكون الثانية مؤكدة للأولى والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهوقسمان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادةالتقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى ( آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) فإنوزان لا ريب فيه في الآونة وزان نفسه في قولك جاءني الخليفة نفسه فإنه لما بولغ فيوصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال بجعل المبتدإ ذلك وتعريف الخبر باللامكان عند السامع قبل أن يتأمله مظنة أنه مما يرمي به جزافا من غير تحقق فأتبع لاريب فيه نفيا لذلك إتباع الخليفة نفسه إزالة لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولكجاءني الخليفة متجوز أو ساه وكذا قوله ( كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ) الثانيمقرر لما أفاده الأول وكذا قوله ( إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) لأن قوله إنا معكممعناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع له منهم لأنالمستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع له لكونه غير معتد به ودفع نقيض الشيءتأكيد لثباته ويحتمل الاستئناف أي فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد
وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحادالمعنى كقوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) فإن هدى للمتقين معناهأنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى قوله ذلكالكتاب لأن معناه كما مر الكتاب الكامل والمراد بكماله كماله في الهداية لأن الكتبالسماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى ( سواء عليهم أأنذرتهم أملم تنذرهم لا يؤمنون ) فإن معنى قوله لا يؤمنون معنى ما قبله وكذا ما بعده تأكيدثان لأن عدم التفاوت بين الإنذار وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليهحق وسمع تدرك به حجة وبصر تثبت به عبرة ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا لإن فالجملةقبلها اعتراض
الثاني أن تكون الثانية بدلا من الأولى والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافيةبتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا فينفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا وهو ضربان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولىمنزلة بدل البعض من متبوعه كقوله تعالى ( أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنينوجنات وعيون ) فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين وقوله أمدكمبأنعام وبنين وجنات وعيون أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غيرإحالة على علمهم مع كونهم معاندين والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمدادبما يعلمون ويحتمل الاستئناف وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدلالاشتمال من متبوعه كقوله تعالى ( اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهممهتدون ) فإن المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل وقوله تعالى ( اتبعوا من لايسألكم أجرا وهم مهتدون ) أوفى بتأدية ذلك لأن معناه لا تخسرون معهم شيئا مندنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة وقول الشاعر
(أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما )
فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سره العلن وقوله لا تقيمنعندنا أوفى بتأديته لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد بخلاف ارحل ووزان الثانيةمن كل واحد من الآية والبيت وزان حسنها في قولك أعجبتني الدار حسنها لأن معناهامغاير لمعنى ما قبلها وغير داخل فيه مع ما بينهما من الملابسة
الثالث أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان منمتبوعه في إفادة الإيضاح والمقتضى للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاءالمقام إزالته كقوله تعالى ( فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرةالخلد وملك لا يبلى ) فصل جملة قال عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا ووزانهوزان عمر في قوله
( أقسم بالله أبو حفص عمر ... )
وأما قوله تعالى ( ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ) فيحتمل التبيين والتأكيد أماالتبيين فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر فإثبات الملكية لهتبيين لذلك الجنس وتعيين وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ولأنه إذاقيل في العرف لإنسان ما هذا بشرا حال تعظيم له وتعجب مما يشاهد منه من حسن خلق أوخلق كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية فإن قيل هلا نزلتم الثانية منزلة بدل الكل منمتبوعه في بعض الصورومنزلة النعت منمتبوعه في بعض قلنا لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعهوأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف التأكيد والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلابأنه يدل على بعض أحوال متبوعة لا عليه وعطف البيان بالعكس وهذه كلها اعتبارات لايتحقق شيء منها فيما نحن بصدده وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى فلكونعطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ويسمى الفصل لذلك قطعا مثال قول الشاعر
( وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم )
لم يعطف أراها على تظن لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على أبغي لقربه منه مع أنه ليسبمراد ويحتمل الاستئناف وقسم السكاكي القطع إلى قسمين أحدهما القطع للاحتياط وهوما لم يكن لمانع من العطف كما في هذا البيت والثاني القطع للوجوب وهو ما كان لمانعومثله بقوله تعالى ( الله يستهزىء بهم ) قال لأنه لو عطف لعطف إما على جملة قالواوإما على جملة إنا معكم وكلاهما لا يصح لما مر وكذا قوله ( ألا إنهم هم المفسدون )وقوله ( ألا إنهم هم السفهاء ) وفيه نظر لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثةمعطوفا على الجملة المصدرة بالظرف وهذا القسم لم يبين امتناعه وأما كونها بمنزلةالمتصلة بها فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى فتنزل منزلته فتفصل الثانية عنهاكما يفصل الجواب عن السؤال
وقال السكاكي فينزل ذلك منزلة الواقع ثم قال وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقعلا يصار إليه إلا لجهات لطيفة إما لتنبيه السامع على موقعه أو لإغنائه أن يسأل أولئلا يسمع منه شيء أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليلاللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك ويسمىالفصل لذلك استئنافا وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا والاستئناف ثلاثةأضرب لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقوله
( قال لي كيف أنت قلت عليل ... سهر دائم وحزن طويل )
أي ما بالك عليلا أو ما سبب علتك وكقوله
( وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ... معط حياتي لعز بعدما غرضا )
( جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرىء غرضا )